محاضرات في الإعتقادات (1)

اشارة

سرشناسه: حسيني ميلاني، علي ، ‫1326 -

عنوان قراردادي: محاضرات في الاعتقادات.فارسي. برگزيده

عنوان و نام پديدآور: نگاهي به حديث ثقلين / علي حسيني ميلاني؛ ترجمه و ويرايش هيئت تحريريه مركز حقايق اسلامي.

مشخصات نشر: قم: حقايق، 1388.

مشخصات ظاهري: 80ص.

فروست: سلسله پژوهش هاي اعتقادي؛ 10

شابك: ‫ 978-964-2501-95-3

وضعيت فهرست نويسي: فيپا

يادداشت: كتاب حاضر ترجمه بخش " حديث الثقلين " از كتاب " محاضرات في الاعتقادات " اثر علي الحسيني الميلاني است.

موضوع: شيعه اماميه -- عقايد

موضوع: احاديث خاص (ثقلين)

شناسه افزوده: مركز الحقائق الاسلاميه

رده بندي كنگره: ‫ BP211/5 ‫ /ح57م304217 ‫ ‫ 1388

رده بندي ديويي: ‫ 297/4172

شماره كتابشناسي ملي: 1812165

كلمة المركز … ص: 5

هذه هي الطبعة الرّابعة لكتاب (محاضرات في الإعتقادات) وهي محاضراتٌ ألقاها سيّدنا الفقيه المحقق آية اللَّه السيّد علي الحسيني الميلاني بمكتبته في ليالي شهر رمضان عام 1414 بطلبٍ من مركز الأبحاث العقائديّة. وتمتاز هذه الطّبعة بالتصحيح ومراجعة المصادر، وباللَّه التوفيق.

مركز الحقائق الاسلامية

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 7

كلمة المؤلّف … ص: 7

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين، من الأولين والآخرين.

لعلّ من خير الأعمال في ليالي شهر رمضان هو مذاكرة العلم، والأمور الاعتقادية والمسائل التي تتعلق بأصول الدين من أشرف المسائل العلميّة، ومسألة الإمامة من بين المسائل الاعتقاديّة من أشرفها.

ونسأل اللَّه التوفيق لأنْ نتمكّن من إلقاء بعض الأضواء علي بعض القضايا المتعلّقة بمسألة الإمامة، لنري ما يدّل عليه الكتاب والسنّة في هذه المسألة المهمّة العقائديّة الحسّاسة.

ولست أدّعي أنّي مستوعب لجميع ما يتعلّق بهذه المسألة، ولست أدّعي أنّي علي استعداد للإجابة علي كلّ سؤال يطرح حول هذه المسألة.

ولست من أهل الخطابة والبيان والقدرة علي تنضيد الكلمات والتلاعب بالألفاظ، كما يقال في هذه الأيّام.

سأحاول أنْ أبحث في هذه الليالي عن الإمامة بذكر عدّةٍ من أدلّة الامامية، وعمدة أدلّة غيرهم، ثم تحقيق الحال في جملةٍ من المباحث المتعلّقة بالإمامة،

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 8

وسأحاول أنْ أبسّط الألفاظ والمطالب بقدر الإمكان، حتّي لا يكون هناك تعقيد في البيان وصعوبة في استيعاب البحوث.

قد يحمل هذا الكلام منّي علي التواضع، ولكن هذا من باب حسن الظن.

مقدمات البحث … ص: 8

اشارة

قبل الشروع في البحوث، وقبل الدخول في المسائل الأساسيّة التي تقرّر أن نبحث عنها طبق المنهج المعلن عنه، لا بدّ من تقديم مقدمات، فنقول:

المقدمة الأولي : بحث المسائل علي أسس متقنة … ص: 8

في كلّ مسألةٍ لا بدّ وأن يكون البحث في تلك المسألة علي أُسس متقنة مدروسة، فتارةً يكون طرف البحث والخطاب شيعيّاً إماميّاً مثلك، فأنت تباحثه وتحتج عليه بما هو حجة في داخل المذهب، فلك حينئذٍ أنْ تستدلّ علي رأيك بروايةٍ في كتاب (الكافي) مثلًا.

وأمّا إذا لم يكن شيعيّاً اثني عشريّاً مثلك، فالأمر يختلف … لابدّ وأنْ يكون البحث بينكما ابتداء علي قضايا مشتركة وعلي أدلّة مشتركة.

الأدلّة المشتركة:

أوّلًا: القرآن الكريم.

ثانياً: العقل السليم.

ثالثاً: الروايات الواردة في السنّة المتفق عليها بين الطرفين، أو تحتجّ عليه من السنّة بما هو حجّة عنده وإنْ لم يكن حجّةً عندك، وليس لك أنْ تحتج عليه بكتاب (الكافي)، كما ليس له أنْ يحتج عليك بكتاب (البخاري).

إذن، لابدّ وأنْ تكون هناك نقطة وفاق واشتراك حتّي يتحاكم الطرفان إلي

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 9

تلك النقطة، من كتابٍ، أو سنّة مسلّمة بين الطرفين، أو قاعدة عقليّة قرّرها جميع العقلاء في بحوثهم.

أمّا إذا كان طرف الخطاب سنّيّاً، ولا يوافق علي كتاب (البخاري)، بل لا يري صحّة شي ء من الصحاح الستّة، فلابدّ حينئذٍ من إقامة الدليل له ممّا يراه حجّة، من الكتاب أو العقل، فإن أردنا أن نقيم الدليل عليه من السنّة، فلابدّ وأن نصحّح الرواية التي نحتجّ بها، لكي يلتزم بتلك الرواية؛ لأنّها إذا صحّت علي ضوء كلمات علماء الجرح والتعديل عندهم، فلابدّ و أن يلتزم بتلك الرواية.

قد يكون في هذا الزمان بعض الباحثين من لا يقول بصحّة روايات الصحيحين فضلًا عن الصحاح كلّها، وإنّما يطالب برواية صحيحة سنداً، سواء كانت في الصحيحين

أو في غير الصحيحين، فإثبات صحّة تلك الرواية لابدّ وأنْ يكون علي ضوء كلمات علماء الجرح والتعديل من أهل السنّة بالنسبة لرواتها حتّي تتمّ صحّة الرواية، ويمكنك الإستدلال بها.

فإنْ عاد وقال: ليست كلمات علماء الجرح والتعديل عندي بحجّة، هذا الشخص حينئذ لا يتكلّم معه ويترك؛ لأنّ المفروض أنّه لا يقبل بالصحيحين، ولا يقبل بالصحاح، ولا يقبل برواية فرض صحّتها علي ضوء كلمات علماء الجرح والتعديل من أئمّتهم، حينئذ لا مجال للتكلّم مع هكذا شخص أبداً.

لكن المشهور بين السنّة: أنّهم يرون صحّة أخبار الصحيحين، وإن كنّا أثبتنا في بعض بحوثنا أنّ هذا المشهور لا أصل له، لكن المشهور بينهم هذا.

وأيضاً: المشهور بينهم صحّة روايات الصحاح الستّة، وإنْ اختلفوا في تعيين تلك الصحاح بعض الاختلاف.

وإنّ المسانيد أيضاً كثير منها معتبر، (كمسند أحمد) مثلًا، وإنْ كان بعض كبارهم لا يرون التزام أحمد في مسنده بالصحة، لكنْ عندنا شواهد وأدلّة تنقل

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 10

بالأسانيد عن أحمد بن حنبل نفسه أنّه ملتزم في مسنده بالصحّة «1».

وهناك كتب أُخري أيضاً مشهورة.

ونحن في بحوثنا هذه، لا نعتمد إلّاعلي الصحاح والمسانيد والكتب المشهورة، بعد الاستدلال بالكتاب وبالعقل، فإذا وصلت النوبة إلي السنّة نستدلّ بالأحاديث المعروفة المشهورة الموجودة في الكتب المعتبرة المعتمدة، والروايات المتفق عليها بين الطائفتين.

فكما أشرنا من قبل، لابدّ وأن تكون الرواية متّفقاً عليها بين الطائفتين، أو بين الطرفين. هذا الاتفاق علي الرواية من نقاط الاشتراك، كالقرآن الكريم وكالعقل السليم.

المقدمة الثانية: الإستدلال بالكتاب والعقل والسنّة … ص: 10

اشارة

ثمّ الاستدلال كما أشرنا في خلال كلماتنا هذه، تارةً يكون بالكتاب، وتارةً يكون بالعقل وتارةً يكون بالسنّة.

أمّا الكتاب، فآياته المتعلّقة بمباحث الإمامة كثيرة، لكنّ المهمّ هو تعيين شأن نزول الآيات المستدلّ بها، وتعيين شأن نزولها إنمّا يكون عن طريق السنّة،

إذن يعود الأمر إلي السنّة.

وفي الاستدلال بالعقل أيضاً، هناك أحكام عقلية هي أحكام كليّة، وتطبيق تلك الكبريات علي الموارد لا يكون إلّابأدلة من خارج العقل، مثلًا يقول العقل بقبح تقدّم المفضول علي الفاضل، أمّا من هو المفضول ومن هو الفاضل ليقبح تقدّم المفضول علي الفاضل بحكم العقل؟ هذا يرجع إلي السنّة، إذن، رجعنا إلي

__________________________________________________

(1) أنظر: من مؤلّفاتنا: نفحات الأزهار في خلاصة عبقات الأنوار 2/ 27- 30، استخراج المرام من استقصاء الأفحام 3/ 269- 272.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 11

السنّة النبويّة والأحاديث المعتبرة.

والسنّة أيضاً قد أشرنا إلي قواعدنا في إمكان التمسّك بها، وإثبات مدّعانا و احتجاجنا علي ضوئها، فنحن لا نستدلّ علي أهل السنّة بكتبنا، كما لا يجوز لهم أن يستدلّوا بكتبهم علينا.

وقد نصّ علي هذا الذي ذكرته عدّة من أكابر علمائهم، كابن حزم الأندلسي في كتابه (الفصل)، فإنّه ينصّ علي هذا المعني ويصرّح بأنّه لا يجوز الاحتجاج للعامّة علي الإماميّة بروايات العامّة، يقول:

لا معني لاحتجاجنا عليهم برواياتنا، فهم لا يصدّقونها، ولا معني لاحتجاجهم علينا برواياتهم فنحن لا نصدّقها، وإنّما يجب أن يحتجّ الخصوم بعضهم علي بعض بما يصدّقه الذي تقام عليه الحجة به، سواء صدّقه المحتج أو لم يصدّقه، لأنّ من صدّق بشي ء لزمه القول به أو بما يوجبه العلم الضروري، فيصير حينئذٍ مكابراً منقطعاً إن ثبت علي ما كان عليه «1».

إنّ من الواضح أنّ الشيعي لا يري حجّية الصحيحين فضلًا عن غير هما، فلا يجوز للسنّي أنْ يحتج بهما عليه، كما لا يجوز للشيعي أن يستدلّ علي السنّي بكتاب شيعي؛ لأنّ السنّي لا يري اعتبار كتاب (الكافي) مثلًا.

فنحن إذن نستدلّ بروايات الصحاح، وبروايات المسانيد، وبالروايات المتفق عليها بين الطرفين، ولربّما نحتاج إلي تصحيح سند

بخصوصه علي ضوء كتب علمائهم وأقوال كبارهم في الجرح والتعديل، ليتمّ الاحتجاج، ولا يكون حينئذٍ مناص من التسليم، أو يكون هناك تعصّب وعناد، ولا بحث لنا مع المعاند والمتعصّب.

__________________________________________________

(1) الفصل في الأهواء والملل والنحل 4/ 12.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 12

بعض التقسيمات في الاستدلال بالسنّة … ص: 12

وعندما يعود الأمر إلي الاستدلال بالسنّة، فالروايات المتعلّقة ببحث الإمامة تنقسم إلي أقسام، نذكر أوّلًا انقسامها إلي قسمين أساسيّين رئيسيّين:

القسم الأوّل: الروايات الشارحة للآيات، والمبيّنة لشأن نزولها، فكما قلنا من قبل، فإنّ الإستدلال بالقرآن لا يتّم إلّابالسنّة، إذ ليس في القرآن اسم لأحدٍ، فهناك آيات يستدلّ بها في مباحث الإمامة، لكن ماورد معتبراً في السنّة في تفسير تلك الآيات وسبب نزولها، هو المتمّم للإستدلال بالقرآن الكريم.

القسم الثاني: الروايات المستدلّ بها علي الإمامة والولاية والخلافة بعد رسول اللَّه، وليس بها أيّة علاقة بالآيات.

ثمّ الروايات من القسم الثاني تنقسم إلي ثلاثة أقسام:

القسم الأوّل: ما يدلّ علي الإمامة بالنصّ.

القسم الثاني: ما يدلّ علي الإمامة عن طريق إثبات الأفضليّة، هذه الآفضليّة التي هي الصغري بإصطلاحنا لكبري قاعدة قبح تقدمّ المفضول علي الفاضل.

القسم الثالث: الروايات الدالّة علي العصمة، واشتراط العصمة واعتبارها في الإمام أيضاً حكم عقلي، وفي مورده أيضاً أدلّة من الكتاب والسنّة.

المقدمة الثالثة: أهمية البحث عن الإمامة … ص: 12

والبحث عن الإمامة بحث في غاية الحساسيّة والأهميّة؛ لأنّنا نري وجوب معرفة الإمام، وعندما نبحث عن تعيين الإمام بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، نريد أن نعرف الحقّ في هذه المسألة الخلافية، ثمّ لنتّخذه قدوةً واسوة، لنقتدي به في جميع شؤوننا، وفي جميع أدوار حياتنا.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 13

إنّنا نريد إن نعرفه ولنجعله واسطة بيننا وبين ربّنا، بحيث لو سئلت في يوم القيامة عن الإمام، أو سئلت في يوم القيامة لماذا فعلت كذا؟ لماذا تركت كذا؟

أحتجّ بما بلغني عنه وأقول: قال إمامي؛ إفعل كذا، قال إمامي؛ لا تفعل كذا، فحينئذ ينقطع السؤال.

عندما نريد البحث عن الإمام لهذه الغاية، فبالحقيقة يكون البحث عن الإمام والإمامة بحثاً عن الواسطة والوساطة بين الخالق والمخلوق، نريد أنْ نجعله واسطة

بيننا وبين ربّنا، نريد أن نحتجّ بما وصلنا وبلغنا من أقواله وأفعاله في يوم القيامة علي اللَّه سبحانه وتعالي ، أو نعتذر أمامه في كلّ فعل أو تركٍ صدر منّا وسألنا عنه، فنعتذر بأنّه قول إمامنا أو فعل إمامنا، وهكذا بلغنا ووصلنا عنه، هذا هو- في الحقيقة- لبّ البحث عن الإمامة.

إذن، يظهر أنّ البحث عن الإمامة بحث مهمّ جدّاً؛ لأنّ الإمام حينئذ يكون كالنبي صلّي اللَّه عليه وآله واسطةً بيننا وبين ربّنا عند فقد النبي صلّي اللَّه عليه وآله.

أمّا أن يكون الإمام حاكماً بالفعل أو لا يكون، أنْ يكون مبسوط اليد أو لا، أن يكون مسموع الكلمة أو لا، أن يكون في السجن أو يكون غائباً عن الأنظار، أو أن يقتل، وإلي غير ذلك، هذه الأُمور كلّها أُمور أُخري تتفرّع علي بحث الإمامة، ليس البحث عن الإمامة بحثاً عن الحكومة بل الحكومة من شؤون الإمام ووظائفه، فقد تتهيّأ له الفرصة فيقوم بدوره في هذا الشأن، وقد يمنع وتحرم الامّة من بركاته في ذلك البُعد.

وكثيراً ما يختلط الأمر علي الباحثين ويظنّون أنّ الإمامة هي الحكومة، وكثيراً ما نراهم يعترضون علي مذهبنا بعدم التمكّن من الحكومة والسيطرة والسّلطة علي الناس، وإلي غير ذلك، وهذه الأُمور خارجة الآن عمّا نحن بصدده.

إذن، لابدّ من البحث عن الإمام بعد النبي؛ لأنّا نريد أن نعرف الحق ونعرف

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 14

الواسطة بيننا وبين ربّنا.

أمّا طريق معرفته، فهذا الطريق أيضاً يجب أنْ يكون تعيّنه من قبل اللَّه سبحانه وتعالي ، لأنّه لو رجع وطالبنا في يوم القيامة وقال: من أيّ طريق عرفت هذا الإمام؟ فلو ذكرت له طريقاً لا يرتضيه، لقال: هذا الإمام ليس بحق، ومن قال لك هذا الطريق موصل إلي معرفة

الإمام الواسطة بينك وبيني؛ ليكون عمله وقوله حجة في يوم القيامة؟

إذن، نفس الطريق أيضاً، لابدّ وأن ينتهي إلي اللَّه سبحانه وتعالي ، أي إلي الكتاب والسنّة والعقل السليم كما أشرنا من قبل.

ومن هنا، فقد اخترنا آيات من القرآن الكريم، وأحاديث من السنّة النبويّة، لكي نستدلّ بها علي إمامة علي عليه السّلام، ورجعنا إلي العقل في المسألة لنعرف حكمه فيها.

دوران البحث بين علي عليه السّلام وأبي بكر … ص: 14

والبحث يدور بين علي عليه السّلام وأبي بكر، أمّا خلافة عمر وعثمان فيتفرّعان علي خلافة أبي بكر.

إذن، يدور الأمر بين علي عليه السّلام وأبي بكر.

قالت الإماميّة: بأنّ عليّاً عليه السّلام هو الخليفة، وهو الإمام الحق بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بلا فصل.

وقال أهل السنة: الخليفة بعد رسول اللَّه هو أبو بكر بن أبي قحافة.

استدلّت الإماميّة بآيات من القرآن الكريم، وبأحاديث، علي ضوء النقاط التهميديّة التي ذكرتها، وسترون أنّا سوف لا نخرج عن الإطار الذي ذكرناه قيد شعرة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 17

آية المباهلة … ص: 17

اشارة

قوله تعالي : «فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَي الْكاذِبينَ» «1».

هذه الآية تسمّي ب «آية المباهلة».

المباهلة في اللغة: … ص: 17

والمباهلة: من البهل، والبهل في اللغه بمعني تخلية الشي ء وتركه غير مراعي ، هذه عبارة الراغب في كتاب [المفردات ] «2».

وعندما تراجعون [القاموس ] «3» و [تاج العروس ] «4» وغيرهما من الكتب اللغوية «5» ترونهم يقولون في معني البهل أنّه اللعن.

لكنّي رأيت عبارة الراغب أدق، فالبهل: هو ترك الشي ء غير مراعي، كأنْ تترك

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران (3): 61.

(2) مفردات ألفاظ القرآن: 149 «بهل».

(3) القاموس المحيط 3/ 339 «بهل».

(4) تاج العروس 7/ 238 «بهل».

(5) الصحاح 4/ 1642 «بهل»، لسان العرب 11/ 72 «بهل».

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 18

الحيوان مثلًا من غير أن تربطه بمكان، فتتركه غير مراعي، وتخلّيه وحاله وطبعه.

وهذا المعني موجود في رواياتنا بعبارة: «وكله اللَّه إلي نفسه»، فمن فعل كذا أوكله اللَّه إلي نفسه.

وهذا المعني دقيق جدّاً.

تتذكّرون في أدعيتكم تقولون: «ولا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً» «1» وأنّه لمعني جليل وعميق جدّاً؛ لو أنّ الإنسان تُرِك من قبل اللَّه سبحانه وتعالي لحظة، وانقطع ارتباطه باللَّه سبحانه وتعالي ، وانقطع فيض الباري بالنسبة إليه آناً من الآنات، لانعدم هذا الإنسان وهلك.

ولو أردنا تشبيه هذا المعني بأمر مادّي خارجي، نذكر الضياءالمنبعث من المصباح المتّصل بالمركز المولّد، فلو انقطع الاتصال آناً مّا لم تجد هناك ضياءً ولا نوراً من هذا المصباح.

هذا معني إيكال الإنسان إلي نفسه، لذلك نقول: «لا تكلني إلي نفسي طرفة عين أبداً».

هناك كلمة لأمير المؤمنين عليه السّلام في [نهج البلاغة] يقول فيها:

«إنّ أبغض الخلائق إلي اللَّه رجلان، رجل وكله اللَّه إلي نفسه فهو جائر

عن قصد السبيل، مشغوف بكلام بدعة ودعاء ضلالة، فهو فتنة لمن افتتن به، ضالُّ عن هدي من كان قبله، مضلُّ لمن اقتدي به في حياته وبعد وفاته، حمّالٌ لخطايا غيره، رهنٌ بخطيئته» «2».

فالمباهلة: أن يدعو الإنسان ويطلب من اللَّه سبحانه وتعالي أن يترك شخصاً بحاله، وأنْ يوكله إلي نفسه، وعلي ضوء كلام أمير المؤمنين أن يطلب من اللَّه

__________________________________________________

(1) مصباح المتهجّد: 60 و 65 و 210 وغيرها.

(2) نهج البلاغة: 59، الخطبة رقم 17.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 19

سبحانه وتعالي أن يكون هذا الشخص أبغض الخلائق إليه، وأيّ لعن فوق هذا؟

وأيّ دعاء علي أحد أكثر من هذا؟

لذا عندما نرجع إلي معني كلمة اللعن في اللغة نراها بمعني الطرد، الطرد بسخط، والحرمان من الرحمة، فعندما تلعن شخصاً- أي تطلب من اللَّه سبحانه وتعالي أن لا يرحمه- تطلب من اللَّه أن يكون أبغض الخلائق إليه، فالمعني في [القاموس ] وشرحه أيضاً صحيح، إلّاأنّ ما جاء في [مفردات ] الراغب أدق، فهذا معني المباهلة.

إذن، عرفنا لماذا أُمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بالمباهلة، ثمّ عرفنا في هذا المقدار من الكلام أنّه لماذا عَدَل القوم عن المباهلة، لماذا تراجعوا، مع أنّهم قرّروا ووافقوا عليها وحضروا من أجلها، إلّاأنّهم لمّا رأوا رسول اللَّه ورأوا أهل بيته خارجين معه، قال أُسقفهم: «إنّي لأري وجوهاً لو طلبوا من اللَّه سبحانه وتعالي أن يزيل جبلًا من مكانه لأزاله» «1».

فلماذا جاء رسول اللَّه بمن جاء؟ لانريد الآن أن نعيّن من جاء مع رسول اللَّه لكن يبقي هذا السؤال: لماذا جاء رسول اللَّه بمن جاء دون غيرهم؟

__________________________________________________

(1) تفسير البغوي (معالم التنزيل في التفسير والتأويل) 1/ 481، الكشّاف في تفسير القرآن 1/ 434، تفسير الخازن 1/ 254.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1،

ص: 21

تعيين من خرج مع الرسول صلّي اللَّه عليه وآله في المباهلة … ص: 21

إنّه- كما أشرنا من قبل- ليس في القرآن الكريم اسم لأحد، ولا نجد اسم علي عليه السّلام، ولا نجد اسم غيره في هذه الآية المباركة.

إذن، لابدّ أن نرجع إلي السنّة كما ذكرنا، ولكن إلي أيّ سنّة نرجع؟ نرجع إلي السنّة المقبولة والمتّفق عليها عند الفريقين.

ومن حسن الحظ، قضيّة المباهلة موجودة في الصحاح والمسانيد والتفاسير المعتبرة.

إذن، أيّ مخاصم ومناظر وباحث يمكنه التخلّي عن هذا المطلب وإنكار هذه الحقيقة؟

وتوضيح ذلك: إنّا إذا رجعنا إلي السنّة، فلابدّ وأن يتمّ البحث والتحقيق عن جهتين، وإلّا لا يتمّ الإستدلال بأيّ رواية من الروايات:

الجهة الأُولي : جهة السند، لابدّ وأن تكون الرواية معتبرة ومقبولة عند الطرفين، ولابدّ وأن يكون الطرفان ملزمين بقبول تلك الرواية، هذا ما يتعلّق بالسند.

الجهة الثانية: جهة الدلالة، فلابدّ وأن تكون الرواية واضحة الدلالة علي المدّعي .

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 22

إلي الآن فهمنا أنّ الآية المباركة وردت في المباهلة مع النصاري ، نصاري نجران، ونجران منطقة بين مكّة واليمن علي ما في بعض الكتب اللغوية، أو بعض المعاجم المختصة بالبلدان «1».

وإذا رجعنا إلي السنّة في تفسير هذه الآية المباركة، وفي شأن من نزلت ومن خرج مع الرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، نري مسلماً والترمذي والنسائي وغيرهم من أرباب الصحاح «2»، يروون الخبر بأسانيد معتبرة، فمضافاً إلي كونها في الصحاح، هي أسانيد معتبرة أيضاً، يعني حتّي لو لم تكن في الصحاح بهذه الأسانيد، هي معتبرة قطعاً:

خرج رسول اللَّه عليه وآله السلام ومعه علي وفاطمة والحسن والحسين، وليس معه أحد غير هؤلاء.

فالسند معتبر، والخبر موجود في الصحاح، وفي مسند أحمد، وفي التفاسير إلي ما شاءاللَّه، من الطبري وغيره، ولا أعتقد أنّ أحداً يناقش في سند هذا الحديث بعد وجوده في

مثل هذه الكتب.

نعم، وجدت حديثاً في [السيرة الحلبيّة] بلا سند، يضيف عمر بن الخطّاب وعائشة وحفصة، وأنّهما خرجتا مع رسول اللَّه للمباهلة «3».

__________________________________________________

(1) معجم البلدان 5/ 266 «نجران».

(2) راجع: صحيح مسلم 7/ 120، مسند الامام أحمد بن حنبل 1/ 185، صحيح الترمذي 5/ 596، خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام: 48- 49، المستدرك علي الصحيحين 3/ 150، فتح الباري في شرح صحيح البخاري 7/ 60، المرقاة في شرح المشكاة 5/ 589، أحكام القرآن للجصّاص 2/ 16، تفسير الطبري (جامع البيان) 3/ 212، تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) 1/ 319، الدرّ المنثور في التفسير بالمأثور 2/ 38، تفسير الرازي (التفسير الكبير) 8/ 80 الكامل في التاريخ 2/ 293، أسد الغابة في معرفة الصحابة 4/ 26، وغيرها من كتب التفسير والحديث والتاريخ.

(3) إنسان العيون في سيرة الأمين والمأمون (السيرة الحلبيّة) 3/ 212.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 23

ووجدت في كتاب [تاريخ المدينة المنوّرة] لابن شبّة «1» أنّه كان مع هؤلاء ناس من الصحابة، ولا يقول أكثر من هذا.

ووجدت رواية في ترجمة عثمان بن عفّان من [تاريخ ابن عساكر] «2» أنّ رسول اللَّه خرج ومعه علي وفاطمة والحسنان وأبو بكر وولده وعمر وولده وعثمان وولده.

فهذه روايات في مقابل ما ورد في الصحاح ومسند أحمد وغيرها من الكتب المشهورة المعتبرة.

لكن هذه الروايات في الحقيقة:

أوّلًا: روايات آحاد.

ثانياً: روايات متضاربة فيما بينها.

ثالثاً: روايات انفرد رواتها بها، وليست من الروايات المتفق عليها.

رابعاً: روايات تعارضها روايات الصحاح.

خامساً: روايات ليس لها أسانيد، أو أنّ أسانيدها ضعيفة، علي ما حقّقت في بحثي عن هذا الموضوع.

إذن، تبقي القضيّة علي ما في صحيح مسلم، وفي غيره من الصحاح، وفي مسند أحمد، وغيره من المسانيد، وفي

تفسير الطبري والزمخشري والرازي، وفي تفسير ابن كثير، وغيرها من التفاسير، وكلّهم اتّفقوا علي أنه لم يكن مع رسول اللَّه إلّا علي وفاطمة والحسنان.

__________________________________________________

(1)

تاريخ المدينة المنورة 1/ 582.

(2) تاريخ مدينة دمشق- ترجمة عثمان 39/ 177.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 25

دلالة آية المباهلة علي إمامة علي عليه السّلام … ص: 25

أمّا وجه الدلالة في هذه الآية المباركة، بعد بيان شأن نزولها وتعيين من كان مع النبي صلّي اللَّه عليه وآله في تلك الواقعة، وأنه أين وجه دلالة هذه الآية علي إمامة علي عليه السّلام؟ وكيف تستدلّون- أيّها الإماميّة- بهذه الآية المباركة علي إمامة علي عليه الصّلاة والسّلام؟

فيما يتعلّق بإمامة أمير المؤمنين عليه السّلام في هذه الآية، وفي الروايات الواردة في تفسيرها، يستدلّ علماؤنا بكلمة: «وَأَنْفُسَنا»، تبعاً لأئمّتنا عليهم أفضل الصّلاة والسّلام.

ولعلّ أوّل من استدلّ بهذه الآية المباركة هو أمير المؤمنين عليه السّلام نفسه، عندما احتجّ في الشوري علي الحاضرين بجملةٍ من فضائله ومناقبه، فكان من ذلك احتجاجه بآية المباهلة وهذه القصّة، وكلّهم أقرّوا بما قال أمير المؤمنين عليه السّلام، وصدّقوه في ما قال، وهذا الاحتجاج في الشوري مروي أيضاً من طرق السنّة أنفسهم «1».

وأيضاً، هناك في رواياتنا «2» أنّ المأمون العباسي سأل الإمام الرضا عليه

__________________________________________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 42/ 432.

(2) الفصول المختارة من العيون والمحاسن: 17- 18.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 26

السّلام قال: هل لك من دليل من القرآن الكريم علي إمامة علي، أو أفضليّة علي؟

تأمّلوا! السائل هو المأمون والمجيب هو الإمام الرضا عليه السّلام.

المأمون كما يذكرون في ترجمته كما في تاريخ الخلفاء للسيوطي «1» وغيره «2» أنّه كان من فضلاء الخلفاء، أو من علماء بني العباس من الخلفاء، وقد طلب من الإمام الثامن من أئمة أهل البيت أن يقيم له دليلًا من القرآن، ولعلّه

لأنّ السنّة قد يكون فيها بحث، في السند أو غير ذلك، لكن لا بحث سندي إذا كان الاستدلال بآيات القرآن المجيد.

فذكر له الإمام عليه السّلام آية المباهلة، واستدلّ بكلمة: «وَأَنْفُسَنا».

لأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله عندما أُمر أنْ يخرج معه نساءه، فأخرج فاطمة فقط، وأبناءه، فأخرج الحسن والحسين فقط، وأُمر بأن يخرج معه نفسه، ولم يُخرج إلّاعلياً؛ فعلي نفس رسول اللَّه بحسب الروايات الواردة بتفسير الآية، وقد ذكرنا أسماء عدّةٍ من مصادر تلك الروايات، نعم، ما كان لقوله تعالي «وَأَنْفُسَنا» مصداق غير علي، إذْ لم يخرج رسول اللَّه إلّاعليّاً، فكان علي نفس رسول اللَّه، إلّا أن كون علي نفس رسول اللَّه بالمعني الحقيقي غير ممكن، فيكون المعني المجازي هو المراد، وأقرب المجازات إلي الحقيقة يؤخذ في مثل هذه الموارد، كما تقرّر في كتبنا العلميّة «3»، وأقرب المجازات إلي المعني الحقيقي في مثل هذا المورد هو أن يكون علي عليه السّلام مساوياً لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

__________________________________________________

(1)

تاريخ الخلفاء: 246.

(2) البدء والتاريخ 6/ 12.

(3) أنظر: هداية المسترشدين: 70.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 27

ولكن هل المقصود المساواة مع رسول اللَّه في جميع الجهات وفي جميع النواحي حتّي النبوّة؟ لا. فتخرج النبوّة بالإجماع علي أنّه لا نبي بعد رسول اللَّه، وتبقي بقيّة مزايا رسول اللَّه وخصوصياته وكمالاته موجودةً في علي، بمقتضي هذه الآية المباركة.

ومن خصوصيّات رسول اللَّه: العصمة، فآية المباهلة تدلّ علي عصمة علي بن أبي طالب قطعاً.

من خصوصيّات رسول اللَّه: أنّه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فعلي أولي بالمؤمنين من أنفسهم كرسول اللَّه قطعاً.

من خصوصيّات رسول اللَّه: أنّه أفضل جميع الخلائق، أفضل البشر والبشريّة، منذ أن خلق اللَّه سبحانه وتعالي العالم وخلق الخلائق كلّها، فكان أشرفهم رسول اللَّه

محمّد بن عبداللَّه. فعلي كذلك.

وسنبحث إن شاء اللَّه في ليلة من الليالي عن مسألة تفضيل الأئمة علي الأنبياء، وسترون أنّ هذه الآية المباركة- وهناك أدلّة أُخري أيضاً- تدلُّ علي أنّ عليّاً أفضل من جميع الأنبياء، سوي نبيّنا صلّي اللَّه عليه وآله.

فحينئذٍ، حصل عندنا تفسير الآية المباركة علي ضوء الأحاديث المعتبرة، حصل عندنا صغري الحكم العقلي بقبح تقدّم المفضول علي الفاضل، بحكم هذه الأحاديث المعتبرة.

وناهيك بقضيّة الأولويّة، رسول اللَّه أولي بالمؤمنين من أنفسهم، وعلي أولي بالمؤمنين من أنفسهم.

وفي جميع بحوثنا هذه، وإلي آخر ليلة، سترون أنّ الأحاديث كلّها وإن اختلفت ألفاظها، واختلفت أسانيدها، واختلفت مداليلها، لكنها كلّها تصبّ في مصبّ واحد، وهو أولويّة علي، وهو إمامة علي، وهو خلافة علي بعد رسول اللَّه بلا فصل.

لابدّ وأنّكم تتذكّرون حديث الغدير: «ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 28

قالوا بلي ، قال: فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه».

نفس المعني الذي قاله وقصده في حديث الغدير، هو المفهوم الذي تجدونه في آية المباهلة، وبالنظر إلي ما ذكرنا من المقدمات والممهّدات، التي كلّ واحد منها أمر قطعي أساسي لايمكن الخدشة في شي ء ممّا ذكرت.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 29

مع ابن تيمية في آية المباهلة … ص: 29

يعترف ابن تيمية بعدم خروج أحد مع رسول اللَّه غير علي والزهراء والحسنين، واعتراف ابن تيميّة في هذه الأيام وفي أوساطنا العلميّة وفي بحوثنا المقارنة ذو أثر كبير، لأنّ كثيراً من الخصوم يرون ابن تيميّة «شيخ الإسلام»، إلّاأنّ بعض كبارهم قال: من قال بأنّ ابن تيميّة شيخ الإسلام فهو كافر «1»!!

المهم، إنّ ابن تيميّة أيضاً يعترف بعدم خروج أحد مع رسول اللَّه في قضية المباهلة غير هؤلاء الأربعة، وراجعوا كتابه [منهاج السنّة].

ولو أنّ مدّعياً يدّعي أو متعصّباً أو جاهلًا يقول

كما قال ابن تيميّة في [منهاج السنّة] «2»: بأنّ عادة العرب في المباهلة أنّهم كانوا يخرجون أقرب الناس إليهم نسباً وإنْ لم يكن ذا فضيلة، وإن لم يكن ذا تقوي ، وإنْ لم يكن ذا منزلة خاصة أو مرتبة عند اللَّه سبحانه وتعالي ، يقول هكذا.

لكنّه يعترض علي نفسه ويقول: إنْ كان كذلك، فلِمَ لم يخرج العباس عمّه معه؟ والعباس في كلمات بعضهم- ولربّما نتعرّض لبعض تلك الكلمات في حديث الغدير- أقرب إلي رسول اللَّه من علي، فحينئذ لِمَ لمْ يخرج معه؟

__________________________________________________

(1) هو العلاء البخاري، أنظر: كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون 1/ 220 و 838.

(2) منهاج السنّة النبويّة 7/ 122- 130.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 30

يقول في الجواب: صحيحٌ، لكن لم يكن للعباس تلك الصلاحية والقابليّة واللياقة لأن يحضر مثل هذه القضية، فلذا يكون لعلي في هذه القضية نوع فضيلة هذا بتعبيري أنا، لكن راجعوا نصّ عبارته فالنقل كان بالمعني .

فهو بهذا المقدار يعترف، ونغتنم من مثل ابن تيميّة أن يعترف بفضيلةٍ لعلي في هذه القضيّة.

ولو أنّك راجعت الفضل ابن روزبهان الخنجي، ذلك الذي ردّ بزعمه علي كتاب العلّا مة الحلّي رحمه اللَّه بكتابٍ أسماه [إبطال الباطل ]، لرأيته في هذا الموضع أيضاً يعترف بثبوت فضيلة لعلي لايشاركها فيها أحد «1».

نعم، يقول ابن تيميّة: لم تكن الفضيلة هذه لعلي فقط، وإنّما كانت لفاطمة والحسنين أيضاً، إذن، لم تختصّ هذه الفضيلة بعلي.

وهذا كلام مضحك جدّاً، وهل الحسنان وفاطمة يدّعون التقدّم علي علي؟

وهل كان البحث في تفضيل علي علي فاطمة والحسنين، أو كان البحث في تفضيل علي علي أبي بكر؟ أو كان البحث في قبح تقدم المفضول علي الفاضل بحكم العقل؟

والعجب أنّ ابن تيميّة يعترف في أكثر من موضع من

كتابه [منهاج السنّة] «2» بقبح تقدّم المفضول علي الفاضل، يعترف بهذا المعني ويلتزم، ولذلك يناقش في فضائل أمير المؤمنين لئلّا تثبت أفضليّته من الآخرين.

ثمّ مضافاً إلي كلّ هذا، ترون في قضيّة المباهلة أنّ رسول اللَّه يقول لعلي

__________________________________________________

(1) أنظر: إحقاق الحق 3/ 62.

(2) منهاج السنة 6/ 475 و 7/ 95.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 31

وفاطمة والحسنين: «إذا أنا دعوت فأمّنوا» «1»، أي فقولوا آمين، وأيّ تأثير لقول هؤلاء للَّه سبحانه وتعالي - بعد دعاء رسول اللَّه علي النصاري - أن يقولوا آمين، أيّ تأثير لقول هؤلاء؟ ألم يكف دعاء رسول اللَّه علي النصاري حتّي يقول رسول اللَّه لفاطمة والحسنين وهما صغيران أن يقول لهم قولوا آمين؟

__________________________________________________

(1) تفسير الزمخشري 1/ 434، الخازن 1/ 254، وغيرهما.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 33

خاتمة المطاف … ص: 33

إذن، كان لعلي ولفاطمة وللحسنين سهم في تقدّم الإسلام، كان علي شريكاً لرسول اللَّه في رسالته.

وهذا معني «فَأَرْسِلْهُ مَعي رِدْءًا يُصَدِّقُني» «1»

، فهارون كان ردءاً يصدّق موسي في رسالته، وطلب رسول اللَّه من اللَّه أن يشرك عليّاً في أمره، كما أنّ هارون كان شريكاً لموسي في رسالته.

وهذا معني : «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه لا نبي بعدي»، وقد قلت من قبل: إنّ الأحاديث هذه كلّها تصب في مصبّ واحد، تري بعضها يصدّق بعضاً، تري الآية تصدّق الحديث، وتري الحديث يصدّق القرآن الكريم، وهكذا الأمر فيما يتعلّق بأهل البيت:

رسول اللَّه يجمع أهله تحت الكساء فتنزل الآية المباركة آية التطهير «2»، وفي يوم الغدير ينصب عليّاً ويعلن عن إمامته في ذلك الملأ فتنزل الآية المباركة: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ» «3».

__________________________________________________

(1)

سورة القصص (28): 34.

(2) «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا».

(3) سورة المائدة (5): 3.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص:

34

وأي ارتباط هذا بين أفعال رسول اللَّه والآيات القرآنيّة النازلة في تلك المواقف، ترون الارتباط الوثيق، يقول اللَّه سبحانه وتعالي : «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ» «1»

ويخرج رسول اللَّه بعلي وفاطمة والحسن والحسين فقط، وهذا هو الارتباط بين الوحي وبين أفعال رسول اللَّه وأقواله.

إذن، فالآية المباركة غاية ما دلّت عليه هو الأمر بالمباهلة، وقد عرفنا معني المباهلة، لكن الحديث دلّ علي خروج علي وفاطمة والحسن والحسين مع رسول اللَّه.

الآية المباركة ليس فيها إلّاكلمة: «أَنْفُسَنا» لكن الحديث فسّر تفسيراً عملياً هذه الكلمة من الآية المباركة، وأصبح علي نفس رسول اللَّه، لا بالمعني الحقيقي، بل كان كرسول اللَّه، فكان مساوياً لرسول اللَّه، ولهذا أيضاً شواهد أُخري من الحديث في مواضع كثيرة:

يقول رسول اللَّه مهدّداً إحدي القبائل: «لتنتهنّ أو لأرسل إليكم رجلًا كنفسي» «2».

وكذا ترون في قضيّة إبلاغ سورة البراءة، إنّه بعد عودة أبي بكر يقول: بأنّ اللَّه سبحانه وتعالي أوحي إليه بأنّه لا يبلّغ السورة إلّاهو أو رجل منه «3».

ويقول في فضيّةٍ: «علي منّي وأنا من علي وهو وليّكم من بعدي» «4»، وهو

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران (3): 61.

(2) المصنّف لابن أبي شيبة 7/ 506، سنن البيهقي (السنن الكبري) 5/ 127.

(3) تاريخ مدينة دمشق 42/ 348.

(4) مسند أبي يعلي 1/ 293، كنز العمّال 11/ 608، حديث 41 329، و 42 329.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 35

حديث آخر.

وهكذا أحاديث أُخري يصدّق بعضها بعضاً.

إلي هنا ينتهي البحث عن دلالة آية المباهلة علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، وإنْ شئتم المزيد فهناك كتب أصحابنا من [الشافي ] للسيد المرتضي ، و [تلخيص الشافي ]، للشيخ الطوسي، وكتاب [الصراط المستقيم ] للبيّاضي، وكتب العلّامة الحلّي رحمة اللَّه عليه، وأيضاً كتب أُخري مؤلّفة في

هذا الموضوع.

ولي- والحمد للَّه- رسالة في هذا الموضوع أيضاً، وتلك الرسالة مطبوعة، ومن شاء التفصيل فليراجع.

وصلّي اللَّه علي سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 39

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين.

موضوع البحث في هذه الليلة آية التطهير.

انتهينا من البحث بنحو الإجمال عن آية المباهلة، وبقيت نقاط تتعلّق بآية المباهلة سنتعرض لها إن شاء اللَّه في مبحث تفضيل الأئمّة علي الأنبياء في الليلة المقرّرة لهذا البحث إن شاء اللَّه.

قوله تعالي : « … إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا» «1».

هذه الآية في القرآن الكريم ضمن آيات تتعلّق بزوجات الرسول صلّي اللَّه عليه وآله، أقرأ الآيات:

«يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا* وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ اْلأُولي وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا* وَاذْكُرْنَ ما يُتْلي في بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَ

__________________________________________________

(1) سورة الأحزاب (33): 33.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 40

اللَّهَ كانَ لَطيفًا خَبيرًا» «1»

صدق اللَّه العليّ العظيم.

هذه الآية المباركة أيضاً من جملة ما يستدلّ به من القرآن الكريم علي إمامة أمير المؤمنين سلام اللَّه عليه.

وذكرنا في الليلة الماضية الخطوط التي لا بدّ وأن يجري البحث علي أساسها، وقلنا بأنّ القرآن الكريم لم يأت فيه اسم أحد، وكلّ آية يستدلّ بها علي إمامة أمير المؤمنين أو غير أمير المؤمنين، لابدّ وأن يُرجع في دلالتها وفي شأن نزولها إلي السنّة المفسّرة لتلك الآية، والسنّة المفسّرة للآية أيضاً يجب أن تكون مقبولة

عند الطرفين المتنازعين المتخاصمين في مثل هذه المسألة المهمّة.

__________________________________________________

(1) سورة الأحزاب (33): 32- 34.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 41

آية التطهير … ص: 41

المراد من أهل البيت عليهم السّلام في آية التطهير … ص: 41

إذن، لابدّ من بيان المراد من أهل البيت عليهم السّلام في هذه الآية المباركة، لأنّ اللَّه سبحانه وتعالي يقول: «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا».

محلّ الإستدلال في هذه الآية المباركة نقطتان:

النقطة الأُولي : المراد من أهل البيت.

النقطة الثانية: المراد من إذهاب الرجس.

فإذا تمّ المدّعي علي ضوء القواعد المقرّرة في مثل هذه البحوث في تلك النقطتين، تمّ الإستدلال بالآية المباركة علي إمامة علي أمير المؤمنين، وإلّا فلا يتمّ الإستدلال.

ولمعرفة المراد من أهل البيت في هذه الآية المباركة، لابدّ من الرجوع أيضاً إلي كتب الحديث والتفسير، وإلي كلمات العلماء من محدّثين ومفسّرين ومؤرخين، لنعرف المخاطب بأهل البيت من الآية من هم؟ ونحن كما قرّرنا من قبل، نرجع أوّلًا إلي الصحاح والمسانيد والسنن والتفاسير المعتبرة عند أهل السنّة.

وإذا ما رجعنا إلي صحيح مسلم، وإلي صحيح الترمذي، وإلي صحيح النسائي، وإلي مسند أحمد بن حنبل، وإلي مسند البزّار، وإلي مسند عبد بن حُميد،

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 42

وإلي مستدرك الحاكم، وإلي تلخيص المستدرك للذهبي، وإلي تفسير الطبري، وإلي تفسير ابن كثير، وهكذا إلي الدر المنثور، وغير هذه الكتب من تفاسير ومن كتب الحديث، نجد إنّهم يروون عن ابن عباس، وعن أبي سعيد، وعن جابر بن عبداللَّه الأنصاري، وعن سعد بن أبي وقّاص، وعن زيد بن أرقم، وعن أُمّ سلمة، وعن عائشة، وعن بعض الصحابة الآخرين:

أنّه لمّا نزلت هذه الآية المباركة علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، جمع أهله- أي جمع عليّاً وفاطمة والحسن والحسين- وألقي عليهم كساءً وقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي».

وفي بعض الروايات: ألقي الكساء علي

هؤلاء، فنزلت الآية المباركة.

فالروايات بعضها يفيد: أنّ الآية نزلت، ففعل رسول اللَّه هكذا.

وبعضها يفيد: أنّه فعل رسول اللَّه هكذا، أي جمعهم تحت كساء، فنزلت الآية المباركة.

قد تكون القضيّة وقعت مرّتين أو تكرّرت أكثر من مرّتين أيضاً، والآية تكرّر نزولها، ولو راجعتم إلي كتاب [الإتقان في علوم القرآن ] للجلال السيوطي، لرأيتم فصلًا فيه قسمٌ من الآيات النازلة أكثر من مرّة «1»، فيمكن أن تكون الآية نازلة أكثر من مرّة والقضيّة متكرّرة.

وسنقرأ- إن شاء اللَّه في البحوث الآتية- عن حديث الثقلين: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا … » إلي آخر الحديث، قاله في مواطن متعدّدة «2».

__________________________________________________

(1)

الاتقان في علوم القرآن للسيوطي 1/ 130- 131، النوع الحادي عشر.

(2) أنظر: القسم الخاص بحديث الثقلين من هذا الكتاب.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 43

وقد ثبت عندنا أنّ النبي قال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» أكثر من مرّة، وإنْ اشتهرت قضيّة غدير خم «1».

وحديث «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي » وارد عن رسول اللَّه في مصادر أهل السنّة في أكثر من اثني عشر موطناً «2».

فلا نستبعد أن تكون آية التطهير نزلت مرّتين أو أكثر، لأنّا نبحث علي ضوء الأحاديث الواردة، فكما ذكرنا من قبل، بعض الأحاديث تقول أنّ النبي جمعهم تحت الكساء ثمّ نزلت الآية، وبعض الأحاديث تقول أنّ الآية نزلت فجمع رسول اللَّه عليّاً وفاطمة والحسنين وألقي عليهم الكساء وقال: «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي».

فالحديث في:

1- صحيح مسلم «3».

2- مسند أحمد، في أكثر من موضع «4».

3- مستدرك الحاكم «5»، مع إقرار الذهبي وتأييده لتصحيح الحاكم لهذا الحديث «6».

4- صحيح الترمذي، مع تصريحه بصحّته «7».

__________________________________________________

(1) أنظر:

القسم الخاص بحديث الغدير من هذا الكتاب.

(2) أنظر: القسم الخاص بحديث المنزلة من هذا الكتاب.

(3) صحيح مسلم 7/ 130.

(4) مسند أحمد 1/ 330، و 4/ 107، و 6/ 292.

(5) المستدرك علي الصحيحين 2/ 416.

(6) تلخيص المستدرك للذهبي بذيل المستدرك علي الصحيحين 2/ 416.

(7) صحيح الترمذي 5/ 30- 31 و 238 و 361.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 44

5- سنن النسائي «1»، الذي اشترط في سننه شرطاً هو أشدّ من شرط الشيخين في صحيحيهما، كما ذكره الذهبي بترجمة النسائي في كتاب [تذكرة الحفاظ] «2».

ولا يخفي عليكم أنّ كتاب [الخصائص ] الموجود الآن بين أيدينا الذي هو من تأليف النسائي، هذا جزء من صحيحه، إلّاأنّه نُشِرَ أو انتشر بهذه الصورة بالإستقلال، وإلّا فهو جزء من صحيحه الذي اشترط فيه، وكان شرطه في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين في صحيحيهما.

6- تفسير الطبري، حيث روي هذا الحديث من أربعة عشر طريقاً «3».

7- كتاب الدر المنثور للسيوطي، يرويه عن كثير من كبار الأئمّة الحفّاظ من أهل السنّة «4».

وقد اشتمل لفظ الحديث- في أكثر طرقه- علي أنّ أُمّ سلمة أرادت الدخول معهم تحت الكساء، فجذب رسول اللَّه الكساء ولم يأذن لها بالدخول، وقال لها:

«وإنّك علي خير» أو «إلي خير» «5».

والحديث أيضاً وارد عن عائشة كذلك «6».

واشتمل بعض ألفاظ الحديث علي جملة: أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله أرسل إلي فاطمة، وأمرها بأن تدعو عليّاً والحسنين، وتأتي بهم إلي النبي، فلمّا اجتمعوا ألقي عليهم الكساء وقال:

«اللّهم هؤلاء أهل بيتي».

__________________________________________________

(1)

سنن النسائي (السنن الكبري) 5/ 113.

(2) تذكرة الحفّاظ 52/ 700.

(3) تفسير الطبري 22/ 5- 7.

(4) الدرّ المنثور 6/ 603- 605.

(5) مسند أحمد 6/ 292، وصحيح الترمذي 5/ 361.

(6) صحيح مسلم 7/ 130.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1،

ص: 45

ممّا يدلّ علي أن النبي كانت له عناية خاصّة بهذه القضيّة، لأنّه لمّا أمر رسول اللَّه فاطمة بأن تأتي هي وزوجها وولداها، لم يأمرها بأن تدعو أحداً غير هؤلاء، وقد كان له أقرباء كثيرون، وأزواجه في البيت عنده، وحتّي أنّه لم يأذن لأُمّ سلمة أن تدخل معهم تحت الكساء.

إذن، هذه القضيّة تدلّ علي أمر وشأنٍ ومقامٍ لا يعمّ مثل أُمّ سلمة، تلك المرأة المحترمة المعظّمة المكرّمة عند جميع المسلمين.

إلي هنا تمّ لنا المراد من أهل البيت في هذه الآية المباركة.

وهذا الإستدلال فيه جهة إثبات وجهة نفي.

أمّا جهة الإثبات، فإنّ الذين كانوا تحت الكساء ونزلت الآية في حقّهم هم:

علي وفاطمة والحسن والحسين فقط.

وأمّا جهة النفي، فإنّه لم يأذن النبي لأن يكون مع هؤلاء أحد.

في جهة الإثبات وفي جهة النفي أيضاً، تكفينا نصوص الأحاديث الواردة في الصحاح والمسانيد وغيرها من الأحاديث التي نصّوا علي صحّتها سنداً، فكانت تلك الأحاديث صحيحةً وقعت موقع القبول عند الطرفين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 47

آية التطهير وأزواج النبي صلّي اللَّه عليه وآله … ص: 47

اشارة

لكن يبقي هناك في جهة النفي بحث يتعلّق بقولين:

أحدهما: ما يُنقل عن عكرمة مولي عبداللَّه بن عباس، فهذا كان يصرّ علي أنّ الآية نازلة في خصوص أزواج النبي صلّي اللَّه عليه وآله، حتّي أنّه كان يمشي في الأسواق ويعلن عن هذا الرأي، ويخطّئ الناس باعتقادهم باختصاص الآية المباركة بأهل البيت، ممّا يدلّ علي أنّ الرأي السائد عند المسلمين كان هذا الرأي، حتّي أنّه كان يقول: من شاء باهلته في أنّ الآية نازلة في أزواج النبي خاصّة، وفي [تفسير الطبري ]: إنّه كان ينادي في الأسواق بذلك «1»، وفي [تفسير ابن كثير] أنّه كان يقول: من شاء باهلته أنّها نزلت في نساء النبي خاصّة «2»، وفي [الدر المنثور]:

كان

يقول: ليس بالذي تذهبون إليه، إنّما هو نساء النبي «3».

فهذا هو القول الأوّل.

لكنّ هذا القول يبطله:

أوّلًا: أنّه قول غير منقول عن أحد من أصحاب النبي صلّي اللَّه عليه وآله.

__________________________________________________

(1)

تفسير الطبري 22/ 7.

(2) تفسير ابن كثير (تفسير القرآن العظيم) 3/ 491.

(3) الدرّ المنثور 6/ 603.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 48

ثانياً: أنّه قول تردّه الأحاديث الصحيحة المعتبرة المعتمدة المتفق عليها بين المسلمين.

ثالثاً: هذا الرجل كان منحرفاً فكراً وعملًا، وكان معادياً لأهل البيت ومن دعاة الخوارج.

أذكر لكم جملًا ممّا ذُكِر بترجمة هذا الرجل:

كان خارجيّاً بل من دعاتهم، وإنّما أخذ أهل أفريقيّة هذا الرأي- أي رأي الخوارج- من عكرمة، ولكونه من الخوارج تركه كثير من أئمة الحديث ولم يرووا عنه. قال الذهبي: قد تكلّم الناس في عكرمة، لأنّه كان يري رأي الخوارج.

بل كان هذا الرجل مستهتراً بالدين، طاعناً في الإسلام، فقد نقلوا عنه قوله:

إنّما أنزل اللَّه متشابه القرآن ليضلّ به الناس، وقال في وقت الموسم أي موسم الحج: وددت أنّي بالموسم وبيدي حربة فأعترض بها من شهد الموسم يميناً وشمالًا، وإنّه وقف علي باب مسجد النبي وقال: ما فيه إلّاكافر، وذُكِر أنّه كان لا يصلّي، وأنّه كان يرتكب جملة من الكبائر.

وقد نصّ كثير من أئمّة القوم علي أنّه كان كذّاباً، فقد كذب علي سيّده عبداللَّه بن عباس حتّي أوثقه علي بن عبداللَّه بن عباس علي باب كنيف الدار، فقيل له: أتفعلون هذا بمولاكم؟ قال، إنّ هذا يكذب علي أبي.

وعن سعيد بن المسيّب أنّه قال لمولاه: يا برد، أيّاك أن تكذب عليّ كما يكذب عكرمة علي ابن عباس.

وعن القاسم بن محمّد بن أبي بكر، الذي هو من فقهاء المدينة المنوّرة: إنّ عكرمة كذّاب.

وعن ابن سيرين: كذّاب.

وعن مالك بن أنس: كذّاب.

محاضرات في الاعتقادات،

ج 1، ص: 49

وعن يحيي بن معين: كذّاب.

وعن ابن ذويب: كان غير ثقة.

وحرّم مالك الرواية عن عكرمة.

وقال محمّد بن سعد صاحب الطبقات: ليس يحتج بحديثه.

هذه الكلمات بترجمة عكرمة نقلتها: من كتاب [الطبقات الكبري ] لابن سعد «1»، ومن كلمات [الضعفاء الكبير] لأبي جعفر العقيلي «2»، ومن [تهذيب الكمال ] للحافظ المزي «3»، ومن [وفيّات الأعيان ] «4»، ومن [ميزان الإعتدال ] للذهبي «5»، و [المغني في الضعفاء] للذهبي «6»، و [سير أعلام النبلاء] للذهبي «7»، و [تهذيب التهذيب ] لابن حجر العسقلاني «8».

هذه خلاصة ترجمة هذا الشخص.

لكن الحافظ ابن حجر العسقلاني في شرحه علي صحيح البخاري، في مقدمة هذا الشرح «9»، له فصل يدافع فيه عن رجال صحيح البخاري المقدوح فيهم، فيعنون هناك عكرمة مولي ابن عباس ويحاول الذبّ عنه بما أُوتي من حول وقوّة.

__________________________________________________

(1)

طبقات ابن سعد (الطبقات الكبري) 5/ 287.

(2) الضعفاء الكبير 3/ 373.

(3) تهذيب الكمال 20/ 264.

(4) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان 3/ 265.

(5) ميزان الإعتدال في نقد الرجال 3/ 93.

(6) المغني في الضعفاء 2/ 67.

(7) سير أعلام النبلاء 5/ 12.

(8) تهذيب التهذيب 7/ 234.

(9) هدي الساري (مقدمة فتح الباري): 424.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 50

إلّا أنّكم لو رجعتم إلي كلماته لوجدتموه متكلّفاً في أكثرها أو في كلّ تلك الكلمات، وتلك مصادر ترجمة عكرمة ومن أراد التوسّع فليرجع إلي الكتب التي ذكرتها.

ومن طريف ما أُحبّ أن أذكره هنا هو: أنّ عكرمة وإنْ أخرج عنه البخاري إلّا أن مسلماً قد أعرض عنه، ومن هنا قالوا: إن أصحّ الكتب كتاب البخاري وكتاب مسلم، وأصحّهما كتاب البخاري، فلأمرٍمّا قدّموا البخاري!! ولي أيضاً شواهد علي هذا.

سأقرأ لكم حديث الثقلين من صحيح مسلم، والبخاري لم يرو حديث الثقلين في صحيحه، وسأذكر لكم- إن شاء

اللَّه- حديثاً عن صحيح مسلم فيه مطلب مهمّ جدّاً يتعلّق بالشيخين، وقد ذكره البخاري في صحيحه في مواضع متعددة وحرّفه وذكره بألفاظ وأشكال مختلفة.

إذن، كون عكرمة من رجال البخاري لايفيد البخاري ولا يفيد عكرمة؛ إنّه ربّما يحتجّ لوثاقة عكرمة باعتماد البخاري عليه، ولكن الأمر بالعكس، فإنّ رواية البخاري عن عكرمة من أسباب جرحنا للبخاري، ومن أسباب عدم اعتمادنا عليه، ولو أنّ بعض الكتّاب المعاصرين- ولربّما يكون أيضاً من أصحابنا الإماميّة- يحاولون الدفاع عن عكرمة، فإنّهم في اشتباه.

وعلي كلّ حال، فالقول باختصاص الآية المباركة بأزواج النبي مردود؛ إذ لم يرو إلّاعن عكرمة حيث رفع راية هذا القول، وجعل ينشره بين الناس، وطبيعي أن الذين يكونون علي شاكلته فقط سيقبلون منه هذا القول، وأما غيرهم فلا!

الثاني: وهو القول: بأنّ المراد من أهل البيت في هذه الآية المباركة: أهل البيت- أي علي وفاطمة والحسنان- والأزواج أيضاً.

وهذا القول إذا رجعنا إلي التفاسير المعتبرة، لوجدنا مثل ابن الجوزي في

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 51

كتابه [زاد المسير في علم التفسير] «1» وهو من التفاسير المشهورة ينسبه إلي الضحّاك فقط، ولم نجد في كتاب ابن الجوزي وأمثاله من يعزو هذا القول إلي غير الضحّاك.

أتري أنّ قول الضحّاك وحده يعارض ما روته الصحاح والسنن والمسانيد عن ابن عباس، وعن جابر بن عبداللَّه، وعن زيد بن أرقم، وعن سعد بن أبي وقّاص، وعن أُمّ سلمة، وعن عائشة؟

وعجيب أنّ هؤلاء يحاولون أن يذكروا لزوجات النبي فضيلة، والحال أنّهن أنفسهنّ ينفين هذا القول، فأُمّ سلمة وعائشة من جملة القائلين باختصاص الآية المباركة بأهل البيت!!

وكم من عجيب عندهم، وما أكثر العجب والعجيب عندهم!!

يحاولون الدفاع عن الصحابة أجمعين أكتعين كما يعبّر السيد شرف الدين رحمة اللَّه عليه «2»، والحال

أنّ الصحابة أنفسهم لا يرون مثل هذا المقام لهم، يدّعون العدالة للصّحابة كلّهم جميعاً وهم لا يعلمون بعدالتهم؟!

فأُمّ سلمة وعائشة تنفيان أن تكون الآية نازلة في حقّ أزواج النبي، ويأتي الضحّاك ويضيف إلي أهل البيت أزواج النبي، وكأنّه يريد الإصلاح بين الطرفين والجمع بين الحقّين.

لكنّي وجدت في [الدر المنثور] «3» حديثاً يرويه السيوطي عن عدّة من أكابر المحدّثين عن الضحّاك، يروي عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله حديثاً يتنافي مع هذه النسبة إلي الضحّاك.

__________________________________________________

(1)

زاد المسير في علم التفسير 6/ 381.

(2) أجوبة مسائل جار اللَّه: 15، النص والاجتهاد: 520، أبو هريرة: 7 و 185.

(3) الدرّ المنثور 6/ 603.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 52

وأيضاً: الضحّاك الذي نسب إليه ابن الجوزي هذا القول في تفسيره، هذا الرجل أدرجه ابن الجوزي نفسه في [كتاب الضعفاء] «1»، وذكره العقيلي في كتاب [الضعفاء] «2»، وأورده الذهبي في [المغني في الضعفاء] «3»، وعن يحيي بن سعيد القطّان الذي هو من كبار أئمّتهم في الجرح والتعديل أنّه كان يجرح هذا الرجل «4» وذكروا بترجمته أنّه بقي في بطن أُمّه مدّة سنتين «5».

وهذا ما أدري يكون فضيلة له أو يكون طعناً به؟ وكم عندهم من هذا القبيل، يُذكر عن مالك بن أنس أنّه بقي في بطن أمّه أكثر من سنتين أو ثلاث سنوات علي ما أتذكّر الآن، وراجعوا كتاب [وفيّات الأعيان ] لابن خلّكان وغيره «6».

وعلي كلّ حال، فإنّا نرجع إلي ما في الصحاح، والأفضل لهم هنا أن يرجعوا إليها، وهذا ما دعا مثل ابن تيميّة إلي أن يعترف بصحّة حديث نزول الآية في أهل البيت الأطهار واختصاصها بهم «7».

وأمّا الغرض من ذكر عكرمة والضحّاك وإيراد قول هذين الرجلين المجروحين المطعونين في هذا المقام، فهو

السّعي وراء تضعيف استدلال الإماميّة بالآية المباركة، والذاكرون أنفسهم يعلمون بعدم صلاحيّة مثل هذه الأقوال للإستدلال!

__________________________________________________

(1) الضعفاء والمتروكون 2/ 60.

(2) الضعفاء الكبير 2/ 605.

(3) المغني في الضعفاء 1/ 494، رقم 2912.

(4) أنظر المغني في الضعفاء 1/ 494.

(5) الكامل في ضعفاء الرجال لابن عدي 4/ 95.

(6) تهذيب الكمال 27/ 119.

(7) منهاج السنّة 4/ 23.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 53

بحث في مقتضي سياق الآية: … ص: 53

لكنّهم مع ذلك يحاولون توجيه هذا الرأي، أي رأي الضحاك، يقولون بأنه مقتضي سياق الآية المباركة.

وقد قرأت الآيات السابقة علي آية التطهير، والكلّ يعلم وأنتم تعلمون بأنّ الآية الآن في القرآن الكريم تتلي في ضمن الآيات التي خاطب اللَّه سبحانه وتعالي نساء النبي، ولكن عند العلماء اصطلاح في علم الأُصول، يقولون: بأنّ السياق قرينة في الكلام، أي أنّه متي ما أردنا أن نفهم معني الكلمة، نلحظ ما قبلها أو بعدها حتي نراها محفوفةً بأي كلام، وفي أيّ سياق، فالألفاظ التي تحفّ بهذه الكلمة، والسياق الذي جاءت الجملة فيه، يكون معيناً لنا أو معيّناً لنا علي فهم المراد من تلك الكلمة، هذا شي ء يذكرونه في علم الأصول «1»، وهذا أيضاً أمر صحيح في مورده ولانقاش فيه.

إلّا أنّ الذين يقرّرون هذه القاعدة، ينصّون علي أنّ السياق إنّما يكون قرينة حيث لا يكون في مقابله نصّ يعارضه، وهل من الصحيح أن نرفع اليد عمّا رواه أهل السنّة في صحاحهم وفي مسانيدهم وسننهم وتفاسيرهم، عن أُمّ سلمة وعن عائشة وعن غيرهما من كبار الصحابة: أنّ الآية مختصة بالنبيّ وبالأربعة الأطهار من أهل البيت؟ نرفع اليد عن جميع تلك الأحاديث المعتبرة المعتمدة المتفق عليها بين المسلمين، لأجل السياق وحده، حتّي ندّعي شيئاً للأزواج، لأُمّ سلمة أو لعائشة، وهنّ ينفين هذا الشي ء الذي نريد أن

ندّعيه لهنّ؟!

ليس هناك دليل أو وجه لهذا المدّعي ، إلّاإخراج الآية المباركة عن مدلولها ومعناها، والمراد الذي هو بحسب الأحاديث الواردة هو مراد اللَّه سبحانه وتعالي .

__________________________________________________

(1)

أنظر: دروس في علم الأصول 1/ 90، وتحريرات في الأصول 7/ 45.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 54

ولولا أنّ الآية المباركة تدلّ علي معني ومقام ومرتبة وشأن، لما كانت هذه المحاولات، لا من مثل عكرمة الخارجي، ولا من مثل ابن كثير الدمشقي «1»، الذي هو تلميذ ابن تيميّة، فالآية المباركة لا يراد من «أَهْلَ الْبَيْتِ» فيها إلّامن دلّت عليه الأحاديث الصحيحة المتفق عليها المقبولة عند الطرفين المتنازعين في هذه المسألة.

__________________________________________________

(1)

أنظر: تفسير ابن كثير 2/ 491.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 55

معني الإرادة وإذهاب الرجس … ص: 55

اشارة

وننتقل الآن إلي النقطة الثانية في الآية المباركة، وهي معني إذهاب الرجس «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا»، بعد أن تعيّن المراد من أهل البيت بقول رسول اللَّه وبفعل رسول اللَّه، فما معني إذهاب الرجس عن أهل البيت؟

لابدّ من التأمّل في مفردات الآية المباركة:

كلمة «إِنَّما» تدلّ علي الحصر، وهذا ممّا لا إشكال فيه ولا خلاف من أحد.

«يُريدُ اللَّهُ» الإرادة هنا إمّا إرادة تكوينيّة كقوله تعالي : «إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «1»

، وإمّا هي تشريعيّة كقوله تعالي : «يُريدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُريدُ بِكُمُ الْعُسْرَ» «2».

فالإرادة الإلهيّة، تارةً تكوينيّة، وأُخري تشريعيّة، وكلا القسمين واردان في القرآن الكريم، ولا خلاف في هذه الناحية أيضاً.

لكن المراد من «الإرادة» في هذه الآية لا يمكن أن يكون إلّاالإرادة التكوينيّة؛ لأن الإرادة التشريعيّة لاتختص بأهل البيت، سواء كان المراد من أهل البيت هم

__________________________________________________

(1) سورة يس (36): 82.

(2) سورة البقرة (2): 185.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 56

الأربعة الأطهار، أو غيرهم أيضاً، فهي

لاتختصّ بأحد دون أحد، الإرادة التشريعيّة يعني ما يريد اللَّه سبحانه وتعالي أن يفعله المكلَّف، أو يريد أن لا يفعله المكلّف، هذه هي الإرادة التشريعيّة، إذ الأحكام عامّة لجميع المكلّفين، ولا معني لأن تكون الإرادة هنا تشريعيّة، ومختصّة بأهل البيت أو غير أهل البيت كائناً من كان المراد من أهل البيت في هذه الآية المباركة، إذ ليس هناك تشريعان، تشريع يختصّ بأهل البيت في هذه الآية، وتشريع يكون لسائر المسلمين المكلّفين، فالإرادة هنا تكون تكوينيّة لا محالة.

«إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ» و «الرِّجْسَ» إذا ما رجعنا إلي كتب اللغة «1» يعمّ ما يستقذر وما يستقبح منه، ويكون المراد في هذه الآية الذنوب وكلّ شي ء يجتنب ويكره ولا يطلب، «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ»، أي إنّما يريد اللَّه بالإرادة التكوينيّة أن يذهب عنكم كلّ ما لا يليق أهل البيت، ويطهّركم من ذلك تطهيراً، فهذا يكون محصّل معني الآية المباركة.

إنّ إرادة اللَّه التكوينيّة لا تتخلّف، وبعبارة أُخري : المراد لا يتخلّف عن الإرادة الإلهيّة، «إِذا أَرادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ» «2».

فإذا كانت الإرادة تكوينيّة، والمراد إذهاب الرجس عن أهل البيت، فهذا معناه طهارة أهل البيت عن مطلق الذنوب وكلّ ما لا يليق، وهذا واقع العصمة، فتكون الآية دالّة علي العصمة.

__________________________________________________

(1)

لسان العرب 6/ 94، «رجس».

(2) سورة يس (36): 82.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 57

الإرادة التكوينية والجبر: … ص: 57

ويبقي سؤال: إذا كانت الإرادة هذه تكوينيّة، فمعني ذلك أن نلتزم بالجبر، وهذا لا يتناسب مع ما تذهب إليه الإماميّة من أنّه لا جبر ولا تفويض بل أمر بين الأمرين، هذه الشبهة موجودة في الكتب، وممّن تعرّض لها ابن تيميّة في كتابه المعروف [منهاج السنّة] «1».

وقد أجاب علماؤنا عن هذه الشبهة في

كتبهم بوجوه، منها: ما ملخّصه:

إنّ اللَّه سبحانه وتعالي لمّا علم أنّ هؤلاء لا يفعلون إلّاما يؤمرون، وليست أفعالهم إلّامطابقةً للتشريعات الإلهيّة من الأفعال والتروك، وبعبارة أُخري : جميع أفعالهم وتروكهم تكون مجسّدة للتشريعات الإلهيّة، فليس فيما يفعلون ويتركون إلّا ما يحبّه اللَّه أو يبغضه ويكرهه سبحانه وتعالي ، فلمّا علم عزّ وجلّ منهم هذا المعني لوجود تلك الحالات المعنويّة في ذواتهم المطهّرة المانعة من الإقتحام في الذنوب والمعاصي، والتلبّس بما لا يليق بهم، جاز له سبحانه وتعالي أن ينسب إلي نفسه إرادة إذهاب الرجس عنهم.

وهذا جواب علميّ يعرفه أهله ويلتفت إليه من له مقدار من المعرفة في مثل هذه العلوم، والبحث لدقته لا يمكن أن نتكلّم حوله بعبارات مبسّطة أكثر ممّا ذكرته لكم، لأنّها اصطلاحات علميّة، ولابدّ وأن يكون السامعون علي معرفةٍ مّا بتلك المصطلحات العلميّة الخاصّة.

وعلي كلّ حال لا يبقي شي ء في الإستدلال، إلّاهذه الشبهة، وهذه الشبهة قد أجاب عنها علماؤنا، وبإمكانكم المراجعة إلي الكتب المعنيّة في هذا البحث بالخصوص، حتّي في كتب علم الأصول أيضاً.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 3/ 17.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 58

أتذكّر أنّ بعضهم يتعرض لمبحث آية التطهير بمناسبة حجيّة سنّة أهل البيت، ومنهم العلّامة الكبير السيّد محمّد تقي الحكيم في كتابه [الأصول العامّة للفقه المقارن ] هناك يطرح مبحث آية التطهير، ويذكر هذه الشبهة ويجيب عنها بما ذكرت لكم بعبارة مبسّطة بقدر الإمكان «1» وهناك أيضاً موارد أُخري يتعرّضون فيها لهذه الشبهة وللإجابة عنها «2».

وحينئذ، إذا كان المراد من أهل البيت خصوص النبي والأربعة الأطهار، وإذا كان المراد من إذهاب الرجس إذهاب الذنوب وكلّ ما ينافي العصمة، والإرادة هذه إرادة تكوينيّة لا تتخلّف، فلا محالة ستكون الآية المباركة دالّة علي عصمة الخمسة الأطهار

فقط.

ومن يدّعي العصمة لزوجات النبي؟ ومن يتوهّم العصمة في حقّ الأزواج، لا سيّما التي خالفت قوله تعالي : «وَقَرْنَ في بُيُوتِكُنَّ» «3»

، الآية المباركة الواردة في نفس السورة، والتي تكون آية التطهير في سياق تلك الآية؟ وهل يكفي أن يقال بأنّها ندمت عمّا فعلت وكانت تبكي؟ فخروجها علي إمام زمانها أمر ثابت بالضرورة، وبكاؤها وتوبتها أمر يروونه هم «4»، ولنا أن لا نصدّقهم، ومتي كانت الرواية معارضة للدراية؟ ومتي جاز لنا رفع اليد عن الدراية بالرواية؟ وكيف يُدّعي أن تكون تلك المرأة من جملة من أراده اللَّه سبحانه وتعالي في آية التطهير؟

نعم، يقول به مثل عكرمة الخارجي العدوّ لأمير المؤمنين بل للنبي وللإسلام.

__________________________________________________

(1)

الأصول العامة للفقه المقارن: 150.

(2) أنظر: تفسير الأمثل 13/ 336، ورسائل ومقالات السبحاني: 563.

(3) سورة الأحزاب (33): 33.

(4) سير أعلام النبلاء 2/ 193.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 59

بعض التحريفات في كتب القوم … ص: 59

ورأيت من المناسب أن أذكر لكم نقطة تتعلّق بآية التطهير، وبالحديث الوارد في ذيل الآية المباركة، ومن خلال ذلك تطّلعون علي بعض التحريفات في كتب القوم.

إنّ من جملة الأحاديث الواردة في مسألة آية التطهير ونزولها في أهل البيت:

هذا الحديث عن سعد بن أبي وقّاص، وهو بسند صحيح، مضافاً إلي أنّه في الكتب الصحيحة، كصحيح مسلم، وصحيح النسائي وغيره:

يقول الراوي: عن سعد بن أبي وقّاص: أمر معاوية سعداً فقال: ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟ يعني عليّاً.

يقول معاوية لسعد بن أبي وقّاص: لماذا لا تسبّ عليّاً. أي: إنه قد أمره أن يسبّ فامتنع، فسأله عن وجه الإمتناع.

فقال: أمّا إن ذكرت ثلاثاً قالهنّ رسول اللَّه فلن أسبّه.

يقول سعد: لأن يكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم:

سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول له وخلّفه

في بعض مغازيه: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي » …، وسمعته يقول يوم خيبر: «سأُعطي الراية غداً رجلًا» …، الخصلة الثالثة: ولمّا نزلت: «إِنَّما يُريدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 60

أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهيرًا» دعا رسول اللَّه عليّاً وفاطمة والحسن والحسين فقال:

«اللهمّ هؤلاء أهل بيتي».

هذا الحديث تجدونه بهذا اللّفظ في كثيرٍ من المصادر.

وكما ترون في هذا اللفظ، قد أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أو ما يمنعك أن تسبّ أبا تراب؟ بهذا اللّفظ.

لكن النسائي يروي هذا الحديث بنفس السند في موضع آخر من كتابه «1»، يريد أن يلطّف اللفظ ويهذّب العبارة فيقول: عن سعد:

كنت جالساً، فتنقّصوا علي بن أبي طالب، فقلت: قد سمعت رسول اللَّه يقول فيه كذا وكذا.

هكذا اللّفظ، كنت جالساً فتنقّصوا علي بن أبي طالب، أين كان جالساً؟ وعند مَن؟ ومن الذي تنقّص؟ فهذا نحوٌ من التصرّف في لفظ الحديث!

ثمّ يأتي ابن ماجة، فيروي هذا الحديث باللفظ التالي: قدم معاوية في بعض حجّاته، فدخل عليه سعد. فذكروا عليّاً فنال منه، فغضب سعد «2».

يقول: فذكروا عليّاً، من ذكر عليّاً؟ غير معلوم، فنال منه، من نال من علي؟ غير معلوم، فغضب سعد وقال: تقولون هذا لرجل سمعت رسول اللَّه يقول له كذا وكذا إلي آخر الحديث.

ثمّ جاء ابن كثير «3»، فحذف منه جملة: فنال منه فغضب سعد، وهذا لفظ روايته: قدم معاوية في بعض حجّاته، فدخل عليه سعد، فذكروا عليّاً، فقال سعد:

__________________________________________________

(1) سنن النسائي 5/ 108.

(2) سنن ابن ماجة 1/ 45.

(3) البداية والنهاية 7/ 340.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 61

سمعت رسول اللَّه يقول في علي كذا وكذا.

نصّ الحديث بنفس السند في نفس القضيّة.

أترون من يروي القضيّة الواحدة بسند واحد

بأشكال مختلفة، يكون قابلًا للإعتماد؟ أترونه يحكي لكم الوقائع كما وقعت؟ أترونه ينقل شيئاً يضرّ مذهبه أو يخالف مبناه أو ينفع خصمه؟

ولكن اللَّه سبحانه وتعالي شاء أن تبقي فضائل أمير المؤمنين ودلائل إمامته وولايته بعد رسول اللَّه، أن تبقي في نفس هذه الكتب، وسنسعي بأيّ شكل من الأشكال لأن نستخرجها، نستفيد منها، نبلورها، وننشرها، وهذا ما يريده اللَّه سبحانه وتعالي .

«يُريدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَي اللَّهُ إِلّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ» «1».

وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

__________________________________________________

(1) سورة التوبة (9): 32.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 65

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيّدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

قال اللَّه تعالي : «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» «1».

وهذه الآية المباركة تسمّي في الكتب ب «آية الولاية».

استدلّ بها الإماميّة علي إمامة أمير المؤمنين سلام اللَّه عليه.

وكما ذكرنا من قبل، لابدّ من الرجوع إلي السنّة لتعيين مَن نزلت فيه الآية المباركة، وبعبارة أُخري لمعرفة شأن نزول الآية.

ثمّ بعد معرفة شأن نزول الآية المباركة، لابدّ من بيان وجه الإستدلال بها علي إمامة أمير المؤمنين، ثمّ يأتي دور الإشكالات والإعتراضات والمناقشات التي نجدها في كتب الكلام والعقائد من قبل علماء السنّة في الإستدلال.

فالبحث إذن يكون في جهات:

__________________________________________________

(1) سورة المائدة (5): 55.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 66

آية الولاية … ص: 66

اشارة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 67

الجهة الأُولي … ص: 67

في شأن نزول هذه الآية المباركة … ص: 67

اشارة

أجمعت الطائفة الإماميّة، ورواياتهم بهذا الأمر متواترة، بأنّ الآية المباركة نزلت عندما تصدّق أمير المؤمنين سلام اللَّه عليه بخاتمه علي السائل، وهو في أثناء الصلاة وفي حال الركوع.

فالأمر مفروغ منه من جهة الشيعة الإماميّة.

إلّا أنّ هذا المقدار لا يكفي للإستدلال علي الطرف المقابل، كما ذكرنا من قبل، فله أن يطالب برواة هذا الخبر من أهل السنّة، من المحدثين والمفسّرين، وله أيضاً أن يطالب بصحّة سند هذا الخبر في كتب السنّة، ليكون حجّة عليه.

ونحن علي طبق هذه القاعدة المقرّرة في أُصول البحث والمناظرة، نذكر في هذه الجهة، أسماء بعض من روي هذه القضيّة، ونزول هذه الآية المباركة في أمير المؤمنين، وفي خصوص تصدّقه في حال الركوع بخاتمه علي السائل، لتتمّ الحجّة حينئذ علي من يري حجيّة كتبه واعتبار رواياته، ومن يلتزم بلوازم مذهبه، فحينئذ تتمّ الجهة الأُولي ، ويتعيّن مَن نزلت فيه الآية المباركة، ويكون الخبر متّفقاً عليه بين الطرفين، ومقبولًا بين المتخاصمين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 68

قول المفسّرين: … ص: 68

1- يعترف القاضي الإيجي المتوفي سنة 756 في كتابه [المواقف في علم الكلام ] وهو من أهم متون أهل السنّة في علم الكلام وأصول الدين، يعترف بإجماع المفسرين علي نزول الآية المباركة في هذه القضيّة الخاصّة المتعلّقة بأمير المؤمنين عليه السلام «1».

2- وأيضاً يعترف بهذا الإجماع: الشريف الجرجاني المتوفّي سنة 816 في كتابه [شرح المواقف في علم الكلام ]، وهذا الكتاب متناً وشرحاً مطبوع وموجود الآن بين أيدينا «2».

3- وممّن يعترف بإجماع المفسّرين علي نزول الآية المباركة في شأن علي عليه السلام: سعد الدين التفتازاني المتوفّي سنة 739، في كتابه [شرح المقاصد] «3»، وهذا الكتاب أيضاً من أهم كتب القوم في علم الكلام، ومن شاء فليرجع إلي كتاب [كشف الظنون ] «4»

ليجد أهميّة هذا الكتاب بين القوم، وفي أوساطهم العلميّة، حيث كان من جملة كتبهم التي يتدارسونها في حوزاتهم العلميّة، لذلك كثر منهم الشرح والتعليق عليه.

4- وممّن يعترف بإجماع المفسّرين من أهل السنّة علي نزول الآية المباركة في أميرالمؤمنين، في هذه القضيّة الخاصّة: علاء الدين القوشجي السمرقندي في كتابه [شرح التجريد]، وهذا الكتاب أيضاً مطبوع وموجود بين أيدينا «5».

__________________________________________________

(1) المواقف في علم الكلام 3/ 601- 602.

(2) شرح المواقف في علم الكلام 8/ 360.

(3) شرح المقاصد 5/ 270.

(4) كشف الظنون 2/ 1780.

(5) شرح التجريد للقوشجي: 368.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 69

فعلماء الكلام الذين يبحثون عن أدلّة الإمامة، وعمّا يقول الطرفان في مقام الإستدلال، وعمّا يحتجّ به كلّ من الطرفين علي مدّعاه، يذعنون بنزول الآية المباركة في هذه القضيّة الخاصّة.

إذن، فالمفسّرون من أهل السنّة مجمعون علي نزول الآية المباركة في هذه القضيّة، والمعترِف بهذا الإجماع كبار علماء القوم في علم الكلام، الذين يُرجع إليهم ويُعتمد علي أقوالهم ويُستند إلي كتبهم.

قول المحدّثين: … ص: 69

فقد رأيت من رواة هذا الحديث في كتبهم:

1- الحافظ عبدالرزّاق الصنعاني، صاحب كتاب المصنّف، وهو شيخ البخاري صاحب الصحيح.

2- الحافظ عبد بن حميد، صاحب كتاب المسند.

3- الحافظ رزين بن معاوية العبدري الأندلسي، صاحب الجمع بين الصحاح الستّة.

4- الحافظ النسائي، صاحب الصحيح، روي هذا الحديث في صحيحه.

5- الحافظ أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ المعروف والتفسير المعروف المشهور.

6- ابن أبي حاتم الرازي المحدّث المفسّر المشهور، الذي التزم فيه بالصحّة، ويعتقد ابن تيميّة في [منهاج السنّة] بأنّ تفسير ابن أبي حاتم خال من الموضوعات «1».

7- الحافظ أبو الشيخ الإصفهاني.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7/ 13.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 70

8- الحافظ ابن عساكر الدمشقي.

9- الحافظ أبو بكر ابن مردويه الإصفهاني.

10-

الحافظ أبو القاسم الطبراني.

11- الحافظ الخطيب البغدادي.

12- الحافظ أبو بكر الهيثمي.

13- الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي.

14- الحافظ المحبّ الطبري شيخ الحرم المكّي.

15- الحافظ جلال الدين السيوطي، المجدّد في القرن العاشر عند أهل السنّة.

16- الحافظ الشيخ علي المتّقي الهندي، صاحب كتاب كنز العمّال.

هؤلاء جماعة من أعلام الأئمّة في القرون المختلفة، يروون هذا الحديث في كتبهم.

يقول الآلوسي صاحب التفسير الشهير [روح المعاني ]: غالب الأخباريين علي أنّ هذه الآية نزلت في علي كرّم اللَّه وجهه «1».

فالقضيّة بين المفسّرين مجمع عليها، وغالب المحدّثين والأخباريين ينصّون علي هذا، ويقولون بنزول الآية في علي، ويروون فيه الحديث. وقد ذكرت أسماء جماعة من أعلامهم، منذ زمن البخاري إلي القرن الحادي عشر.

ولو أنّك تراجع [تفسير ابن كثير] في ذيل هذه الآية المباركة «2»، تجده يعترف بصحّة بعض أسانيد هذه الأخبار، واعترافه بذلك يمكن أن يكون لنا حجة علي الخصوم، لأنّ اعتراف مثل ابن كثير بصحة هذه الروايات- وهو ممّن

__________________________________________________

(1) روح المعاني في تفسير القرآن 6/ 167.

(2) تفسير ابن كثير 2/ 74.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 71

لا نرتضيه نحن ونراه رجلًا متعصّباً في تفسيره وتاريخه تبعاً لشيخه- له قيمته العلميّة في مقام البحث.

وأنا شخصيّاً راجعت عدّة من أسانيد هذه الرواية، ولاحظت كلمات كبار علمائهم في الجرح والتعديل في رجالها، ورأيت تلك الأسانيد صحيحة علي ضوء تلك الكلمات.

منها: هذا الحديث الذي أخرجه ابن أبي حاتم في [تفسيره ] «1»، فإنّه يرويه عن أبي سعيد الأشج، عن الفضل بن دكين، عن موسي بن قيس الحضرمي، عن سلمة بن كهيل قال: تصدّق علي بخاتمه وهو راكع فنزلت الآية: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» …

وقد اشتهر هذا الخبر وثبت، بحيث يُروي أنّ حسّان بن ثابت الشاعر الأنصاري الصحابي، قد

نظم هذه المنقبة وهذه القضيّة في شعرٍ له،- ومن الناقلين لهذا الشعر هو الآلوسي البغدادي صاحب [روح المعاني ] «2» - يقول فيه:

فأنت الذي أعطيت إذ كنت راكعاً زكاةً فدتك النفس يا خيرَ راكعِ

فأنزل فيك اللَّه خيرَ ولايةٍ وأثبتها أثني كتاب الشرايع

إذن، هذه القضيّة لا يمكن المناقشة في سندها بشكل من الأشكال، ولا مجال لأن تكذّب أو تضعّف الروايات الواردة فيها.

مع ابن تيمية: … ص: 71

وإذا بلغ الأمر إلي هذه المرحلة، فلا بأس بأن ننظر في عبارة ابن تيميّة حول هذا الحديث وهذا الإستدلال، نصّ عبارته هكذا:

__________________________________________________

(1) تفسير ابن أبي حاتم (تفسير القرآن العظيم) 4/ 1162.

(2) روح المعاني 6/ 168.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 72

قد وضع بعض الكذّابين حديثاً مفتري أنّ هذه الآية نزلت في علي لمّا تصدّق بخاتمه في الصلاة، وهذا كذب بإجماع أهل العلم بالنقل، وكذبه بيّن.

ويضيف هذا الرجل: وأجمع أهل العلم بالنقل علي أنّها لم تنزل في علي بخصوصه، وأنّ عليّاً لم يتصدّق بخاتمه في الصلاة.

وأجمع أهل العلم بالحديث علي أنّ القصّة المرويّة في ذلك من الكذب الموضوع، وأنّ جمهور الأُمّة لم تسمع هذا الخبر «1».

فليسمع المقلّدون لابن تيميّة في بحوثهم العلميّة، ولينتبه أُولئك الذين يأخذون من مثل هذا الرجل عقائدهم وأحكامهم وسننهم وآدابهم.

فالقاضي الإيجي والشريف الجرجاني وكبار علماء الكلام- وهذه كتبهم موجودة- ينصّون علي إجماع المفسّرين بنزول الآية المباركة في علي في القصّة الخاصّة هذه، ويقول هذا الرجل: إنّ بعض الكذّابين قد وضع هذا الخبر المفتري ، وعلي لم يتصدّق بخاتمه، وأجمع أهل العلم في الحديث!!

أتصوّر أنّه يقصد من أهل العلم- حيث يدّعي إجماعهم- نفسه فقط أو مع بعض الملتفّين حوله، فإذا رأي نفسه علي هذا الرأي ، ورأي اثنين أو ثلاثة من الأشخاص يقولون برأيه، يدّعي إجماع

أهل الحديث وأهل النقل، بل وإجماع الأُمّة كلّهم علي ما يراه هو، وكأنّ الإجماع في كيسه، متي ما أراد أن يخرجه من كيسه أخرجه وصرفه إلي الناس، وعلي الناس أن يقبلوا منه ما يدّعي!

وعلي كلّ حال، فهذه القضيّة واردة في كتبهم وكتبنا، في تفاسيرهم وتفاسيرنا، في كتبهم في الحديث وكتبنا.

مثلًا: لو أنّكم تراجعون من التفاسير: تفسير الثعلبي، تفسير الطبري، وأسباب

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 2/ 30.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 73

النزول للواحدي، وتفسير الفخر الرازي، وتفسير البغوي، وتفسير النسفي، وتفسير القرطبي، وتفسير أبي السعود، وتفسير الشوكاني، وتفسير ابن كثير، وتفسير الآلوسي، والدر المنثور للسيوطي …

لرأيتم أنهم كلّهم ينقلون هذا الخبر، بعضهم يروي بالسند، وبعضهم يرسل الخبر إرسال المسلّم «1»، وكأنّ هؤلاء كلّهم ليسوا من هذه الأُمّة!!

وعلي كلّ حال، فالقضيّة لا تقبل أيّ شك وأيّ مناقشة من جهة السند، ومن ناحية شأن النزول، وبهذا ينتهي بحثنا عن الجهة الأُولي .

__________________________________________________

(1) تفسير الثعلبي (الكشف والبيان) 4/ 80، تفسير ابن أبي حاتم 4/ 1162، تفسير الطبري 6/ 186، تفسير السمعاني 2/ 47، أسباب النزول 147- 148، تفسير العز الدمشقي 1/ 393، تفسير ابن كثير 2/ 73- 74، تفسير الزمخشري 1/ 624، الدرّ المنثور 3/ 105، تفسير الرازي 12/ 26، تفسير النسفي (مدارك التنزيل) 1/ 328، وراجع من كتب الحديث مثلًا: جامع الأصول 9/ 478، المعجم الأوسط 6/ 218، تاريخ مدينة دمشق 42/ 356.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 75

الجهة الثانية … ص: 75

وجه الإستدلال بالآية المباركة علي الإمامة … ص: 75

اشارة

ووجه الإستدلال يتوقّف علي بيان مفردات الآية المباركة:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ».

فكلمة «إِنَّما» تدلّ علي الحصر، لم ينكر أحد منهم دلالة إنّما علي الحصر.

«وَلِيُّكُمُ» هذه الولاية بأيّ معني ؟ سنبحث عن معني الولاية في حديث الغدير

بالتفصيل «1» وأيضاً في حديث الولاية «2»، فعندنا آية الولاية، وهي هذه الآية التي هي موضوع بحثنا في هذه الليلة، وعندنا حديث الولاية، وهو قوله صلّي اللَّه عليه وآله: «علي منّي وأنا من علي وهو وليّكم من بعدي»، فكلمة «الولاية» موجودة في هذه الآية المباركة بعنوان «وليّكم»، وأيضاً في ذلك الحديث بعنوان «وليّكم».

معني الولاية: … ص: 75

الولاية: مشترك، إمّا مشترك معنوي، وإمّا مشترك لفظي، نحن نعتقد بالدرجة

__________________________________________________

(1) راجع القسم الخاص بحديث الغدير من هذا الكتاب.

(2) راجع القسم الخاص بحديث الولاية من هذا الكتاب.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 76

الأُولي أن تكون «الولاية» مشتركاً معنويّاً، فمعني الولاية إذا قيل: فلان وليّ فلان، أي فلان هو القائم بأمر فلان، فلان ولي هذه الصغيرة، أي القائم بشؤون هذه الصغيرة، فلان وليّ الأمر أي القائم بشؤون هذا الأمر، ولذا يقال للسّلطان: ولي.

هذا المعني هو واقع معني الولاية.

ونجد هذا المعني في جميع موارد استعمال لفظ الولاية ومشتقّاته، مثلًا:

الصديق وليّ، الجار وليّ، الحليف وليّ، الأب وليّ، اللَّه وليّ، ورسوله وليّ، وهكذا في الموارد الأُخري من الأولياء. فإنّ المعني الذي ذكرناه موجود في جميع الموارد، وهو القيام بالأمر.

هذا هو معني الولاية علي ضوء كلمات علماء اللغة، فلو تراجعون كتب اللغة «1» تجدون أنّ هذه الكلمة يذكرون لها هذا المعني الأساسي، وهذا المعني موجود في جميع تلك الموارد المتعددة مثلًا: الجار له الولاية أي الجار له الأولويّة في أن يقوم بأمور جاره، يعني لو أنّ مشكلة حدثت لشخص، فأقرب الناس في مساعدته في تلك المشكلة والقيام بشؤون ذلك الشخص هو جاره، هذا حقّ الجوار، مثلًا الحليف كذلك، مثلًا الناصر أو الأخ، هذه كلّها، لكن المعني الوحداني الموجود في جميع هذه الموارد هو القيام بالأمر.

هذا بناء علي أن تكون الولاية مشتركاً

معنويّاً.

وأمّا إذا جعلنا الولاية مشتركاً لفظيّاً، فمعني ذلك أن يكون هناك مصاديق متعدّدة ومعاني متعدّدة للّفظ الواحد، مثل كلمة العين، فهي مشترك لفظي، ويشترك في هذا: العين الجارية، والعين الباصرة، وعين الشمس، وغير ذلك كما قرأتم في الكتب الأُصوليّة.

فالإشتراك ينقسم إلي إشتراك معنوي وإشتراك لفظي، وفي الدرجة الأُولي

__________________________________________________

(1) الصحاح 6/ 2530.، لسان العرب 15/ 406، تاج العروس 10/ 399، في مادة «ولي».

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 77

نستظهر أن تكون الولاية مشتركاً معنوياً، وعلي فرض كون المراد من الولاية هو المعني المشترك بالاشتراك اللفظي، فيكون من معاني لفظ الولاية: الأحقيّة بالأمر، الأولويّة بالأمر، فهذا يكون من جملة معاني لفظ الولاية، وحينئذ، فلتعيين هذا المعني نحتاج إلي قرينة معيّنة، كسائر الألفاظ المشتركة بالإشتراك اللفظي.

وحينئذ لو رجعنا إلي القرائن الموجودة في مثل هذا المورد، لرأينا أنّ القرائن الحاليّة والقرائن اللفظيّة، وبعبارة أُخري القرائن المقاميّة والقرائن اللفظيّة، كلّها تدلّ علي أنّ المراد من الولاية في هذه الآية هو المعني الذي تقصده الإماميّة، وهو الأولويّة والأحقيّة بالأمر.

ومن جملة القرائن اللّفظيّة نفس الروايات الواردة في هذا المورد.

يقول الفضل ابن روزبهان في ردّه «1» علي العلّامة الحلّي رحمة اللَّه عليه: إنّ القرائن تدلّ علي أنّ المراد من الولاية هنا النصرة، ف «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا»، أي إنّما ناصركم اللَّه ورسوله والذين يقيمون الصلاة. إلي آخر الآية المباركة.

فابن روزبهان يجعل الولاية بمعني النصرة، والنصرة أحد معاني لفظ الولاية كما في الكتب اللغويّة «2»، لكن الروايات الواردة في القضيّة تنفي أن يكون المراد من الولاية هنا النصرة.

مثلًا: هذه الرواية- وهي موجودة في [تفسير] الفخر الرازي «3»، وتفسير الثعلبي «4»، وفي كتب أُخري «5» -: أنّ النبيّ صلّي اللَّه عليه وآله لمّا علم بأنّ

عليّاً

__________________________________________________

(1) أنظر: إحقاق الحقّ 2/ 408.

(2) المصدر.

(3) تفسير الرازي 12/ 265.

(4) تفسير الثعلبي 4/ 80.

(5) شواهد التنزيل 1/ 230، نظم درر السمطين: 87.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 78

تصدّق بخاتمه للسائل، تضرّع إلي اللَّه وقال: «اللهمّ إنّ أخي موسي سألك قال:

«رَبِّ اشْرَحْ لي صَدْري* وَيَسِّرْ لي أَمْري* وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِساني* يَفْقَهُوا قَوْلي وَاجْعَلْ لي وَزيرًا مِنْ أَهْلي* هارُونَ أَخي* اشْدُدْ بِهِ أَزْري* وَأَشْرِكْهُ في أَمْري* كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثيرًا* وَنَذْكُرَكَ كَثيرًا* إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصيرًا» فأوحيت إليه: «قَدْ أُوتيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسي » «1»

، اللهمّ وإنّي عبدك ونبيّك فاشرح لي صدري ويسّر لي أمري واجعل لي وزيراً من أهلي عليّاً أُشدد به ظهري … » قال أبو ذر: فو اللَّه ما استتمّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله الكلمة حتّي هبط عليه الأمين جبرائيل بهذه الآية:

«إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ» إلي آخر الآية.

فهل يرتضي عاقل فاهم له أدني إلمام بالقضايا، وباللّغة، وبأُسلوب القرآن، وبالقضايا الواردة عن رسول اللَّه، هل يعقل حمل الولاية في هذه الآية مع هذه القرائن علي النصرة؟ بأن يكون رسول اللَّه يطلب من اللَّه سبحانه وتعالي أن يعلن إلي الملأ، إلي الناس، بأنّ عليّاً ناصركم، فيتضرّع رسول اللَّه بهذا التضرّع إلي اللَّه سبحانه وتعالي في هذا المورد، فيطلب من اللَّه نزول آية تفيد بأنّ عليّاً ناصر المؤمنين؟ وهل كان من شك في كون عليّاً ناصراً للمؤمنين حتّي يتضرّع رسول اللَّه في هذا المورد، مع هذه القرائن، وبهذا الشكل من التضرّع إلي اللَّه سبحانه وتعالي ، وقبل أن يستتمّ رسول اللَّه كلامه تنزل الآية من قبل اللَّه «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا» أي إنّما ناصركم اللَّه ورسوله والذين آمنوا إلي آخر الآية؟ هل يعقل أن يكون المراد

من «وَلِيُّكُمُ» أي ناصركم في هذه الآية مع هذه القرائن؟

إذن، لو أصبحت «الولاية» مشتركاً لفظيّاً، وكنّا نحتاج إلي القرائن المعيّنة

__________________________________________________

(1) سورة طه (20): 25- 36.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 79

للمعني المراد، فالقرائن الحاليّة والقرائن اللفظيّة كلّها تعيّن معني واحداً وهو:

الأولويّة، فالأولويّة الثابتة للَّه وللرسول ثابتة للذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة يؤتون الزكاة وهم راكعون.

إذن، عرفنا معني «إنّما» ومعني «الولاية» في هذه الآية.

ثمّ الواو في «وَالَّذينَ آمَنُوا» هذه الواو عاطفة، وأمّا الواو التي في «وَهُمْ راكِعُونَ» هذه الواو حاليّة أي في حال الركوع.

حينئذ، يتّم الإستدلال، إنّما وليّكم أي إنّما الأولي بكم: اللَّه ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون.

وإذن، فقد تمّ بيان شأن نزول الآية المباركة، وتمّ بيان وجه الإستدلال بالآية المباركة بالنظر إلي مفرداتها واحدة واحدة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 81

الجهة الثالثة … ص: 81

الاعتراضات والمناقشات … ص: 81

اشارة

وحينئذ، يأتي دور الاعتراضات، أمّا اعتراض ابن تيميّة، فقد عرفتم أنّه ليس باعتراض وإنّما هو افتراء، لا علي الإماميّة فقط، وإنّما افتراء علي عموم المفسّرين والمحدّثين من أهل السنّة أيضاً، هو افتراء علي المتكلّمين من كبار علماء طائفته، وهذا ديدن هذا الرجل في كتابه، وقد تتبّعت كتابه من أوّله إلي آخره، واستخرجت منه النقاط التي لو اطّلعتم عليها لأيّدتم من قال بكفر هذا الرجل، لا بكفره فقط بل بكفر من سمّاه بشيخ الإسلام «1».

وتبقي الاعتراضات الأُخري :

الاعتراض الأوّل: … ص: 81

هو الاعتراض في معني الولاية، وقد ذكرناه.

وذكرنا أنّ قائله هو الفضل ابن روزبهان الذي ردّ علي العلّامة الحلّي بكتابه [إبطال الباطل ]، والذي ردّ عليه السيّد القاضي نور اللَّه التستري بكتاب [إحقاق الحق ] «2»، وأيضاً ردّ عليه الشيخ المظفر في كتاب [دلائل الصدق ] «3».

__________________________________________________

(1) أنظر: كشف الظنون 1/ 220 و 338.

(2) إحقاق الحق 2/ 408.

(3) دلائل الصدق 4/ 299.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 82

الاعتراض الثاني: … ص: 82

احتمال أن تكون الواو في «وَهُمْ راكِعُونَ» عاطفة لا حاليّة، وحينئذ يسقط الاستدلال، لأنّا- نحن الطلبة- نقول: إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال، والاستدلال يتوقّف علي أن تكون الواو هذه حاليّة، فالذي أعطي الخاتم، إعطاؤه كان حال كونه راكعاً، وهو علي عليه السّلام، أمّا لو كانت الواو عاطفة يكون معني «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ» أي هم يركعون، يؤتون الزكاة ويصلّون ويركعون، إذن، لا علاقة للآية المباركة بالقضيّة، فهذا الإحتمال إنْ تمّ سقط الإستدلال.

لكنّ هذا الاحتمال يندفع بمجرّد نظرة سريعة إلي الروايات الواردة في القضيّة، كالروايات الواردة في كتاب [الدر المنثور]، فهي صريحة في كون الواو هذه حالّية …

ففي هذا الكتاب- وغيره من المصادر- عدّة روايات رويت بلفظ: «تصدّق علي وهو راكع» «1».

فالرسول صلّي اللَّه عليه وآله يسأل السائل: علي أيّ حال أعطاكه؟ يقول:

أعطاني وهو راكع، فالواو حاليّة، ولا مجال لهذا الإشكال.

الاعتراض الثالث: … ص: 82

هذا الاعتراض فيه أُمور:

الأمر الأوّل: من أين كان لعلي ذلك الخاتم؟ من أين حصل عليه؟

الأمر الثاني: ما قيمة هذا الخاتم، وبأيّ ثمن كان يسوي في ذلك الوقت؟

__________________________________________________

(1) تفسير ابن أبي حاتم 4/ 1162.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 83

ولا يستحقّ شي ء من هذا القبيل من الاعتراض أن ينظر إليه ويبحث عنه.

نعم يبقي :

الأمر الثالث: وله وجه مّا، وهو أنّه يفترض أن يكون علي عليه السّلام في حال الصلاة منشغلًا باللَّه سبحانه وتعالي ، منصرفاً عن هذا العالم، ولذا عندنا في بعض الروايات أنّه لمّا أُصيب في بعض الحروب بسهم في رجله، وأُريد إخراج ذلك السهم، قيل: انتظروا ليقف إلي الصلاة «1»، وأخرجوا السهم من رجله وهو في حال الصلاة، لأنه حينئذ لا يشعر بالألم، المفترض أن يكون أمير المؤمنين هكذا،

ففي أثناء الصلاة وهو مشغول باللَّه سبحانه وتعالي كيف يسمع صوت السائل؟

وكيف يلتفت إليه؟ وكيف يشير إليه ويومي بالتقدم نحوه، ثمّ يرسل يده ليخرج الخاتم من أصبعه؟ وهذا كلّه انشغال بأُمور دنيويّة، وعدول عن التكلّم مع اللَّه سبحانه وتعالي ، والإشتغال بذلك العالم.

هذا الإشكال قد يسمّي بالإشكال العرفاني، لأنّ الإشكال السابق مثلًا، حيث أرادوا جعل الواو عاطفة لا حاليّة، إشكال نحوي، فلنسمّ هذا الإشكال بالإشكال العرفاني، فاللَّه سبحانه وتعالي عندما يخاطب أمير المؤمنين في الصلاة وعلي يخاطبه، فهو منشغل باللَّه سبحانه وتعالي ، كيف يلتفت إلي هذا العالم؟

والجواب: … ص: 83

أوّلًا: لقد عُدّت هذه القضيّة عند اللَّه ورسوله وسائر المؤمنين من مناقب أمير المؤمنين، فلو كان لهذا الإشكال أدني مجال لمّا عُدّ فعله من مناقبه.

وثانياً: هذا الإلتفات لم يكن من أمير المؤمنين إلي أمر دنيوي، وإنّما كانت عبادة في ضمن عبادة.

__________________________________________________

(1)

احقاق الحق 8/ 602.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 84

ولعلّ الأفضل والأولي أنْ نرجع إلي أهل السنّة أنفسهم بل كبار أهل السنة الذين لهم ذوق عرفاني لنري ماذا يقولون:

يقول الآلوسي «1»: قد سُئل ابن الجوزي «2» هذا السؤال، فأجاب بشعرٍ عرفاني في نفس ذلك العالم، يقول فيه:

يسقي ويشربُ لا تلهيه سكرتهُ عن النديم ولا يلهو عن الناسِ

أطاعَهُ سُكرُهُ حتّي تمكّن من فعلِ الصحاةِ فهذا واحدُ الناسِ

هذا شعر ابن الجوزي الحنبلي، الذي نعتقد بأنّه متعصّب، لأنّه في كثير من الموارد نري ابن تيميّة والفضل ابن روز بهان وأمثالهما يعتمدون علي كتبه في ردّ فضائل أمير المؤمنين ومناقبه، أمّا في مثل هذا المورد، فإنه يجيب عن السؤال بالشعر المذكور.

أمير المؤمنين عليه السّلام جمعت في صفاته الأضداد، هذا موجود في حال أمير المؤمنين، وإلّا لم يكن واحد الناس، وإلّا لم يكن متفرّداً بفضائله

ومناقبه، وإلّا لم يكن وصيّاً لرسول اللَّه، وإلّا لم يكن كفواً للزهراء البتول بضعة رسول اللَّه، وإلي آخره.

فحينئذ هذا الإشكال أيضاً ممّا لا يرتضيه أحدٌ في حقّ أمير المؤمنين، بأن يقال: إنّ عليّاً انصرف في أثناء صلاته إلي أمر دنيوي.

نعم، وجدت في كتب أصحابنا- ولم أجد حتّي الآن هذه الرواية في كتب غير أصحابنا-: عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: تصدّقت بخاتمي أربعين مرّة ولم تنزل

__________________________________________________

(1) روح المعاني 6/ 169.

(2) ابن الجوزي هذا جدّ سبط ابن الجوزي، وإنّما نبّهنا علي هذا، لأنّه قد يقع اشتباه بين ابن الجوزي وسبط ابن الجوزي، فالمراد هنا: أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي الحافظ، صاحب المؤلّفات الكثيرة، المتوفي سنة 597 ه.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 85

في حقّي آية.

وثالثاً: لقد أخرج أهل السنّة بالأسانيد الصحيحة عندهم: أن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله خرج إلي الصّلاة وعلي عاتقه امامة ابنة بنته زينب، فكان إذا سجد وضعها علي الأرض فإذا قام أخذها ووضعها علي عاتقه … وهكذا إلي أن فرغ من الصّلاة «1».

فلو كان إعطاء علي عليه السلام الخاتم للسائل ينافي الصّلاة، فهذا الفعل من النبي عليه وآله وسلّم مناف لها بالأولويّة!

إذن، هذا الاعتراض أيضاً لا مجال له.

الاعتراض الرابع: … ص: 85

وهو الاعتراض المهم الذي له وجه علميّ، قالوا: بأنّ عليّاً مفرد، ولماذا جاءت الألفاظ بصيغة الجمع: «وَالَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ»؟

هذا الإشكال له وجه، ولايختصّ هذا الإشكال والاعتراض بهذه الآية، عندنا آيات أخري أيضاً، من ذلك: آية المباهلة التي فسّرناها من قبل، فإنها أيضاً بصيغة الجمع «وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ»، إلّاأنّ رسول اللَّه جاء بعلي فقط، وجاء بفاطمة والحال أنّ اللفظ لفظ جمع «وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ».

هذا الاعتراض يأتي في كثير من الموارد التي

تقع مورد الاستدلال، وفي سائر البحوث العلمية المختلفة لا في بحث الإمامة فقط.

الزمخشري الذي هو من كبار علماء العامّة، وليس من أصحابنا الإماميّة،

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 3/ 73، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 86

صاحب [الكشّاف ] وغيره من الكتب الكثيرة في العلوم المختلفة، يجيب عن هذا الإشكال، ومن المعلوم أنّ الكشاف هو تفسير للقرآن من الناحيّة الأدبيّة والبلاغيّة، وهذه هي ميزة هذا الكتاب بالنسبة إلي تفاسير القرآن، كما هو معروف عند أهل الخبرة.

يجيب الزمخشري عن هذا بما ملخّصه: أنّ الفائدة في مجي ء اللّفظ بصيغة الجمع في مثل هذه الموارد هو ترغيب الناس في مثل فعل أمير المؤمنين، لينبّه أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون علي هذا الحدّ من الحرص علي الإحسان إلي الفقراء والمساكين، لابدّ وأن يكونوا حريصين علي مساعدة الفقراء وإعانة المساكين، حتّي في أثناء الصلاة، وهذا شي ء مطلوب من عموم المؤمنين، ولذا جاءت الآية بصيغة الجمع. هذا جواب الزمخشري «1».

فإذن، لا يوافق الزمخشري علي هذا الاعتراض، بل يجيب عنه بوجه يرتضيه هو ويرتضيه كثير من علماء الفريقين.

ولكن، لو لم نرتض هذا الوجه ولم نوافق عليه، فقد وجدنا في القرآن الكريم وفي السنّة النبويّة الثابتة الصحيحة، وفي الإستعمالات العربيّة الصحيحة الفصيحة:

أنّ اللفظ يأتي بصيغة الجمع والمقصود شخص واحد، وكثير من هذا الإستعمال موجود في القرآن وفي السنّة وفي الموارد الأُخري .

مضافاً إلي جواب يجيب به غير واحد من العلماء الكبار «2»: أنّه في مثل هذا المورد أراد اللَّه سبحانه وتعالي أن يعظّم هذه الفضيلة أو هذا الفعل من علي، فجاء بلفظ الجمع إكراماً لعلي ولما فعله في هذه القضيّة.

وتبقي نظرية أُخري ، اختارها السيّد شرف الدين رحمة اللَّه عليه أيضاً

__________________________________________________

(1) تفسير الزمخشري 1/

624.

(2) تفسير الفخر الرازي 12/ 28، دلائل الصدق 4/ 312.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 87

وجعلها جواباً للسؤال المذكور، وملخّص كلامه أنه: لو جاءت الآية الكريمة بصيغة المفرد، لبادر أعداء أمير المؤمنين من المنافقين إلي التصرّف في القرآن الكريم وتحريف آياته المباركات عداءً لأمير المؤمنين، لا سيّما وإنّها ليست هذه الآية وحدها بل هناك آيات أُخري أيضاً جاءت بصيغة الجمع، والمراد فيها علي فقط، فلو جاءت بصيغة المفرد وقع التحريف في القرآن من المعاندين لأمير المؤمنين وسقط عن الحجية، وتلك مفسدة كبيرة جداً.

إنّه في مثل هذه الحالة يكون حفظ القرآن من التلاعب أهم، فجاءت الآية علي نحو الكناية وهي أبلغ من التصريح، من أن بصيغة الجمع يأتي اللفظ بصيغة المفرد: والذي آمن وصلّي وتصدّق بخاتمه في الصلاة في الركوع أو آتي الزكاة وهو راكع هو علي، لكن اللفظ وإن لم يكن صريحاً باسمه إلّاأنّه أدل علي المطلوب من التصريح «1».

ويؤيّد هذا الوجه رواية واردة عن إمامنا الصادق عليه السّلام «2» بسند معتبر، يقول الراوي للإمام ما معناه: لماذا لم يأت اسم علي في القرآن بصراحة؟ فأجاب الإمام عليه السّلام: لو جاء اسمه بصراحة وبكلّ وضوح في القرآن الكريم، لحذف المنافقون اسمه ووقع التصرّف في القرآن، وقد شاء اللَّه سبحانه وتعالي أن يحفظ القرآن «وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ» «3».

وهذه وجوه تذكر جواباً عن السؤال: لماذا جاءت الكلمة أو الكلمات بصيغة الجمع؟

ولعلّ أوفق الوجوه في أنظار عموم الناس وأقربها إلي الفهم: أنّ هذا

__________________________________________________

(1) المراجعات: 379، دلائل الصدق 4/ 312.

(2) الكافي 1/ 386.

(3) سورة الحجر (15): 9.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 88

الإستعمال له نظائر كثيرة في القرآن الكريم، وفي السنّة النبويّة، وفي الإستعمالات الصحيحة الفصيحة، حيث جاءت الألفاظ بصيغة الجمع

لكن المراد واحد أو اثنان، ثم إن الروايات المعتبرة المتّفق عليها دلّت علي أنّ المراد هنا خصوص علي عليه السّلام.

إذن، فمجئ اللفظ بصيغة الجمع لابدّ وأن يكون لنكتة، تلك النكتة ذكرها الزمخشري بشكل، والطبرسي بنحو آخر، والسيد شرف الدين بنحو ثالث، وهكذا.

وإذا راجعتم كتاب [الغدير] «1» لوجدتم الشيخ الأميني رحمة اللَّه عليه يذكر قسماً من الآيات التي جاءت بصيغة الجمع وأُريد منها الشخص الواحد، ويذكر الروايات والمصادر التي يستند إليها في شأن نزول تلك الآيات الواردة بصيغة الجمع والمراد منها المفرد.

فإذن، لا غرابة في هذه الجهة.

وكانت تلك عمدة الاعتراضات المطروحة حول هذه الآية المباركة.

إذن، بيّنّا شأن نزول الآية، وبيّنّا وجه الاستدلال بالآية، وتعرّضنا لعمدة المناقشات في هذا الاستدلال، وحينئذ لا يبقي شي ء آخر نحتاج إلي ذكره.

نعم، هناك بعض الأحاديث أيضاً- كما أشرت من قبل- هي مؤيّدة لاستدلالنا بهذه الآية المباركة علي إمامة أمير المؤمنين، منها حديث الغدير، ومنها حديث الولاية الذي أشرت إليه من قبل.

فحينئذ، لا أظنّ أنّ الباحث الحر المنصف يبقي متردّداً في قبول استدلال أصحابنا بالآية المباركة علي إمامة أمير المؤمنين، فتكون الآية من جملة أدلّة إمامته

__________________________________________________

(1) الغدير 3/ 163.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 89

عن طريق ثبوت الأولويّة له، تلك الأولويّة الثابتة للَّه ولرسوله، فيكون علي وليّاً للمؤمنين، كما أنّ النبي وليّ المؤمنين، و هذه المنقبة والفضيلة لم تثبت لغير علي، وقد ذكرنا منذ اليوم الأوّل أنّ طرف النزاع أبو بكر، وليس لأبي بكر مثل هذه المنقبة والمنزلة عند اللَّه ورسوله.

وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 93

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

تعرضنا

في البحوث السابقة إلي بعض آياتٍ من القرآن الكريم يُستدلّ بها علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، وكانت الآيات المذكورة دالة علي عصمته، أو علي ولايته، أو علي أفضليّته عليه السّلام من غيره، فكانت دالة علي إمامة أمير المؤمنين بالوجوه المختلفة.

ننتقل الآن إلي السنّة، لنبحث في عدّة من الأحاديث المُستدلّ بها علي إمامة أمير المؤمنين، فإنّ الأحاديث الواردة في كتب أهل السنّة الدالّة علي إمامته عليه السّلام كثيرة لا تحصي ، وهي أيضاً تنقسم إلي أقسام:

منها: ما هو نصّ في إمامته وخلافته.

ومنها: ما يدلّ علي أفضليّته بعد رسول اللَّه.

ومنها: ما يدلّ علي أولويّته وولايته.

ومنها: ما يدلّ علي العصمة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 94

حديث الدار … ص: 94

اشارة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 95

نصّ حديث الدار … ص: 95

وموضوع بحثنا في هذه الليلة حديث الإنذار أو حديث الدار.

لمّا نزل قوله تعالي «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ» «1»

دعا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله رجال عشيرته، ودعاهم إلي الإسلام، وهذا الخبر وارد في كتب التاريخ، وفي كتب السيرة، وفي كتب التفسير، وفي كتب الحديث أيضاً.

قبل كلّ شي ء، أقرأ لكم نصّ الحديث عن [تفسير البغوي ] المتوفي سنة 510، يقول الحافظ البغوي:

روي محمّد بن إسحاق، عن عبدالغفار بن القاسم، عن المنهال بن عمرو، عن عبداللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطّلب، عن عبداللَّه بن عباس، عن علي بن أبي طالب قال:

لمّا نزلت هذه الآية علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله «وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ» دعاني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فقال: يا علي، إنّ اللَّه يأمرني أن أُنذر عشيرتي الأقربين، فضقت بذلك ذرعاً، وعرفت أنّي متي أُباديهم بهذا الأمر أري منهم ما أكره، فصمتُّ عليها، حتّي جاءني جبرئيل فقال لي: يا محمد إلّاتفعل ما تؤمر يعذّبك ربّك، فاصنع لنا صاعاً من طعام، واجعل عليه رِجل شاة، واملألنا

__________________________________________________

(1) سورة الشعراء (26): 214.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 96

عسّاً من لبن، ثمّ اجمع لي بني عبدالمطّلب حتّي أُبلّغهم ما أُمرت به.

ففعلت ما أمرني به، ثمّ دعوتهم له، وهم يومئذ أربعون رجلًا، يزيدون رجلًا أو ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب وحمزة والعباس وأبو لهب.

فلمّا اجتمعوا إليه، دعاني بالطعام الذي صنعته، فجئتهم به، فلمّا وضعته، تناول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله جذبة من اللحم، فشقّها بأسنانه، ثمّ ألقاها في نواحي الصفحة، ثمّ قال: خذوا باسم اللَّه، فأكل القوم حتّي ما لهم بشي ء حاجة، وأيم اللَّه أنْ كان الرجل الواحد منهم ليأكل مثل ما

قدمت لجميعهم.

ثمّ قال: إسقِ القوم، فجئتهم بذلك العس فشربوا حتّي رووا جميعاً، وأيم اللَّه أنْ كان الرجل الواحد منهم ليشرب مثله.

فلمّا أراد رسول اللَّه أن يكلّمهم بدره أبو لهب فقال: سحركم صاحبكم، فتفرّق القوم ولم يكلّمهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

فقال في الغد: يا علي، إنّ هذا الرجل قد سبقني إلي ما سمعت من القول، فتفرّق القوم قبل أنْ أُكلّمهم، فأعد لنا من الطعام مثل ما صنعت ثمّ اجمعهم، ففعلت ثمّ جمعت، فدعاني بالطعام فقرّبته، ففعل كما فعل بالأمس، فأكلوا وشربوا، ثمّ تكلّم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فقال:

يا بني عبدالمطّلب، إنّي قد جئتكم بخيري الدنيا والآخرة، وقد أمرني اللَّه تعالي أنْ أدعوكم إليه، فأيّكم يوآزرني علي أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟

فأحجم القوم عنها جميعاً.

فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: يا نبيّ اللَّه، أكون وزيرك عليه.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 97

قال: فأخذ برقبتي وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا.

فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أنْ تسمع لعلي وتطيع «1».

__________________________________________________

(1) معالم التنزيل 4/ 278- 279.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 99

رواة حديث الدار … ص: 99

هذا الخبر يرويه محمّد بن إسحاق مسنداً عن ابن عباس، وهو موجود في كتاب [كنز العمال ] مع فرق سأذكره فيما بعد.

يرويه صاحب كنز العمال عن:

1- ابن إسحاق.

2- ابن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ.

3- ابن أبي حاتم الرازي، صاحب التفسير المعروف.

4- ابن مردويه.

5- أبي نعيم الإصفهاني الحافظ.

6- البيهقي «1».

فرواة هذا الحديث أئمّةٌ أعلام من أهل السنّة، منهم: محمّد بن إسحاق صاحب السيرة، المتوفي سنة 152 «2».

محمّد بن إسحاق يروي هذا الخبر عن عبدالغفار بن القاسم، وهو أبو مريم

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13/ 131 رقم 36419، وأنظر: تفسير الطبري 19/ 149،

سنن البيهقي: 759، تفسير ابن أبي حاتم 9/ 2826 رقم 16015 باختلاف.

(2) من رجال البخاري- في المتابعات- ومسلم والأربعة. تقريب التهذيب 2/ 144.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 100

الأنصاري، وهو شيخ من شيوخ شعبة بن الحجاج الذي يلقّبونه بأمير المؤمنين في الحديث ويقولون بترجمته إنّه لا يروي إلّاعن ثقة «1»، وشعبة بن الحجاج كان يثني علي عبدالغفار بن القاسم الذي هو شيخه، لكن المتأخرين من الرجاليين يقدحون في عبدالغفار، لأنّه كان يذكر بلايا عثمان، أي كان يتكلّم في عثمان، أو يروي بعض مطاعنه، ولذا نري في [ميزان الإعتدال ] عندما يذكره الذهبي يقول:

رافضي «2». فإذا عرفنا وجه تضعيف هذا الرجل وهو التشيع، أو نقل بعض قضايا عثمان، إذا عرفنا هذا السبب للجرح، فقد نصّ ابن حجر العسقلاني في [مقدمة فتح الباري ] في شرح البخاري علي أنّ التشيع بل الرفض لا يضر بالوثاقة، هذا نص عبارة الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة شرح البخاري «3».

فإذن، هذا الرجل لا مطعن فيه ولا سبب للجرح، إلّاأنّه يروي بعض مطاعن عثمان، لكن شعبة تلميذه يروي عنه ويثني عليه، وشعبة- كما ذكرنا- أمير المؤمنين عندهم في الحديث. فهذا عبدالغفار بن القاسم.

والمنهال بن عمرو، من رجال صحيح البخاري، والصحاح الأربعة الأُخري فهو من رجال الصحاح ما عدا صحيح مسلم «4».

وأمّا عبداللَّه بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبدالمطلّب، فهذا من رجال الصحاح الستّة كلّها «5» عن عبداللَّه بن العباس.

__________________________________________________

(1)

تاريخ أسماء الثقات: 9، تاريخ بغداد 9/ 255.

(2) ميزان الإعتدال 2/ 640، رقم (5147).

(3) هدي الساري: 382 و 398.

(4) من رجال البخاري والأربعة، تقريب التهذيب 2/ 278.

(5) تقريب التهذيب 1/ 408.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 101

عن أمير المؤمنين علي عليه السّلام.

فالسند في نظرنا معتبر، وعلي

ضوء كلمات علمائهم في الجرح والتعديل، إلّا عبدالغفار بن القاسم، الذي ذكرنا وجه الطعن فيه والسبب في جرحه، وهذا السبب ليس بمضر بوثاقته، استناداً إلي تصريح الحافظ ابن حجر العسقلاني في مقدمة فتح الباري «1».

فهذا نص الخبر، وفيه- كما سمعتم- أنّ النبي يقول: «فأيّكم يوآزرني علي أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فقال أمير المؤمنين: يا نبي اللَّه أكون وزيرك عليه، فأخذ رسول اللَّه برقبة علي وقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب:

قد أمرك أن تسمع لعلي وتطيع».

وليست الإمامة والخلافة إلّا: وجوب الإطاعة، ووجوب الإقتداء، ووجوب الأخذ، ووجوب التمسّك بالشخص، وأيّ نصّ أصرح من هذا في إمامة علي أو غير علي؟

يعني لو كان هذا اللفظ وارداً في حقّ غير علي بسندٍ معتبر متفق عليه لوافقنا نحن علي إمامة ذلك الشخص.

فهذا هو الخبر، وهو خبر متفق عليه بين الطرفين، إذ ورد هذا الخبر بأسانيد علمائنا وأصحابنا في كتبنا المعتبرة المشهورة.

فمن رواة هذا الخبر:

1- ابن إسحاق، صاحب السيرة «2».

__________________________________________________

(1) هدي الساري: 382، 398.

(2) سيرة ابن اسحاق (السيرة النبوية): 187.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 102

2- أحمد بن حنبل، يروي هذا الخبر في مسنده «1».

3- النسائي، صاحب الصحيح «2».

4- الحافظ أبو بكر البزار، صاحب المسند.

5- الحافظ سعيد بن منصور، في مسنده.

6- الحافظ أبو القاسم الطبراني، في المعجم الأوسط «3».

7- الحافظ أبو عبداللَّه الحاكم النيسابوري، في مستدركه علي الصحيحين.

8- أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري.

9- الحافظ أبو جعفر الطحاوي، صاحب كتاب مشكل الآثار.

10- عبدالرحمن بن أبي حاتم الرازي، صاحب التفسير.

11- أبو بكر بن مردويه.

12- الحافظ أبو نعيم الإصفهاني، صاحب دلائل النبوة وكتاب حلية الأولياء.

13- الحافظ البغوي، صاحب التفسير.

14- الضياء المقدسي،

في كتابه المختارة، هذا الكتاب الذي التزم فيه الضياء المقدسي بالصحة، فلا يروي في كتابه هذا الّا الروايات الصحيحة المعتبرة، ولذا قدّمه بعض علمائهم في الاعتبار علي مثل المستدرك للحاكم، ومن جملة من ينصّ علي ذلك ابن تيميّة صاحب منهاج السنّة، حيث يري أنّ كتاب المختارة أفضل وأتقن من المستدرك للحاكم «4».

15- الحافظ ابن عساكر الدمشقي، صاحب تاريخ دمشق.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 109.

(2) سنن النسائي 6/ 248.

(3) المعجم الأوسط 2/ 276.

(4) الفتاوي الكبري 3/ 48.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 103

16- أبو بكر البيهقي، صاحب دلائل النبوة.

17- الحافظ ابن الأثير، صاحب الكامل في التاريخ.

18- الحافظ أبو بكر الهيثمي، في كتابه مجمع الزوائد يروي هذا الحديث «1».

19- الحافظ الذهبي، في تلخيص المستدرك ينصّ علي صحّة هذا الحديث.

20- الحافظ جلال الدين السيوطي، في كتابه الدر المنثور.

21- الشيخ علي المتقي الهندي، صاحب كنز العمال، يرويه فيه عن: أحمد، والطحاوي، وابن إسحاق، ومحمّد بن جرير، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبي نعيم الإصفهاني، والضياء المقدسي «2».

هذا بالنسبة إلي متن الحديث، وعدّة من كبار علماء القوم الرواة لهذا الحديث في كتبهم.

وأمّا بالنسبة إلي سنده، فسنده في كتاب محمّد بن إسحاق «3» قد قرأته لكم وصحّحت السند.

ويقول الحافظ الهيثمي في كتابه [مجمع الزوائد] بعد أن يرويه عن أحمد بن حنبل: رواه أحمد ورجاله ثقات «4».

ويقول- بعد أن يرويه بسندٍ آخر عن غير واحد من كبار أئمة الحديث كأحمد بن حنبل-: «رجال أحمد وأحد إسنادي البزّار رجال الصحيح غير شريك وهو ثقة» «5».

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد ومنبع الفوائد 9/ 113، وفيه: وإسناده جيّد.

(2) كنز العمّال 13/ 131، رقم 36419.

(3) سيرة ابن اسحاق: 187.

(4) مجمع الزوائد 8/ 302- باب معجزاته صلّي اللَّه عليه وسلّم في

الطعام.

(5) المصدر 8/ 303.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 104

إذن، حصلنا علي أسانيد عديدة ينصّون علي صحّتها.

مضافاً: إلي سند الحافظ المقدسي في كتابه [المختارة] الملتزم في هذا الكتاب بالصحّة.

كما ذكر المتقي الهندي صاحب كنز العمال: أنّ الطبري محمّد بن جرير قد صحّح هذا الحديث «1».

وأيضاً، صحّحه الحاكم في [المستدرك ] عن ابن عباس في حديث طويل، ووافقه علي التصحيح الحافظ الذهبي في [تلخيص المستدرك ].

وأيضاً نصّ علي صحّة هذا الحديث الشهاب الخفاجي في [نسيم الرياض ] وهو شرحه علي كتاب الشفاء للقاضي عياض، حيث يذكر هناك معاجز رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ومن جملة معاجزه هذه القضية، حيث أنّ الطعام كان صاعاً واحداً وعليه رِجل شاة فقط، فأكلوا كلّهم وشبعوا، وهذا من جملة معاجز رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ويقول الشهاب الخفاجي: إنّ سند هذا الخبر صحيح «2».

ونراجع نصوص الحديث في الكتب المختلفة، نجد في بعضها هذا اللّفظ:

«فأيّكم يوآزرني علي أمري هذا ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم؟ قال علي: أنا يا نبيّ اللَّه، أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي فقال: إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا، فقام القوم يضحكون ويقولون لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعلي».

وهذا لفظ، وقد قرأناه عن عدّة من المصادر.

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13/ 133.

(2) نسيم الرياض في شرح الشفاء للقاضي عياض 3/ 35.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 105

لفظ آخر: «من يضمن عنّي ديني ومواعيدي ويكون معي في الجنّة ويكون خليفتي في أهلي؟ فقيل له: أنت كنت بحراً، من يقوم بهذا، فعرض ذلك علي أهل بيته واحداً واحداً، فقال علي: أنا، فبايعه رسول اللَّه علي هذا» «1».

ومن ألفاظ هذا الحديث ما يلي: «قال رسول اللَّه: من يبايعني علي أن يكون أخي ووصيّي

ووليّكم من بعدي؟ قال علي: فمددت يدي فقلت: أنا أُبايعك.

فبايعني رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله» «2».

فهذه ألفاظ الحديث، وتلك أسانيده، وتلك كلمات كبار علمائهم في صحّة هذا الحديث وتنصيصهم علي ثقة رواته.

__________________________________________________

(1) تفسير ابن كثير 3/ 363، كنز العمّال 13/ 128 رقم 36408.

(2) كنز العمّال 13/ 149 رقم 36465.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 107

دلالة حديث الدار علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام … ص: 107

اشارة

وهذا الحديث الصحيح المتفق عليه، هو من جملة أدلّتنا علي إمامة أمير المؤمنين وولايته بالنص.

وإنّما اخترت من بين الأحاديث التي هي نصّ علي إمامة أمير المؤمنين هذا الحديث في هذه الليلة، وقدّمته في البحث والدراسة، لخصوصيات موجودةٍ فيه قد لا تكون في غيره، مضافاً إلي صحّته وكونه مقبولًا بين الطرفين، بل يمكن دعوي تواتر هذا الحديث:

الخصوصية الأولي : … ص: 107

صدور هذا الحديث في أوائل الدعوة النبويّة، وفي بدء البعثة المحمّديّة، فكأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله مأمورٌ بأنْ يبلّغ ثلاثة أُمور في آن واحد وفي عرضٍ واحد:

مسألة التوحيد والدعوة إلي اللَّه سبحانه وتعالي .

ومسألة رسالته والإيمان بنبوّته عليه وآله السّلام.

ومسألة خلافة علي عليه السّلام من بعده.

وقد أسفر ذلك المجلس وتلك الدعوة عن الأُمور الثلاثة جميعاً.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 108

الخصوصية الثانية: … ص: 108

إنّ القوم من أبي لهب وغيره قالوا- وهم يضحكون- لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لابنك علي.

هذا ممّا يؤيّد استنتاجنا من هذا الحديث واستظهارنا من لفظه الثابت، إنّه حتّي أُولئك المشركون أيضاً فهموا من هذه الدعوة، ومن الكلام الذي سمعوه من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: إنّه يريد أن ينصب عليّاً إماماً مطاعاً من بعده لعموم الناس.

الخصوصية الثالثة: … ص: 108

إستدلال أمير المؤمنين عليه السّلام بهذا الخبر في جواب سائل لا يشكّ في كونه هو الوارث لرسول اللَّه وإنما يسأل عن السبب، كما يروي هذا النسائي في [صحيحه ] «1» يقول: إنّ رجلًا قال لعلي: يا أمير المؤمنين: بم ورثت ابن عمّك دون عمّك؟ أي: بأيّ دليل أصبحت أنت وارثاً لرسول اللَّه ولم يكن العباس وارثاً لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله؟ فذكر الإمام عليه السّلام حديث الإنذار يوم الدار، وجاء لفظه في هذه الرواية: عن رسول اللَّه أنه قال: أنت أخي ووارثي ووزيري.

فذكر أمير المؤمنين في جواب هذا السائل حديث الدار ثمّ قال: فبذلك ورثت ابن عمّي دون عمّي.

إذن، يصبح علي عليه السّلام بحكم هذا الحديث القطعي المتفق عليه، خليفة لرسول اللَّه ووزيراً له ووارثاً ووصيّاً وقائماً مقامه ووليّه من بعده، والناس

__________________________________________________

(1) السنن الكبري: كتاب الخصائص، ذكر خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه 5/ 126 رقم 8451، وهو من صحيحه كما ثبت في محلّه.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 109

كلّهم مأمورون بأنْ يطيعوه ويسمعوه.

أو ليست الخلافة والإمامة هذا؟

وأيّ شي ء يريدون منّا عند إقامتنا الأدلّة علي إمامة أمير المؤمنين أوضح وأصرح من مثل هذه الأحاديث الواردة في كتبهم وبأسانيد معتبرة ينصّون هم علي صحّتها؟

وهل ورد مثل هذا في حقّ أحدٍ غير علي مع هذه

الخصوصيات، من حيث السند والدلالة والقرائن الموجودة في لفظه؟

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 111

مع علماء أهل السنة في حديث الدار … ص: 111

اشارة

وحينئذ يأتي دور مواقف العلماء من أهل السنّة، الذين يريدون- في الحقيقة- أن يبرّروا ما وقع، الذين يحاولون أن يوجّهوا ما كان!!

لقد اختلفت مواقفهم أمام هذا الحديث الصحيح سنداً، الصريح دلالةً علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام.

مع الفضل ابن روزبهان: … ص: 111

يقول الفضل ابن روزبهان: إنّ كلمة «خليفتي» التي هي مورد الإستدلال غير موجودة في مسند أحمد، وهي من إلحاقات الرافضة «1».

إنه لو لم يكن مسند أحمد موجوداً بين أيدينا، ولو لم يحتمل أنْ ينظر أحد في كتاب مسند أحمد، لأمكن للفضل أن يتفوّه بمثل هذه الكلمة ويتركه علي عواهنه، ويفتري علي الإماميّة، ولكن ينبغي أن يكون الإنسان- عندما يتكلّم- يتصوّر الآخرين يسمعون كلامه، ويلتفت إلي أنّهم سيراجعون المصادر التي يحيل إليها، إمّا إثباتاً وإمّا نفياً، وإلّا فمن العيب للإنسان العاقل إذا أراد أن يتكلّم يتصوّر الناس كأنّهم لا يسمعون، أو لا يفهمون، أو أنهم لا يعرفون المصادر أو

__________________________________________________

(1) أنظر: دلائل الصدق 2/ 359.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 112

سوف لا يراجعون الكتب التي يذكرها.

إنّ هذا الحديث موجود في غير موضع من مسند أحمد بن حنبل، والكلمة أيضاً موجودة في رواية مسند أحمد، وقد راجعناه نحن، ومسند أحمد بن حنبل موجود الآن بين أيدينا «1».

فالتكلّم بهذا الأُسلوب، إمّا أن يكون من التعصّب وقلّة الحياء، وإمّا أن يكون من الجهل وعدم الفهم، وإلّا، فكيف يكذّب الإنسان مثل العلّامة الحلّي الذي هو في مقام الإستدلال علي العامّة بكتبهم، ينقل عنهم ليستدلّ بما يروونه، فيلحق كلمة أو كلمات في حديث؟! هذا شي ء لا يكون من العلّامة الحلّي وأمثاله.

هذا بالنسبة إلي الفضل ابن روزبهان، وقد أراد أن يريح نفسه بهذا الأُسلوب.

مع ابن تيمية: … ص: 112

وأمّا ابن تيميّة، فقد أراح نفسه بأحسن من هذا، وأراد أنْ يريح الآخرين أيضاً، قال: هذا الحديث كذب عند أهل المعرفة بالحديث، فما من عالم يعرف الحديث إلّا وهو يعلم أنّه كذب موضوع، ولهذا لم يروه أحد منهم في الكتب التي يرجع إليها في المنقولات، لأنّ أدني من له معرفة

بالحديث يعلم أنّ هذا كذب «2».

إنّ هذا الأُسلوب من الكلام يدلّ بشكل آخر علي صحّة هذا الحديث، وتماميّة الإستدلال به، أي لولا صحّة هذا الحديث وتماميّة دلالته علي مدّعي الإمامية، لما التجأ ابن تيميّة إلي أن يقول هذا الكلام، وبهذه الصّورة، وأن يتهجّم علي العلماء من الشيعة- والسنّة أيضاً- لرواياتهم هذا الحديث، لأنّه يقول: إنّ أدني من له معرفة بالحديث يعلم أنّ هذا كذب.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 159.

(2) منهاج السنّة 7/ 302.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 113

إذن، فأحمد بن حنبل مع علمه بكون هذا الحديث كذباً يرويه أكثر من مرّة في مسنده! ومحمّد بن جرير الطبري في تاريخه يروي هذا الخبر مع علمه بأنّه كذب! والنسائي أيضاً! وأبو بكر البزّار كذلك! وو …، وهؤلاء كبار أئمّة أهل السنّة وأعلام محدّثيهم، يروون مثل هذا الحديث وهم يعلمون أنّه كذب!!

ولو أمكن للإنسان أن يرتاح بمثل هذه الأساليب، فلكلّ منكر أن ينكر في أيّ بحثٍ من البحوث، في أيّ مسألةٍ من المسائل، سواء في أُصول الدين أو في فروع الدين، أو في قضايا أُخري وعلوم أُخري ، يكتفي بالإنكار، وبالنفي، والتكذيب.

لكن هذا الأُسلوب ليس له قيمة في سوق الإعتبار، يسمع ولا يعتني به، ولا جدوي له ولا فائدة، لذلك لابدّ من أساليب أُخري .

تحريف الحديث: … ص: 113

من جملة الأساليب: تحريف الحديث، فالطبري يروي هذا الحديث في تاريخه وفي تفسيره أيضاً، فإنْ رجعتم إلي التاريخ، لرأيتم الحديث كما ذكرناه، ورووه عنه في كتبهم كصاحب [كنز العمال ] «1» وغيره، وأيضاً السيوطي في [الدر المنثور] «2» يروي هذا الحديث عن الطبري، وينصّ صاحب كنز العمال علي أنّ الطبري قد صحّح هذا الحديث، فالحديث في تاريخه كما رأيتم وسمعتم.

أمّا في تفسيره، إذا لاحظتم [تفسير الطبري ] في ذيل

هذه الآية المباركة:

«وَأَنْذِرْ عَشيرَتَكَ اْلأَقْرَبينَ» تأتي العبارة بهذا الشكل: «إنّ هذا أخي وكذا وكذا» «3»، وأصل العبارة: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم»، جاء بدل هذه العبارة: «إنّ

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 113، كنز العمّال 13/ 131.

(2) الدرّ المنثور 6/ 324- 329.

(3) تفسير الطبري 19/ 149.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 114

هذا أخي وكذا وكذا».

لكنّنا لا نعلم، هل هذا من صنع الطبري نفسه، أو من النسّاخ لتفسيره، أو من الطابعين؟ هذا لا نعلمه، ولا يمكننا أنْ نرمي الطبري نفسه، لأنّه يكون من باب الرجم بالغيب، واللَّه العالم.

هذا هو أُسلوب التحريف.

وأيضاً، إذا راجعتم [الدر المنثور] للسيوطي، ففي هذا الكتاب، ينقل الحديث عن نفس الأشخاص من ابن إسحاق، وابن جرير الطبري، وأبي نعيم، والبيهقي، وابن مردويه، وغيرهم، لكن لمّا يصل إلي هذه الجملة التي هي محلّ الإستدلال، يذكر بهذا الشكل: «فأيّكم يو آزرني علي أمري هذا، فقلت وأنا أحدثهم سنّاً: أنا، فقام القوم يضحكون» «1»، ولا يوجد أكثر من هذا، يعني: إنه قد حذف من اللفظ جملة: «ويكون أخي ووصيّي وخليفتي فيكم».

وأيضاً حذفوا منه: قام القوم يضحكون وقالوا لأبي طالب: قد أمرك أن تسمع وتطيع لعليّ.

وهل هذا من السيوطي نفسه أو من النسّاخ أو من الناشرين للكتاب؟ لا نعلم.

مع الندوي: … ص: 114

ومن علماء العامّة المؤلِّفين المعروفين في هذا الزمان: أبو الحسن الندوي.

وهذا الرجل- الذي هومن كبار عماء السنّة، يسكن في الهند، وعنده دار الندوة مدرسة كبيرة يعلّم هناك الطلبة ويدرّبهم، وله ارتباطات ببعض الحكومات الاخري-، له كتب، ومن جملة مؤلفاته كتاب سمّاه [المرتضي سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه وكّرم اللَّه وجهه ]، وهو كتاب صغير في حجمه

__________________________________________________

(1) الدرّ المنثور 6/ 324- 329.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 115

جدّاً،

وكثير من مطالب هذا الكتاب لا علاقة لها بأمير المؤمنين أصلًا، لعلّ مائة صفحة أو مائة وخمسين صفحة من هذا الكتاب- الذي هو في مائتين وخمسين صفحة تقريباً- يتعلّق بالإمام عليه السلام، وأصبح كتاب سيرة علي بن أبي طالب عليه السّلام وكرّم اللَّه وجهه!! في مائة وخمسين صفحة تقريباً!! فهناك عندما يصل إلي هذه القضية يقول:

وتكلّم ابن كثير في بعض رواة القصة، وفيها ما يشكك في صحّتها وضبطها.

انتهي.

وهذا غاية ما حقّقه هذا الرجل العالم في نظرهم الذي له أتباع وأنصار في مختلف البلاد.

مع هيكل: … ص: 115

وأمّا محمّد حسين هيكل، فقد قامت القيامة عليه عندما نشر كتابه في السيرة النبويّة باسم [حياة محمّد]، وذكر القصة بالنصوص المذكورة عن سائر كتب قومه، قامت القيامة ضدّه وهرّجوا عليه، حتّي ألجأوه إلي حذف القصة في الطبعة الثانية من كتابه.

مع البوطي: … ص: 115

ويأتي محمّد سعيد رمضان البوطي، فيؤلّف كتاباً في السيرة النبويّة يسمّيها [فقه السيرة النبويّة]، يكتب السيرة النبويّة كما يشاء هواه، وهناك إذا راجعتم كتابه تجدونه لا يشير إلي هذه القصة لا من قريب ولا من بعيد، وهذا أيضاً له أنصار وأتباع وأعوان، ويذكر كعالم من علمائهم في هذا الزمان.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 117

خاتمة المطاف … ص: 117

فتلخّص ممّا ذكرنا: إنّ حديث الدار يوم الإنذار، حديث متفق عليه بين الطرفين، مقطوع الصدور، وقد يمكن دعوي أنّ هذا الخبر قد بلغ إلي حدّ الدراية، ولا يحتاج إلي رواية، ورواه كبار علماء القوم في كتبهم ونصّوا علي صحّته، كما ذكرت لكم بعض الكلمات.

كما أنّي حصلت علي سند محمّد بن إسحاق، وقد قرأته لكم ووثّقت رجاله، إلّا عبدالغفار بن القاسم الذي تكلّموا فيه، لأنّه كان يذكر بعض معايب عثمان ورموه بالتشيّع والرفض، وقد قلنا: إنّ التشيّع والرفض لا يضرّان بالوثاقة كما نصّ الحافظ ابن حجر العسقلاني في [مقدمة شرح البخاري ] «1»، مضافاً إلي أنّ هذا الرجل يثني عليه شعبة ويروي عنه، وشعبة عندهم أمير المؤمنين في الحديث «2».

فإذاً، قد تمّ سنده، وكانت دلالته صريحة، ثمّ رأينا أنّهم لا يملكون كلاماً معقولًا في الجواب عن هذا الإستدلال.

مثلًا: إذا تراجعون [منهاج السنّة] يقول في الإشكال علي هذا الخبر: بأنّ رجال قريش في ذلك العهد لم يكونوا يبلغون الأربعين، وهذا من علائم كذب

__________________________________________________

(1) هدي الساري: 383 و 398.

(2) تاريخ أسماء الثقات: 9، تاريخ بغداد 9/ 255.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 118

هذا الخبر «1».

هذا وجه يقوله ابن تيميّة، لا أدري من الّذي يرتضي هذا الكلام من مثل هذا الشخص الذي هو شيخ إسلامهم!؟

وأيضاً: إنّه يشكل علي هذا الخبر: بأنّ العرب لم يكونوا أكّالين بهذا المقدار،

بحيث أنّ هؤلاء أكلوا وشبعوا والطعام كفاهم كلّهم، فهذا من قرائن كذب هذا الخبر «2».

ليس عندهم كلام معقول يذكر في مقام ردّ الإستدلال بهذا الحديث، لذا تراهم يلتجئون إلي التحريف، يلتجئون إلي التصرّف في الحديث.

وإنّني علي يقين بأنّ الباحث الحرّ المنصف، إذا وقف علي هذا المقدار من البحث، أيّ باحث يكون، سواء كان مسلماً أو خارجاً عن الدين الإسلامي ويريد أن يحقّق في مثل هذه القضايا، لو أُعطي هذا الحديث مع مصادره، وعرف رواة هذا الحديث، وأنّهم كبار علماء السنّة في العصور المختلفة، ثمّ لاحظ متن الحديث ولفظه بدقّة، ثمّ راجع كلمات المناقشين في هذا الحديث والمعارضين لهذا الإستدلال، من مثل ابن تيميّة والفضل ابن روزبهان وأمثالهما، ولاحظ تصرّفات هؤلاء في متن هذا الحديث.

لو أنّ هذا الباحث الحرّ المنصف يحقّق هذه الأُمور، أنا علي يقين بأنه سيكفيه هذا الحديث وحده للإعتقاد بإمامة علي بعد رسول اللَّه، كما أنّي أعتقد أنّ الذين يأخذون معارف دينهم ومعالمه من مثل الفضل ابن روزبهان أو من مثل ابن تيميّة أو الندوي أو البوطي، لو دقّقوا النظر وراجعوا القضايا علي واقعيّاتها،

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7/ 304.

(2) المصدر 7/ 306.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 119

واستمعوا القول لاتّباع الأحسن، لرفعوا اليد عن اتّباع مثل هؤلاء الأشخاص، وعن أن يقلّدوهم في أُصولهم وفروعهم.

ولكنّ الهداية بيد اللَّه سبحانه وتعالي ، إذا أراد أن يهدي أحداً يهديه، وما تشاءون إلّاأنْ يشاء اللَّه.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين، وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 123

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

كلامنا في هذه الليلة حول حديث

الغدير، هذا الحديث العظيم الذي اهتمّ به اللَّه سبحانه وتعالي ، واهتمّ به رسوله، والأئمّة الأطهار، كبار الصحابة، والعلماء عبر القرون.

قال اللَّه تعالي «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» «1».

هذه الآية المباركة من الآيات المتعلقة بيوم الغدير، إلّاأنّها وردت في القرآن الكريم في سياق آياتٍ يخاطب بها اللَّه سبحانه وتعالي أهل الكتاب: «وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعيمِ* وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ» «2»

ثمّ بعد الآية أيضاً: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلي شَيْ ءٍ حَتَّي تُقيمُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزيدَنَّ كَثيرًا مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَي الْقَوْمِ الْكافِرينَ» «3».

__________________________________________________

(1) سورة المائدة (5): 67.

(2) سورة المائدة (5): 65- 66.

(3) سورة المائدة (5): 68.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 124

المخاطب في هذه الآيات وإنْ كان أهل الكتاب، لكنّ الآيات هذه منطبقة علي أُمّة محمّد صلّي اللَّه عليه وآله تمام الإنطباق، إذ يجوز أن يقال: ولو أنّ الأمّة الإسلاميّة آمنت، ولو أنّهم آمنوا واتّقوا، لكفّرنا عنهم سيّئاتهم ولأدخلناهم جنّات النعيم، ولو أنّهم أقاموا الكتاب والسنّة، وما أُنزل إليهم من ربّهم في أمير المؤمنين وأهل البيت الأطهار، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، والأُمّة الإسلاميّة أيضاً منهم أُمّة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون.

مرّة أُخري يعود ويقول: «قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلي شَيْ ءٍ حَتَّي تُقيمُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ»، فقبل «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ» كانت الآية «وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَاْلإِنْجيلَ»، وبعدها أيضاً «لَسْتُمْ عَلي شَيْ ءٍ حَتَّي تُقيمُوا التَّوْراةَ

وَاْلإِنْجيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ» ومع ذلك «لَيَزيدَنَّ كَثيرًا مِنْهُمْ» من هذه الأُمة «ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيانًا وَكُفْرًا فَلا تَأْسَ عَلَي الْقَوْمِ الْكافِرينَ».

كما أنّ أهل الكتاب قد أُمروا بالعمل بكتبهم، أي اليهود مأمورون بالعمل بالتوراة، والنصاري مأمورون بالعمل بالإنجيل، فالمسلمون مأمورون بالعمل بالكتاب والسنّة، فإذا عملوا بالكتاب والسنّة وما أُنزل إليهم من ربّهم، لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكنْ، ليزيدنّ كثيراً منهم ما أُنزل إليك من ربّك طغياناً وكفراً.

وحديث الغدير من أظهر مصاديق ما أُنزل إلي رسول اللَّه، وأتمّ به اللَّه سبحانه وتعالي الحجّة علي الأُمّة، قال تعالي : «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ».

وقد قرأنا في حديث الدار في يوم الإنذار: أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال: «أمرني ربّي بأنْ أُبلّغ القوم ما أُمرت به، فضقت بذلك ذرعاً حتّي نزل جبرئيل

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 125

وقال: إن لم تفعل لم تبلّغ ما أُرسلت به» «1».

فكانت الدعوة، وكان إبلاغ إمامة أمير المؤمنين، فخلافة إمامنا عليه السّلام من جملة ما أمر به رسول اللَّه منذ بدء الدعوة، وإلي أواخر أيّام حياته الشريفة المباركة، لأنّ هذه الآية إنما نزلت في حجة الوداع، وهي في سورة المائدة، وسورة المائدة آخر ما نزل من القرآن بإجماع المسلمين.

أتذكّر في [تفسير القرطبي ] «2» يذكر الإجماع بصراحة علي أنّ سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن، كما أنّا في رواياتنا أيضاً يوجد عندنا نصّ علي أنّ سورة المائدة آخر ما نزل من القرآن «3». فكان النبي مبلِّغاً خلافة علي من بعده وداعياً الناس إلي الإيمان بها، إلي جنب الإيمان باللَّه والرسول … في جميع أدوار رسالته المباركة.

وحديث الغدير حديث

عظيم جليل لجهات عديدة:

منها: تلك الظروف الخاصّة التي خطب فيها رسول اللَّه هذه الخطبة.

ومنها: كون اللّفظ الوارد عن رسول اللَّه في هذه الخطبة لفظاً لا مرية فيه ولا ارتياب في دلالته علي إمامة أمير المؤمنين.

ومنها: نزول الآيات من القرآن الكريم.

ولقد بُذلت جهود كثيرة في حفظ هذا الحديث ونقله ونشره، كما بُذلت جهود في ردّه وكتمانه والتعتيم عليه.

__________________________________________________

(1) معالم التنزيل 4/ 278- 279، وراجع القسم الخاصّ بحديث الدار من هذا الكتاب.

(2) أنظر: تفسير القرطبي 6/ 288.

(3) تفسير العيّاشي 1/ 288.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 126

حديث الغدير … ص: 126

اشارة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 127

نصّ حديث الغدير … ص: 127

اشارة

وقبل الورود في البحث، لا بدّ من ذكر نصّ أو نصّين من روايات حديث الغدير عن بعض المصادر المعتبرة:

أخرج أحمد بن حنبل بسند صحيح عن زيد بن أرقم قال:

نزلنا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بواد يقال له: وادي خم، فأمر بالصّلاة، فصلّاها بهجير، قال: فخطبنا، وظلّل لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بثوبٍ علي شجرة سمرة من الشمس، فقال رسول اللَّه: «ألستم تعلمون؟ ألستم تشهدون أنّي أولي بكلّ مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلي ، قال: «فمن كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه، اللهمّ عاد من عاداه ووال من والاه» «1».

وأخرج النسائي بسند صحيح عن أبي الطفيل عن زيد بن أرقم قال:

لمّا رجع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله من حجة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن- أي فكنسن- ثمّ قال: «كأنّي قد دعيت فأجبت، وإنّي تارك فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي، فانظروا كيف تخلفوني فيهما، فإنّهما لن يفترقا حتّي يردا عَلَيّ الحوض»، ثم قال: «إنّ اللَّه مولاي وأنا وليّ كلّ مؤمن»، ثمّ إنّه أخذ بيد علي رضي اللَّه عنه وقال: «من كنت وليّه فهذا

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 4/ 368 و 372- 373، 5/ 370.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 128

وليّه، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه».

يقول أبو الطفيل: فقلت لزيد: سمعته من رسول اللَّه؟ فقال: إنّه- وفي بعض الألفاظ: واللَّه، بدل إنّه- ما كان في الدوحات أحد إلّارآه بعينه وسمعه بأُذنيه «1».

فهذان لفظان بسندين معتبرين عن زيد بن أرقم.

وهنا ملاحظات لابدّ من الإشارة إليها: … ص: 128

الملاحظة الأُولي :

في حديث الغدير في [صحيح مسلم ] «2»، وفي [المسند] «3»، وفي غيرهما «4» يقول الراوي: فخطبنا أو يقول قام فينا خطيباً، لكنْ في [المستدرك ] «5»: «فقام خطيباً فحمد اللَّه وأثني

عليه وذكّر ووعظ فقال ما شاء اللَّه أن يقول».

وفي [مجمع الزوائد] لأبي بكر الهيثمي الحافظ «6»: «فو اللَّه ما من شي ء يكون إلي يوم الساعة إلّاقد أخبرنا به يومئذ».

أليس من حقّنا أن نسأل الرواة، أن نسأل المحدّثين، أن نسأل الأُمناء علي سنّة رسول اللَّه: أين هذه الخطبة، خطبة الغدير التي لم يترك رسول اللَّه يوم الغدير شيئاً يكون إلي يوم القيامة إلّاقد أخبرنا به؟ لماذا لم ينقلوه؟

إنّه أثني علي اللَّه، وذكّر ووعظ فقال ما شاء اللَّه أن يقول، أين وعظ

__________________________________________________

(1) فضائل الصحابة/ 15 رقم 45، خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 93.

(2) صحيح مسلم 7/ 122.

(3) مسند أحمد 4/ 372.

(4) مجمع الزوائد 9/ 104، المعجم الكبير 5/ 202- 203.

(5) المستدرك علي الصحيحين 3/ 110.

(6) مجمع الزوائد 9/ 105.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 129

رسول اللَّه يوم الغدير؟ وأين ما ذكّر به رسول اللَّه في يوم الغدير؟ فلماذا تركوا الخطبة؟ لماذا لم يرووها؟ أليسوا هؤلاء حفّاظ سنّة رسول اللَّه؟ أليس من وظيفتهم أن ينقلوا لنا ما قال رسول اللَّه كما قال؟ لماذا لم ينقلوا؟

هذه هي الملاحظة الأُولي ، ألهم جواب علي هذا؟

الملاحظة الثانية:

هناك قاعدة في علم الحديث يعبّرون عنها بقاعدة «الحديث يفسّر بعضه بعضاً»، أي أنّ الحديث كالقرآن يفسّر بعضه بعضاً، ونحن في اللفظين المذكورين المرويين بسندين صحيحين، نري أحدهما يقول: «من كنت مولاه فإنّ عليّاً مولاه»، والآخر يقول: «من كنت وليّه فهذا وليّه»، فلو كان هناك إبهام في معني كلمة المولي ومجيئها بمعني الولي والأولي، فإنّ اللفظ الثاني يفسّر اللفظ الأوّل.

وكم من شاهد من هذا القبيل في السنّة النبوية المباركة، هذه الشواهد الكثيرة الصحيحة سنداً تأتي مفسرة للفظ المولي ، لو كان هناك حاجة إلي تفسير هذه الكلمة.

الملاحظة الثالثة:

إنّ مسلم

بن الحجّاج يروي هذا الحديث في [صحيحه ] «1» إلي حدّ حديث الثقلين، وذلك، لأنّه كان عندنا في لفظ النسائي أنّه قال: «كأنّي دعيت فأجبت وإنّي تارك فيكم الثقلين أحدهما أكبر من الآخر كتاب اللَّه وعترتي» إلي آخر هذا الحديث، ثمّ قال: «إنّ اللَّه مولاي وأنا وليّ كلّ مؤمن» إلي آخره «2».

ومسلم يروي هذا الحديث إلي حدّ الحديث الأوّل وهو حديث إنّي تارك

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 7/ 122.

(2) خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 97- 99، سنن النسائي 5/ 45، فضائل الصحابة: 15.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 130

فيكم الثقلين، مع تغيير في الألفاظ، ولا يروي بقية الحديث ممّا يتعلّق ب «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه»، ونحن- مع ذلك- شاكرون لمسلم، حيث روي هذا الحديث ولو بهذا المقدار، لأنّ البخاري لم يرو منه شيئاً أبداً، نشكر مسلم علي أمانته بهذا المقدار.

وربّ قائلٍ يقول: بأنّ مشايخ مسلم ورواة الحديث لم يرووا له أكثر من هذا، أو أنّ مسلماً علي أساس الضوابط والشروط التي تبنّاها في صحيحه لم يجد سنداً آخر من أسانيد هذا الحديث متوفرة فيه تلك الشروط إلّاهذا الحديث الذي نقله وأورده بهذا الشكل المبتور.

ولكن كلّ هذا لا يمكننا قبوله، مع ذلك نشكره علي نقله بهذا المقدار.

انتهت الملاحظات.

إنّه ليس عندي شي ء جديد أُبيّنه لكم في هذه اللّيلة حول حديث الغدير، والليلة الواحدة لا تكفي لهذا البحث بل الليلتان أيضاً، لكنّي أذكر لكم رؤوس المطالب والنقاط المهمّة التي سجّلتها مع شي ء من التوضيح وإبداء بعض الملاحظات فقط.

إننا لمّا نريد أن نجعل لبحثنا منهجاً، فلا بدّ وأن يكون المنهج علي الشكل التالي، أنْ نبحث عن حديث الغدير في جهتين.

الجهة الأُولي في الجهود التي بذلت في سبيل هذا الحديث إثباتاً وروايةً

وتصحيحاً ونشراً …

والجهة الثانية: الجهود التي بذلت في سبيل إبطال هذا الحديث وردّه وكتمه والتعتيم عليه وتحريفه بأيّ شكل من الأشكال.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 131

الجهة الأُولي … ص: 131

الجهود التي بذلت في سبيل إثبات هذا الحديث … ص: 131

وهذه الجهة تشتمل علي نقاط: … ص: 131

النقطة الأُولي :

لقد نزلت في قضية الغدير، وفي يوم الغدير، آيات من القرآن الكريم، فنزلت آية قبل خطبة الغدير هي قوله تعالي : «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ … » «1»

إلي آخر الآية، ونزلت آية بعد خطبة الغدير هي قوله تعالي : «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتي وَرَضيتُ لَكُمُ اْلإِسْلامَ دينًا» «2»

. ونزل قوله تعالي : «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» «3»

عندما اعترض ذلك الأعرابي علي ما قاله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، سائلًا النبي بأنّك أمرتنا بالصلاة فصلّينا، أمرتنا بالزكاة فأدّينا، وإلي آخره، واليوم جئت وأخذت بعضد ابن عمّك ونصبته علينا وليّاً، أهذا أمر من اللَّه أو شي ء من عندك؟ «4» تقريباً بهذا اللفظ، فنزل قوله تعالي : «سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ» إلي آخره.

__________________________________________________

(1)

سورة المائدة (5): 67.

(2) سورة المائدة (5): 3.

(3) سورة المعارج (70): 1.

(4) تفسير الثعلبي 10/ 35، شواهد التنزيل 2/ 381

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 132

فهذه آيات متعلّقة بقضية الغدير، ولكلّ آية بحث مستقل، أي: لو أردنا أنْ نذكر الروايات في شأن نزول هذه الآيات لاحتجنا إلي مجال أكثر، وكما أشرت من قبل، فاللّيلة الواحدة لا تكفي للإحاطة بجميع جوانب قضيّة الغدير.

إذن، نكتفي بهذا المقدار، وعليكم أن تراجعوا المصادر.

النقطة الثانية:

الرواة لحديث الغدير من الصحابة، يبلغ عددهم أكثر من مائة وعشرين رجل وامرأة، وطرق أهل السنّة إلي هؤلاء الصحابة موجودة في الكتب، والروايات الواردة عن هؤلاء أو الرواية الواردة عن كلّ واحد من هؤلاء موجودة في الكتب المعنيّة بحديث الغدير.

واختلف القوم في عدد الحاضرين في يوم الغدير لمّا خطب رسول اللَّه

صلّي اللَّه عليه وآله خطبته، وهناك قول بأنّهم كانوا مائة وعشرين ألف شخص، فإذا كان كذلك فقد وصلنا حديث الغدير من 11000 من الحاضرين.

النقطة الثالثة:

الرواة لحديث الغدير من التابعين عددهم أضعاف عدد الصحابة، وهذا واضح، لأنّ كلّ واحد من الصحابة قد سمع الحديث منه أكثر من تابعي، والتابعون أيضاً نقلوا الحديث إلي أصحابهم وهكذا.

فكان العلماء الرواة لحديث الغدير من أعلام السنّة في القرون المختلفة يبلغ عددهم المئات.

النقطة الرابعة:

الأسانيد التي نروي بها حديث الغدير لا تحصي كثرة، وهي فوق حد التواتر بكثير، ويشهد بذلك:

أوّلًا: كثرة الكتب المؤلّفة في جمع طرق حديث الغدير وأسانيده، وهذا لو

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 133

أردنا أن نشرحه لاحتاج إلي وقت إضافي، أي التعريف بالمؤلّفين في حديث الغدير من كبار العلماء السابقين وأسماء كتبهم في خصوص أسانيده.

ثانياً: ذكر حديث الغدير في الكتب المختصة بجمع الأحاديث المتواترة:

فللسيوطي أكثر من كتاب ألّفه في الأحاديث المتواترة، وقد أدرج فيها حديث الغدير «1».

والزبيدي صاحب تاج العروس له كتاب خاص بالأحاديث المتواترة وفيه حديث الغدير «2».

والكتّاني له كتاب في الأحاديث المتواترة وحديث الغدير موجود فيه «3».

والشيخ علي المتقي الهندي صاحب كنز العمّال له كتاب خاص بالأحاديث المتواترة وفيه حديث الغدير.

والشيخ علي القاري الهروي له أيضاً كتاب في الأحاديث المتواترة وحديث الغدير موجود فيه.

فالكتب المختصة بالأحاديث المتواترة مشتملة علي حديث الغدير.

ثالثاً: وجدنا تنصيص عدّة كبيرة من أعلام الحفّاظ والمحدّثين علي تواتر هذا الحديث: فإنّ الذهبي مثلًا يقول: هذا الحديث متواتر أتيقّن أنّ رسول اللَّه قاله «4»، والقائل من؟ الذهبي، والذهبي متشدّد ومتعصّب.

وممّن يعترف بتواتر حديث الغدير: ابن كثير الدمشقي «5».

__________________________________________________

(1) أنظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر: 195، والنصائح الكافية لمن يتولّي معاوية: 92، ونفحات الأزهار 8/ 319.

(2) أنظر: ملحقات

الاحقاق الحق للمرعشي النجفي 23/ 10.

(3) نظم المتناثر: 194، حديث 232.

(4) سير أعلام النبلاء 8/ 335.

(5) البداية والنهاية 5/ 213.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 134

وممّن يعترف بتواتر حديث الغدير: ابن الجزري شمس الدين «1»، وهذا حافظ كبير من حفّاظهم.

فهذه نقاط، وكلّ نقطة، وكلّ واحدة من هذه الأُمور تحتاج إلي بحث مستقل، ونحن ليس عندنا ذلك المجال الكافي للتفصيل في هذه الأمور.

رواة حديث الغدير: … ص: 134

ولا بأس الآن بأنْ نذكر أسامي أشهر مشاهير رواة حديث الغدير من أئمة أهل السنّة وحفّاظهم في القرون المختلفة فمنهم:

1- محمّد بن إسحاق، صاحب السيرة.

2- معمر بن راشد.

3- محمّد بن إدريس الشافعي، إمام الشافعية.

4- عبدالرزاق بن همّام الصنعاني، شيخ البخاري.

5- سعيد بن منصور، صاحب المسند.

6- أحمد بن حنبل، إمام الحنابلة، صاحب المسند.

7- ابن ماجة القزويني، صاحب أحد الصحاح الستة.

8- الترمذي، صاحب الصحيح.

9- أبو بكر البزّار، صاحب المسند.

10- النسائي، صاحب الصحيح.

11- أبو يعلي الموصلي، صاحب المسند.

12- محمّد بن جرير الطبري، صاحب التفسير والتاريخ المشهورين.

__________________________________________________

(1)

أسني المطالب في مناقب سيّدنا علي بن أبي طالب لابن الجزري: 48.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 135

13- أبو حاتم ابن حبّان، صاحب الصحيح.

14- أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.

15- الحافظ أبو الحسن الدارقطني، الذي كان إمام وقته في بغداد، ويلقّبونه بأمير المؤمنين في الحديث.

16- الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك.

17- ابن عبدالبر، صاحب الإستيعاب.

18- الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.

19- أبو نعيم الإصفهاني، صاحب حلية الأولياء ودلائل النبوة وغيرهما.

20- أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبري .

21- البغوي، صاحب مصابيح السنّة.

22- جاراللَّه الزمخشري، صاحب الكشّاف في التفسير.

23- ابن عساكر الدمشقي، صاحب تاريخ دمشق.

24- الفخر الرازي، صاحب التفسير المعروف.

25- الضياء المقدسي، صاحب المختارة.

26- ابن الأثير الجزري، صاحب أُسد الغابة.

27- أبو بكر الهيثمي، الحافظ الكبير، صاحب مجمع الزوائد.

28- الحافظ

المزّي، صاحب كتاب تهذيب الكمال، وهو حافظ كبير.

29- الحافظ الذهبي، صاحب تلخيص المستدرك وغيره من الكتب.

30- الحافظ الخطيب التبريزي، صاحب مشكاة المصابيح.

31- نظام الدين النيسابوري، صاحب التفسير المعروف.

32- ابن كثير الدمشقي، صاحب التاريخ والتفسير.

33- الحافظ ابن حجر العسقلاني، يلقّبونه بشيخ الإسلام، ويعتبر من أكبر

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 136

علمائهم، يعتمد عليه في النقل ويحتجّ له كتب كثيرة من أهمّها فتح الباري في شرح البخاري.

34- العيني الحنفي، صاحب عمدة القاري في شرح صحيح البخاري.

35- الحافظ جلال الدين السيوطي، صاحب المؤلفات الكثيرة المعروفة.

36- ابن حجر المكّي، صاحب الصواعق المحرقة في الردّ علي الشيعة.

37- الشيخ علي المتقي الهندي، صاحب كنز العمّال.

38- الشيخ نور الدين الحلبي، صاحب السيرة الحلبية.

39- شاه ولي اللَّه الدهلوي، صاحب المؤلفات الكثيرة، يلقّبونه بعلّامة الهند، ويعتمدون علي مؤلّفاته وينقلون عنها.

40- شهاب الدين الخفاجي، رجل محقق محدّث أديب، له شرح علي الشفاء للقاضي عياض، وله تعليقة علي تفسير البيضاوي أيضاً وهما كتابان معتبران.

41- الزبيدي، صاحب تاج العروس.

42- أحمد زيني دحلان، صاحب السيرة الدحلانيّة المعروفة.

43- الشيخ محمّد عبده المصري، صاحب التفسير وشرح نهج البلاغة والآثار الأُخري .

هؤلاء أشهر مشاهير رواة حديث الغدير في مختلف القرون.

دواعي عدم نقل الحديث: … ص: 136

وهنا فصلّ لابدّ من التعرّض له بإيجاز، وذلك أنّه لو يراجع الباحث الحرّ المنصف أسانيد حديث الغدير ونصوص ألفاظه، لوجد في متون الحديث قرائن عديدة تدلّ علي أنّ الدواعي إلي عدم نقله أو الموانع عن نقله سواء في طبقة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 137

الصحابة والتابعين كثيرة، فمثلًا:

يقول الراوي: رأيت ابن أبي أوفي وهو في دهليز له بعد ما ذهب بصره، فسألته عن حديث، فقال: إنّكم يا أهل الكوفة فيكم ما فيكم، قلت: أصلحك اللَّه إنّي لست منهم، ليس عليك منّي عار، فلمّا اطمأنّ

بي قال: أيّ حديثٍ تريد؟ قال:

قلت: حديث علي في غدير خم … «1».

ويقول الراوي: أتيت زيد بن أرقم فقلت له: إنّ خَتَناً لي حدّثني عنك بحديث في شأن علي يوم غدير خم، فأنا أُحبّ أنْ أسمعه منك، فقال: إنّكم معاشر أهل العراق فيكم ما فيكم، فقلت له: ليس عليك منّي بأس، فقال: نعم، عندما اطمأنّ قال: نعم كنّا بالجحفة … إلي آخر الحديث، قال فقلت له: هل قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه؟ قال: إنّما أُخبرك بما سمعت.

وهذا الحديث في [المسند] «2».

قارنوا هذا الحديث الوارد في المسند عن زيد بن أرقم، مع الحديث الذي قرأناه في أوّل البحث عن زيد بن أرقم، إنّه لم يرو هنا تلك الفقرة في ذيل الحديث، لكنْ هناك قال: نزلنا مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بواد يقال له غدير خم … قال: «فمن كنت مولاه، فإنّ عليّاً مولاه، اللهمّ عاد من عاداه ووال من والاه».

وهذا أيضاً في [المسند] «3».

فأحمد يروي الحديثين بفاصل أوراق معدودة، في أحدهما لا يذكر زيد بن أرقم هذه القطعة الأخيرة من الحديث لهذا الشخص، لكنْ هناك للشخص الآخر يروي هذه الجملة أيضاً.

__________________________________________________

(1) مناقب الامام علي بن أبي طالب لابن المغازلي: 16.

(2) مسند أحمد 4/ 368.

(3) المصدر 4/ 372.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 138

وسأقرأ لكم حديثاً آخر عن المعجم الكبير للطبراني، سترون أنّ زيد بن أرقم يروي هذه القطعة أيضاً لذلك الراوي الآخر.

ويقول الراوي: قلت لسعد بن أبي وقّاص- الذي هو من رواة حديث الغدير، ومن كبار الصحابة، وأحد العشرة المبشرة كما يقولون-: إنّي أُريد أنْ أسألك عن شي ء، وإنّي أتّقيك- يظهر التقيّة موجودة بينهم حتّي من

أنفسهم هم- قال: سل عمّا بدا لك فإنّما أنا عمّك، قال: قلت مقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله فيكم يوم غدير خم … فجعل سعد يحدّثه بالحديث «1».

لكنّ الراوي عندما يريد أن يسأله يقول: اريد أن أسألك عن شي ء وإنّي أتّقيك.

أُنظر إلي الظروف المحيطة بقضيّة حديث الغدير، وبأية مشقّة كانوا يتوصّلون إلي هذا الحديث ويأخذونه من أصحاب رسول اللَّه الذين حضروه؟

يقول الراوي عندما وقف شخص علي حلقة فيها زيد بن أرقم قال: أفي القوم زيد؟ نعم، هذا زيد، فقال: أُنشدك باللَّه الذي لا إله إلّاهو يا زيد، أسمعت رسول اللَّه يقول لعلي: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه؟ قال: نعم، فانصرف الرجل «2».

وكأنّه عندما يريد أن يسأل زيداً لابدّ وأنْ يحلّفه حتّي يحكي له الواقع كما سمع من رسول اللَّه. هذا الحديث في [المعجم الكبير] للطبراني.

فإلي هنا، قد انتهينا ممّا يتعلّق بسند حديث الغدير ومتنه.

__________________________________________________

(1) كفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب: 62.

(2) المعجم الكبير 5/ 194.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 139

إثبات التواتر اللفظي لحديث الغدير: … ص: 139

ذكرنا أنّ هذا الحديث من الأحاديث المتواترة، بل لقد تجاوز حدّ التواتر بأضعاف مضاعفة، والتواتر كما تعلمون علي أقسام:

تارة التواتر لفظي.

وتارة التواتر إجمالي.

وتارة التواتر معنوي.

وبقرينة ذكر جماعة من علماء القوم هذا الحديث في كتبهم المتعلّقة بالأحاديث المتواترة، يظهر أنه بهذا اللفظ متواتر، وهذا شي ء مهم، لأنّهم في كتب الحديث وعلم دراية الحديث- إذا راجعتم- يقولون بأنّ المتواتر اللفظي في الأحاديث النبويّة قليل جدّاً، حتّي أنّهم يحصرون التواتر اللفظي بحديث «إنّما الأعمال بالنيّات» فقط، وربّما أضافوا إلي هذا الحديث حديثاً آخر، هكذا يدّعون، ويقولون بأنّ الأحاديث الواصلة إلينا من رسول اللَّه هي وإن كانت متواترة إلّاأنّها

متواترة معني أو إجمالًا، هذا في أكثر الأحاديث الواصلة إلينا التي يمكننا أن ننسبها إليه صلّي اللَّه عليه وآله بالقطع واليقين.

إلّا أنّ حديث الغدير بهذا اللّفظ متواتر، علي أثر كثرة الرواة والمخرجين له في الطبقات والأعصار المختلفة، ولابدّ من الدقّة في هذه النقطة فإنّها أمر مهم.

فانتهينا، إذن، من لفظ الحديث ومتنه، وانتهينا من سنده، وأنّه متواتر قطعاً.

وقد نصّ الشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب كتاب [التحفة الإثنا عشرية].

هذا الكتاب الذي طبع مختصره بالعربية بقلم الآلوسي البغدادي، ونشره بعض أعداء الدين مع تعاليق شحنها بالسباب والشتائم، وبالشحناء والبغضاء لأهل البيت ولشيعتهم.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 140

يقول المولوي عبدالعزيز الدهلوي في كتابه المذكور: إنّ الحديث إذا وصل حدّ التواتر وأصبح قطعي الصدور عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كان بمنزلة الآية من الآيات القرآنيّة، فكما أنّ القرآن الكريم مقطوع الصدور من اللَّه سبحانه وتعالي ولا ريب في ذلك حين وصل إلينا بالتواتر القطعي ولا يجوز الردّ أو الإبطال للفظٍ واحدٍ من ألفاظه، ومن فعل فهو كافر، كذلك كلّ حديث يروي عن رسول اللَّه بأسانيد تفيد القطع واليقين وصل إلي حدّ التواتر.

إذن، أصبح قوله صلّي اللَّه عليه وآله: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» بمثابة آية في القرآن الكريم من حيث أنّه مقطوع الصدور ويحرم تكذيبه وردّه.

دلالة حديث الغدير علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام: … ص: 140

حينئذ، لابدّ من بيان وجه الإستدلال بهذا الحديث المتواتر قطعاً علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام.

ووجه الإستدلال بهذا الحديث يتلخّص في: أنّه صلّي اللَّه عليه وآله بعد أنْ أخذ منهم الإقرار وأشهدهم علي أنّه أولي بهم من أنفسهم، مشيراً إلي قوله تعالي :

«النَّبِيُّ أَوْلي بِالْمُؤْمِنينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ» «1»

، مقتضي هذه الآية المباركة كون النبي أولي بالمؤمنين من أنفسهم في كلّ

ما لهم الولاية عليه، فأخذ منهم الإقرار علي هذا المعني ، ثمّ فرّع علي ذلك بقوله: «فمن كنت وليّه … » وقد جاء هذا المعني بألفاظٍ اخري بالأسانيد المختلفة في كتب أهل السنّة، أوردناها في كتابنا الكبير «2» ومن شاء فليرجع إليه. فأثبت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله لعلي ما ثبت له من الأولويّة بالناس من الناس، ثمّ إنّهم جميعاً بايعوه علي هذا وسلّموا عليه

__________________________________________________

(1) سورة الأحزاب (33): 6.

(2) نفحات الأزهار، الجزء 8 و 9.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 141

بإمرة المؤمنين، وهنّأوه، ونظمت فيه الأشعار من مشاهير الشعراء في كلّ عصرٍ ومكان.

ومحور الإستدلال بحديث الغدير كلمة «مولي »، ومجي ء هذه الكلمة بمعني «الأولي »، وذلك موجود في القرآن الكريم في سورة الحديد «1»، وموجود في الأحاديث النبوية المعتبرة حتّي في الصحيحين، وموجود في الأشعار العربية والإستعمالات الفصيحة.

وحينئذ، يتمّ الإستدلال علي ضوء الكتاب والسنّة والإستعمالات العربية الصحيحة الفصيحة.

وإذا كان أمير المؤمنين بمقتضي هذا الحديث أولي بالمؤمنين من أنفسهم، فكلّ من عدا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، كان مؤمناً حقيقة أو ادّعي له الإيمان، فعليّ أولي به من نفسه، بما فيهم كبار الصحابة ومشايخ القوم و … إلي آخره.

هذا وجه الإستدلال.

لكن في مقام الإستدلال لابدّ وأنْ ننتظر، لننظر ماذا يقولون في مقابل هذا الإستدلال، وتلك هي الجهة الثانية.

فتلخص إلي هنا: إنّ حديث الغدير له جذور في القرآن الكريم، وجذور في السنّة النبويّة المعتبرة القطعيّة المتفق عليها بين الفريقين، وجذور أيضاً في الأخبار والآثار.

وما أكثر المناشدات والإحتجاجات بحديث الغدير، من أمير المؤمنين أوّلًا، ومن الزهراء البتول بضعة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ومن الأئمّة الأطهار، ومن كبار الصحابة، والعلماء، وأيضاً في الأشعار الكثيرة، من كبار شعراء الصحابة

__________________________________________________

(1) سورة

الحديد (57): 15، وراجع التفاسير كتفسير ابن كثير 4/ 332 وغيره.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 142

أنفسهم وحتّي القرون المتأخّرة، فلحديث الغدير جذور.

ولو أردنا أن ندخل في هذا الباب لطال بنا المجلس، لأنّ المناشدات وحدها تحتاج إلي أكثر من مجلس في نظري، واحتجاج الصدّيقة الطاهرة سلام اللَّه عليها بحديث الغدير وهي بضعة رسول اللَّه، وكونها بضعة رسول اللَّه ليس بالشي ء الهيّن.

إن قول رسول اللَّه: «فاطمة بضعة منّي» «1» من الأحاديث الثابتة، أخرجوه في الصحاح وغيرها، ولأجل هذا الحديث نصّ غير واحد من أعلام القوم علي أفضليّة الزهراء حتّي من الشيخين «2»، في الوقت الذي يؤخّرون عليّاً عن عثمان، وعثمان متأخّر عن الشيخين، ويجعلون الفضيلة والأفضليّة بترتيب الخلافة، كما هو المشهور بينهم، لكنّ الزهراء سلام اللَّه عليها يفضّلها بعضهم علي الشيخين، بمقتضي الحديث المذكور.

فهي الأخري أيضاً احتجّت بحديث الغدير.

وهذا كلّه بغضّ النظر عن شواهد حديث الغدير، فإنّ له شواهد كثيرة في السنّة القطعيّة، منها حديث الولاية الذي سنبحث عنه في ليلةٍ سنداً ودلالة إن شاء اللَّه تعالي .

__________________________________________________

(1)

صحيح مسلم 7/ 141.

(2) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 4/ 421، حرف الفاء.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 143

الجهة الثانية … ص: 142

الجهود التي بذلت في سبيل إبطال هذا الحديث … ص: 143

اشارة

وفي الجهة الثانية: تعلمون بأنّ علماء القوم يحاولون تبرير الواقع التاريخي وتوجيه ما وقع، يقول اللَّه سبحانه وتعالي : «وَما مُحَمَّدٌ إِلّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلي أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلي عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا» «1»

لكن القوم يحاولون أنّ يبرّروا ما فعله الأوّلون، فكانوا مصاديق لهذه الآية المباركة، فلننظر ماذا يقولون تجاه حديث الغدير:

مسألة أن علياً عليه السّلام لم يكن في حجة الوداع: … ص: 143

ولعلّكم تتعجّبون أو تضحكون ممّن يقول- قبل كلّ شي ء-: بأنّ عليّاً لم يكن في حجة الوداع، وأنه كان في اليمن في ذلك الوقت، فكلّ الأحاديث التي ورد فيها أنّه أخذ بيد عليّ وجعل يعرّفه إلي الناس ويقول: «فمن كنت مولاه فهذا علي مولاه» هذه الأحاديث كلّها كاذبة، لأنّ عليّاً كان باليمن، تستغربون لو قلت لكم أنّ القائل بهذا القول هو الفخر الرازي.

لكن من حسن الحظ أنّ مثل ابن حجر المكّي صاحب الصواعق «2» يردّ هذا

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران (3): 144.

(2) الصواعق المحرقة: 25.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 144

الكلام، وكذا شرّاح الحديث الذين يرجع إليهم في فهم الأحاديث.

وهذا ديدني في بحوثي، أرجعُ إلي مثل المنّاوي صاحب فيض القدير في شرح الجامع الصغير، الشارح للجامع الصغير، وإلي الشيخ علي القاري شارح الشفاء للقاضي عياض، وصاحب المرقاة في شرح المشكاة، إلي الزرقاني المالكي صاحب شرح المواهب اللدنيّة، أرجعُ إلي هؤلاء لأنّهم شرّاح الحديث، والعلماء الكبار فيه، وكلماتهم حجّة في بيان معانيه، أرجع إليهم إحتجاجاًبكلماتهم وإلزاماً للقوم بأقوال علمائهم.

يقول الشيخ علي القاري في [المرقاة في شرح المشكاة] «1» بأنّ هذا القول باطل، لثبوت أنّ عليّاً رجع من اليمن، وكان مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في حجة الوداع.

وفي حديث اخرج في المسانيد والصحاح بقضيّة الخروج من

الإحرام، إنّ عليّاً كان مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في حجّة الوداع «2».

فقول الفخر الرازي بأنّ عليّاً كان في اليمن في ذلك الوقت، يدلّ من جهة أُخري علي صحّة هذا الحديث، وتماميّة دلالته علي إمامة أمير المؤمنين.

مسألة عدم التسليم بصحة حديث الغدير: … ص: 144

ثمّ هناك محاولة أُخري لردّ حديث الغدير، يقول بعضهم: لا نسلّم صحّة هذا الحديث، ومن هؤلاء الفخر الرازي أيضاً «3».

وقد ذكرنا عدّة من أعلام القوم الذين ينصّون علي تواتر حديث الغدير، وجماعة يخرجونه في كتبهم المختصة بالأحاديث المتواترة.

__________________________________________________

(1)

المرقاة في شرح المشكاة 10/ 476.

(2) مسند أحمد 2/ 28، 3/ 185 و 305 وغيره.

(3) تفسير الفخر الرازي 11/ 139.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 145

مسألة عدم تواتر حديث الغدير: … ص: 145

هناك مطلب ثالث، يقوله ابن حزم الأندلسي وبعض أتباعه «1»، وترون الشيخ سليم البشري المالكي يقوله في مراجعته للسيّد شرف الدين، يقول: بأنّكم معاشر الإماميّة تذهبون إلي أنّ الإمامة من أُصول الدين، وإلي أنّ أُصول الدين لا تثبت إلّا بالأخبار المتواترة أو الأدلّة القطعيّة، وحديث الغدير لا نوافق علي تواتره، فإذن، لا تثبت بحديث الغدير إمامة علي «2».

ويتلخّص هذا الإشكال في إنكار تواتر حديث الغدير، بعد الإذعان بصحّته فإذا لم يتم تواتره لم يتم الإستدلال به علي إمامة علي، لأنّ الحديث الظنّي وإنْ كان صحيحاً ومعتبراً، لا يثبت لنا أصلًا من أصول الدين، إذْ لابدّ في أُصول الدين من القطع واليقين، والحديث الظنّي لا يفيد القطع، إذن، لا يثبت به أمر قطعي.

وهذا الإشكال إشكال أساسي إن تمّ نفي تواتر حديث الغدير، لكنّنا نلزمهم بمثل تصريح الذهبي، وابن كثير، وابن الجزري، والسيوطي، والكتّاني، والزبيدي، والمتقي الهندي، والشيخ علي القاري، وغيرهم، بتواتره.

أمّا ابن حزم، فقد ذكروا في ترجمته إنّه كان من النواصب، وأيضاً: يذكرون بترجمته إنّ لسان ابن حزم وسيف الحجّاج شقيقان «3»، والأشقي منه من يتّبعه فيما يقول ويستند إلي كلماته وإلي أباطيله، وليس المجال الآن يسع لأكثر من هذا، وإلّا لذكرت لكم بعض أباطيل هذا الرجل وكلامه المقتضي للحكم بكفره.

إذن، هذا الإشكال أيضاً

يندفع باعتراف كبار أئمّة القوم بتواتر حديث الغدير.

__________________________________________________

(1)

ابن تيمية في منهاج السنّة 7/ 33.

(2) المراجعات: 264، المراجعة 55.

(3) سير أعلام النبلاء 18/ 184.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 146

مسألة مجي ء «المولي » بمعني «الأُولي » … ص: 146

عمدة الإشكال: مسألة المولي ومجي ء هذه الكلمة بمعني «الأُولي ».

يقول الشيخ عبدالعزيز الدهلوي صاحب كتاب [التحفة الإثنا عشرية]: بأنّ لفظة مولي لاتجي ء بمعني الأولي بإجماع أهل اللغة «1».

فهو ينفي مجي المولي بمعني الأولي ، ويدّعي إجماع أهل اللغة علي هذا النفي.

نقول في الجواب:

أوّلًا: قد لا نستدلّ بالحديث المشتمل علي لفظ المولي ، ونستدلّ بالأحاديث الأُخري التي جاءت بلفظ «الولي» و «الأمير» ونحو ذلك من الألفاظ.

وثانياً: نقول بأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً، فالألفاظ الأُخري رافعة للإبهام المدّعي وجوده في هذا اللفظ، ولا تبقي حينئذ مشكلة.

والجواب الثالث: الآية الكريمة الموجودة في سورة الحديد في القرآن الكريم «2»، والأحاديث الصحيحة الموجودة حتّي في الصحيحين، الدالّة علي مجي ء كلمة المولي بمعني الأولي .

لكنّ الورود في بحث مجي ء المولي بمعني الأولي علي ضوء القرآن والحديث والأشعار العربية وغير ذلك، يتطلّب وقتاً، ونحن لا يسعنا أن ندخل في ذلك البحث علي وجه التفصيل، غاية ما هناك نكتفي الآن بذكر أسامي عدّة من كبار علماء اللغة والتفسير والأدب- وهم من أهل السنّة- يصرّحون وينصّون علي مجي ء مولي بمعني الأولي ، فمنهم:

__________________________________________________

(1) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 159.

(2) سورة الحديد (57): 15.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 147

1- أبو زيد الأنصاري، اللغوي المعروف.

2- أبو عبيدة البصري معمر بن المثني .

3- أبو الحسن الأخفش.

4- أبو العباس ثعلب.

5- أبو العباس المبرّد.

6- أبو إسحاق الزجّاج.

7- أبو بكر ابن الأنباري.

8- أبو نصر الجوهري، صاحب كتاب صحاح اللغة.

9- جاراللَّه الزمخشري، صاحب الكشّاف.

10- الحسين البغوي، صاحب التفسير ومصابيح السنّة.

11- أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي.

12- البيضاوي، صاحب التفسير المعروف.

13- النسفي، صاحب

التفسير المعروف.

14- أبو السعود العمادي، صاحب التفسير المعروف.

وأيضاً، ممّن ينصّ علي مجي ء المولي بمعني الأولي من العلماء الكبار الذين سجّلت أسماءهم هنا:

15- شهاب الدين الخفاجي، الذي ذكرته لكم.

وبعض المحشّين والمعلّقين من كبار الأساتذة في تعاليقهم علي تفسير البيضاوي.

ويكفي هذا المقدار للجواب عن هذه الشبهة.

إذن، يتلخص الجواب عن هذه الشبهة بالقرآن الكريم، فنفس كلمة المولي موجودة فيه وقد فُسّرت بالأولي ، في سورة الحديد قوله تعالي : «هِيَ مَوْلاكُمْ» أي

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 148

النار «وَبِئْسَ الْمَصيرُ» «1»

يفسّرون الكلمة ب: هي أولي بكم وبئس المصير، والأحاديث أيضاً كثيرة، والأشعار العربيّة الفصيحة موجودة، وكلمات اللغويين أيضاً موجودة، ومن شاء التفصيل فليرجع إلي كتابنا الكبير «2».

مسألة دلالة حديث الغدير علي إمامة علي عليه السّلام بعد عثمان: … ص: 148

وإذ رأوا أنْ لا جدوي في هذه المزاعم وفي تلك المناقشات، مثل إنكار وجود علي في يوم الغدير، وإنكار تواتر حديث الغدير، وإنكار مجي ء المولي معني الأولي .

إذن، يضطرّون لأنْ يسلّموا بدلالة حديث الغدير علي إمامة أمير المؤمنين وكونه أولي بالمؤمنين من أنفسهم كالنبي صلّي اللَّه عليه وآله، لكنّهم لا يريدون أن يعترفوا بالحق وببطلان ما وقع، فقالوا: سلّمنا بأنّ الحديث يدلّ علي الإمامة، لكنْ، لتكنْ الإمامة لعلي بعد عثمان كما هو الحال الواقع، فالحديث يدلّ علي الإمامة، لكنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أراد إمامته بعد عثمان!! فهم يسلّمون بدلالة حديث الغدير علي الإمامة، لكن يحملون الإمامة علي المرتبة الرابعة، بأنْ يكون علي بعد عثمان، فالشيخان أفضل من عثمان عندهم، وعثمان أفضل أم علي؟

بينهم خلاف، وبعضهم يفضّل عليّاً علي عثمان.

ولكنّي أعتقد بحسب النظر في أحاديث فضائل المشايخ الثلاثة المرويّة في كتب أهل السنّة أنّ عثمان أفضل من الشيخين، هذا ما أعتقده بحسب أحاديثهم، وهذه دعوي لا بدّ من إثباتها في وقت آخر، وفي فرصة

تسنح لطرح مثل هذا البحث، وله أثره، لأنّه في النتيجة، إذا كان عليّ أفضل من عثمان- كما هو قول عدّة

__________________________________________________

(1) سورة الحديد (57): 15.

(2) نفحات الأزهار، قسم حديث الغدير، الجزء 8.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 149

كبيرة من أعلامهم- «1» فيكون عليّ أفضل من الكلّ بالقطع واليقين.

وعلي كلّ حال، فيحملون إمامة عليّ التي يدلّ عليها حديث الغدير علي الإمامة بعد عثمان.

لكن هذا الحمل:

أوّلًا: يحتاج إلي أدلّة تفيد حقّية ما يذهبون إليه في الإمامة والخلافة بعد رسول اللَّه، فإنْ أقاموا الدليل علي صحة إمامة المشايخ الثلاثة، كان حديث الغدير دالّاً علي إمامة عليّ بعدهم، ولكن أنّي لهم ذلك، ولو كان هناك حديث علي معتقدهم يفيد القطع واليقين ويكون متّفقاً عليه بين الطرفين، لما كان بيننا نزاع.

إذن، هذه الدعوي أول الكلام، وهي مصادرة بالمطلوب.

وثانياً: مفاد حديث الغدير أنّ عليّاً أولي بهؤلاء من أنفسهم.

وثالثاً: ماذا يفعلون بالأحاديث الصحيحة الواردة في تهنئة المشايخ لعلي يوم غدير خم ومبايعتهم له بالإمامة والخلافة، وقد أصبحت كلمة عمر «بخ بخ لك يا علي، أصبحت مولاي ومولي كلّ مؤمنٍ ومؤمنة» «2» من أشهر الكلمات في العالم، كما أنّ كلمته «لولا علي لهلك عمر» «3» يعرفها العالم والجاهل، يعرفها العالي والداني، حتّي الصبيان أيضاً ربّما يحفظون هذه الكلمة عن عمر في حقّ عليّ.

وكيف يحمل حديث الغدير علي إفادة الإمامة بعد عثمان مع تلك البيعة؟

وهل بايعوا علي أن يكون بعد ثالثهم؟

وهذا الوجه أيضاً لاينفعهم وهم يعلمون!

__________________________________________________

(1) أنظر: الصواعق المحرقة: 255.

(2) تاريخ بغداد 8/ 284، تاريخ مدينة دمشق 42/ 233.

(3) تأويل مختلف الحديث: 152، نظم درر السمطين: 130، جواهر المطالب في مناقب علي بن أبي طالب عليه السّلام 1/ 195.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 150

مسألة دلالة حديث الغدير علي الامامة الباطنية: … ص: 150

قال بعضهم: إنّ

حديث الغدير يدلّ علي إمامة عليّ بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله مباشرة، لكنّ الإمامة تنقسم إلي قسمين، هناك إمامة باطنيّة وهي الإمامة في عرف المتصوّفة، فعليّ إمام المسلمين بعد رسول اللَّه بلا فصل لكن هو إمامٌ في المعني ، إمام في القضايا المعنوية، إمام في الأُمور الباطنيّة، والمشايخ الثلاثة هم أئمّة المسلمين في الظاهر، ولهم الحكومة ولهم الأمر والنهي، ولهم القول المسموع واليد المبسوطة والكلمة النافذة.

يقولون هذا، وكأنّه قد فوّض إليهم أمر الإمامة والخلافة وتقسيم الإمامة، بأن يضعوها بذلك المعني لعلي وولده، وبالمعني الآخر للمشايخ الثلاثة، ثمّ لمعاوية ثمّ ليزيد ثمّ للمتوكّل ثمّ وثمّ إلي يومنا هذا!! كأنّ الإمامة أمر يرجع إلي هؤلاء وما تهواه أنفسهم، بأن يقولوا لعليّ: أنت إمام بمعني كذا، وأنت يا فلان إمام بالمعني الآخر.

وهذا أشبه بالمضحكة، وإنْ دلّ علي شي ء فإنّما يدلّ علي عجزهم عن الوجه الصحيح المعقول، والقول المقبول.

«فَلا وَرَبِّكَ لايُؤْمِنُونَ» أي ليسوا بمؤمنين، أي لا يكونون مؤمنين «حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليمًا» «1».

«رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي اْلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ» «2».

«وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لاأَنْ هَدانَا اللَّهُ» «3».

__________________________________________________

(1) سورة النساء (4): 65.

(2) سورة البقرة (2): 201.

(3) سورة الأعراف (7): 43.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 151

الحمد للَّه الذي جعلنا من المتمسّكين بولاية أمير المؤمنين وأبنائه المعصومين.

وآخر دعوانا أن الحمد للَّه ربّ العالمين.

وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 155

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

موضوع البحث: حديث الولاية، وهذا الحديث أيضاً من الأحاديث المتفق عليها بين الفريقين، حديث

نقطع بصدوره عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

إنّ هذا الحديث يدلّ علي إمامة أمير المؤمنين من جهات عديدة:

الجهة الأُولي : ثبوت الولاية والأولوية لأمير المؤمنين عليه السّلام.

الجهة الثانية: دلالته علي عصمة أمير المؤمنين عليه السّلام.

الجهة الثالثة: إنّ بغض عليّ يخرج المبغض عن الإسلام وعليه أنْ يجدّد إسلامه ويشهد الشهادتين من جديد.

وكلّ واحدة من هذه الجهات الثلاث يمكن أنْ يستدلّ بها بالإستقلال علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 156

حديث الولاية … ص: 156

اشارة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 157

رواة حديث الولاية … ص: 157

هذا الحديث رواه أهل السنّة:

1- عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

2- والإمام الحسن السبط عليه السّلام.

ويروونه أيضاً عن

3- ابن عباس.

4- أبي ذر الغفاري.

5- أبي سعيد الخدري.

6- البراء بن عازب.

7- عمران بن حصين.

8- أبي ليلي الأنصاري.

9- بريدة بن الحصيب.

10- عبداللَّه بن عمرو.

11- عمرو بن العاص.

12- وهب بن حمزة.

ومن أشهر مشاهير الأئمّة الحفّاظ وأعلام الحديث الرواة لهذا الحديث

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 158

الشريف في كتبهم عبر القرون المختلفة:

1- أبو داود الطيالسي، صاحب المسند.

2- أبو بكر بن أبي شيبة، صاحب المصنّف.

3- أحمد بن حنبل، صاحب المسند، إمام الحنابلة.

4- أبو عيسي الترمذي، صاحب الصحيح.

5- النسائي، صاحب الصحيح.

6- أبو يعلي الموصلي، صاحب المسند.

7- أبو جعفر الطبري، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين.

8- أبو حاتم بن حبّان، صاحب الصحيح.

9- أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.

10- الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك.

11- أبو بكر بن مردويه، صاحب التفسير.

12- أبو نعيم الإصفهاني، صاحب حلية الأولياء وغيره من الكتب.

13- أبو بكر الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.

14- ابن عبدالبر، صاحب الإستيعاب.

15- ابن عساكر الدمشقي، صاحب تاريخ دمشق.

16- ابن الأثير الجزري، صاحب أُسد الغابة.

17- الضياء المقدسي، صاحب المختارة.

18- البغوي، صاحب مصابيح السنّة، ومعالم التنزيل.

19- الحافظ شمس الدين الذهبي، صاحب الكتب المعروفة.

20- ابن حجر العسقلاني، صاحب فتح الباري والإصابة وغيرهما.

21- الحافظ جلال الدين السيوطي، صاحب المؤلفات الكثيرة المعروفة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 159

22- شهاب الدين القسطلاني، صاحب إرشاد الساري في شرح البخاري.

23- الشيخ علي المتقي الهندي، صاحب كنز العمّال.

24- الحافظ محمد بن يوسف الصالحي الدمشقي، صاحب السيرة الشامية.

25- ابن حجر المكّي، صاحب الصواعق المحرقة.

26- الشيخ علي القاري الهروي، صاحب المرقاة شرح المشكاة.

27- عبدالرؤوف المنّاوي، صاحب فيض القدير في شرح الجامع الصغير.

28- شاه ولي اللَّه الدهلوي، علّامة

الهند، والمحدّث الكبير، صاحب المؤلفات الكثيرة، وصاحب المدرسة المعروفة في مدينة دهلي بالهند.

فهؤلاء وغيرهم يروون هذا الحديث الشريف عن الصحابة المذكورين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 161

نصّ حديث الولاية وتصحيحه … ص: 161

إنّ المشهور برواية هذا الحديث من بين الصحابة:

1- عبداللَّه بن عباس.

2- بريدة بن الحصيب.

3- عمران بن الحصين.

هؤلاء الثلاثة أكثر الروايات تنتهي إليهم.

أمّا ابن عباس، فلا يروون عنه إلّاهذا المقدار من الحديث وهو محلّ الشاهد:

«أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي» وهذا لفظ أبي داود الطيالسي في [مسنده ] «1».

أو «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة» وهذا لفظ الحاكم في [المستدرك ] «2».

أو «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي» وهذا لفظ أحمد في [المسند] «3».

فرسول اللَّه يخاطب عليّاً بمثل هذا الخطاب: «أنت وليّ كلّ مؤمن بعدي ومؤمنة»، أو «أنت وليّ كلّ مؤمن من بعدي»، أو «أنت وليّي في كلّ مؤمن بعدي».

ولا يخفي عليكم وجود كلمة بعدي في جميع الألفاظ الثلاثة في هذه

__________________________________________________

(1) مسند أبي داود الطيالسي: 360 رقم 2752.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 134.

(3) مسند أحمد 4/ 438.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 162

المصادر التي ذكرتها.

هذا هو اللفظ عن ابن عباس، يرويه ابن عباس ضمن حديث يشتمل علي مناقب عشر لأمير المؤمنين عليه السّلام، ينصّ عبداللَّه بن عباس فيه علي اختصاص هذه المناقب بعلي أمير المؤمنين عليه السّلام ولا يشاركه فيها أحد من الأصحاب.

وأمّا في روايتهم عن عمران بن حصين وعن بريدة بن الحصيب، فتوجد هذه الإضافة: «علي منّي وأنا من علي وعلي وليّ كلّ مؤمن بعدي».

إذن، عرفنا إلي الآن: الصحابة الرواة لهذا الحديث وأعلام المحدثين وأشهر الأئمّة الحفّاظ من أهل السنّة في القرون المختلفة، الذين يروون هذا الحديث.

وأيضاً عرفنا متن الحديث ولفظه الذي نريد أن نستدلّ به.

وأمّا سند الرواية عن ابن عباس في مسند

أحمد، ومسند أبي داود الطيالسي، ومستدرك الحاكم، وغيرها من الكتب التي هي من أهمّ المصادر، هذا السند صحيح قطعاً، وقد نصّ علي صحّته أيضاً كبار الأئمّة: كابن عبدالبرّ صاحب الإستيعاب «1»، والمزّي صاحب تهذيب الكمال «2»، والسيوطي «3»، والمتقي «4»، وغيرهم.

ويقول الذهبي حيث يروي هذا الحديث في [رسالته في حديث الغدير] «5»

__________________________________________________

(1) الإستيعاب في معرفة الأصحاب 3/ 1092.

(2) المزّي في تحفة الأشراف بمعرفة الأطراف 5/ 191 رقم 6316، تهذيب الكمال 20/ 481.

(3) القول الجليّ في فضائل عليّ عليه السلام: 60.

(4) كنز العمّال 11/ 608.

(5) عثر عليها المرحوم المحقق العلّامة السيد عبدالعزيز الطباطبائي رحمة اللَّه عليه وحقّقها. أنظر: الحديث رقم 81.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 163

عن بريدة: «وهو حديث ثابت عن بريدة».

أمّا اللفظ الذي يروونه عن عمران بن حصين، فممّن أخرجه وصحّحه:

ابن أبي شيبة في [المصنّف ] «1».

وابن أبي شيبة- كما تعلمون- شيخ البخاري صاحب الصحيح، وكتابه المذكور من أقدم المصادر الحديثيّة وقد رواه عنه المتقي في كنز العمّال «2».

وقد نصّ علي صحّته أيضاً.

جلال الدين السيوطي «3».

والمتقي الهندي صاحب كنز العمّال «4».

اللفظ الذي يروونه عن عمران، فيه شي ء من التفصيل، وهذا نصّه كما في [كنز العمّال ] «5»:

عن ابن أبي شيبة والطبري عن عمران بن حصين يقول: بعث رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله سرية واستعمل عليها علياً، فغنموا، فصنع علي شيئاً فأنكروه، وفي لفظ: فأخذ علي من الغنيمة جارية، فتعاقد أربعة من الجيش إذا قدموا علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أنْ يعلموه، وكانوا إذا قدموا من سفر بدأوا برسول اللَّه، فسلّموا عليه ونظروا إليه ثمّ ينصرفون إلي رحالهم، فلمّا قدمت السريّة سلّموا علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول اللَّه

ألم تر أنّ عليّاً قد أخذ من الغنيمة جارية. فأعرض عنه رسول اللَّه، ثمّ قام

__________________________________________________

(1) المصنّف 7/ 504.

(2) كنز العمّال 11/ 608.

(3) القول الجليّ في فضائل عليّ عليه السلام: 60.

(4) كنز العمّال 13/ 142.

(5) المصدر 13/ 142 رقم 36444.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 164

الثاني فقال مثل ذلك، فأعرض عنه رسول اللَّه، ثمّ قام الثالث فقال مثل ذلك، فأعرض عنه، ثمّ قام الرابع.

فأقبل إليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يعرف الغضب في وجهه فقال: «ما تريدون من علي؟ ما تريدون من علي؟ علي منّي وأنا من علي، وعلي وليّ كلّ مؤمن بعدي».

هذا لفظ كتاب المصنف ولفظ أبي جعفر محمّد بن جرير الطبري علي ما يرويه عنهما المتقي الهندي في كنز العمال.

وكذا الحديث في [المسند] لأحمد بن حنبل وفي آخره: «فأقبل رسول اللَّه علي الرابع وقد تغيّر وجهه فقال: دعوا عليّاً، دعوا عليّاً، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي» «1».

وفي [صحيح الترمذي ]: فأقبل إليه- أي إلي الرابع- رسول اللَّه، والغضب يعرف في وجهه فقال: «ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي» «2».

وكذا تجدون الحديث في [صحيح ابن حبّان ] «3»، وفي [خصائص النسائي ] «4»، وفي [المستدرك ] وقال الحاكم: هذا حديث صحيح علي شرط مسلم ولم يخرجاه «5».

وكذا تجدون الحديث في المصادر الأُخري .

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 4/ 438.

(2) سنن الترمذي (الجامع الصحيح) 6/ 78 رقم 3712.

(3) صحيح ابن حبّان 15/ 373 رقم 6929.

(4) خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 98، فضائل الصحابة: 14 رقم 43، سنن النسائي 5/ 132.

(5) المستدرك علي الصحيحين 3/ 110- 111.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 165

إذن، قرأنا لفظ

الحديث عن ابن عباس، فكان حديثاً مختصراً لم يرووا منه إلّا ذلك المقدار المستشهد به، ثمّ قرأنا الحديث عن عمران بن حصين وفيه بعض التفصيل، وذكر تلك القضية التي قال فيها رسول اللَّه هذا الكلام.

لكن عند بريدة الخبر الصحيح «وعند جهينة الخبر الصحيح» فلننظر ماذا يروي بريدة بن الحصيب، فإنّه صاحب القضيّة، وهو الرجل الرابع الذي أقبل إليه رسول اللَّه وقال له ما قال، إلّاأنّهم لم يذكروا اسمه، إنّه ينقل القصة كاملةً، والراوي عنه ولده عبداللَّه، يقول بريدة:

أرسل رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله إلي اليمن جيشين، علي أحدهما علي بن أبي طالب وعلي الآخر خالد بن الوليد، قال صلّي اللَّه عليه وآله: «إذا كان قتال فعلي علي الناس كلّهم»، فالتقي الجيشان، وكان علي عليه السّلام علي الجيشين، وكان خالد تحت إمرة علي بأمر من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فافتتح علي حصناً.

يقول بريدة: فغنمنا، فخمّس علي الغنائم، وكانت في الخمس جارية حسناء فأخذها عليّ لنفسه، فخرج ورأسه يقطر.

يقول بريدة: كنت أبغض عليّاً بغضاً لم أُبغضه أحداً قط، وأحببت خالداً حبّاً لم أُحبّه إلّاعلي بغض علي، لأنّ خالداً كان يبغض عليّاً، فلمّا أخذ علي الجارية من الخمس، دعا خالد بن الوليد بريدة وقال له: إغتنمها- وكلاهما يبغضان عليّاً- اغتنمها فأخبر النبي بما صنع.

هذا لفظ الطبراني في [المعجم الأوسط] «1».

وفي [تاريخ دمشق ] لابن عساكر: فقال خالد بن الوليد: دونك يا بريدة.

__________________________________________________

(1) المعجم الأوسط 6/ 163.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 166

يقول بريدة: فكتب بذلك خالد بن الوليد إلي النبي صلّي اللَّه عليه وآله، وأمرني أن أنال منه، وهذا لفظ النسائي أيضاً.

وفي تاريخ دمشق: فكتب معي خالد يقع في علي وأمرني أنْ أنال منه، فأعطي الكتاب بيد بريدة

وعبّأ معه ثلاثة «1».

وكأنّه يريد بذلك إقامة البيّنة اللازمة علي ما صنع علي عند رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

يقول بريدة- كما في المعجم الأوسط «2» للطبراني وغيره من المصادر-:

فقدمت المدينة، ودخلت المسجد، ورسول اللَّه في منزله، وناس من أصحابه علي بابه، فقالوا: ما أقدمك؟ قال: جارية أخذها علي من الخمس، فجئت لأُخبر النبي، قالوا: فأخبِره فإنّه يسقطه من عين رسول اللَّه، ورسول اللَّه في البيت يسمع الكلام، هذا لفظ الطبراني.

فخرج رسول اللَّه من بيته، فقام أحد الأربعة فقال: يا رسول اللَّه، ألم تر أنّ عليّاً صنع كذا وكذا، فأعرض عنه النبي، ثمّ قال الثاني ما قال الأوّل، فأعرض عنه رسول اللَّه، ثمّ قام الثالث فقال ما قال، فأعرض عنه رسول اللَّه.

يقول بريدة: أعطيته الكتاب، فأخذه بشماله، فطأطأت رأسي، فتكلّمت في علي حتّي فرغت، فرفعت رأسي.

ويقول كما في لفظ آخر: وكنت من أشدّ الناس بغضاً لعلي، فوقعت في علي حتّي فرغت، فرفعت رأسي.

يقول: فرأيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله غضب غضباً لم أره غضب مثله

__________________________________________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 42/ 189- 196.

(2) المعجم الأوسط 6/ 162.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 167

إلّا يوم قريظة وبني النضير، فقال: «ماذا تريدون من علي؟ ماذا تريدون من علي؟

ماذا تريدون من علي؟ إنّ عليّاً منّي وأنا من علي، وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي».

ثمّ قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله- كما في [سنن البيهقي ] «1»، وفي [معجم الصحابة] «2» لأبي نعيم الإصفهاني، و [تاريخ دمشق ] لابن عساكر «3»، وفي [سبل الهدي والرشاد في سيرة خير العباد] «4»، وفي غيرها من المصادر، فراجعوها إن شئتم-: قال لهم رسول اللَّه: «إنّ له في الخمس أكثر من ذلك».

ثمّ قال صلّي اللَّه عليه وآله- كما

في [المستدرك ] للحاكم، وفي [المختارة] للضياء المقدسي، وفي [المعجم الأوسط] «5» وفي غيرها من المصادر «6»: «إنّه [أي علي ] لا يفعل إلّاما يؤمر»، أو: «إنّما يفعل علي بما يؤمر به».

ثمّ التفت إلي بريدة قائلًا: «أنافقت من بعدي يا بريدة؟» فقال بريدة: يا رسول اللَّه، أما بسطت يدك حتّي أُبايعك علي الإسلام جديداً! قال: فما فارقته حتّي بايعته، أي بايعت رسول اللَّه علي الإسلام.

يقول بريدة: فقمت وما من الناس أحد أحبّ إليّ من علي.

لاحظوا الفوارق بين روايتهم للقصة عن عمران بن حصين وعن بريدة ابن الحصيب، ولاحظوا، كيف تلاعبوا بالقضية فزاد أحدهم ونقص الآخر، ذكر

__________________________________________________

(1) سنن البيهقي 6/ 342.

(2) معرفة الصحابة 1/ 374 حديث 1207.

(3) تاريخ مدينة دمشق 42/ 194.

(4) سبل الهدي والرشاد 6/ 236.

(5) المعجم الأوسط 6/ 162.

(6) تاريخ مدينة دمشق 42/ 191، سبل الهدي والرشاد 11/ 295، كنز العمّال 11/ 612، حديث 32963.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 168

بعضهم بعض القصة ولم يذكر البعض الآخر، وأحدهم أو عدّة منهم يذكرون القصة مبتورة.

فهذه هي القصة كما يرويها بريدة بن الحصيب وهو صاحب القصة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 169

دلالة حديث الولاية علي العصمة … ص: 169

وهذه ألفاظ رسول اللَّه في حق علي عليه السّلام، تارة يقول: «إنّ عليّاً لا يفعل إلّا ما يؤمر به»، أو «إنّما يفعل ما أُمر به».

هذه العبارة تدلّ دلالة واضحة علي العصمة.

العبارة هذه في الحقيقة صغري لكبري ، أو مصداق لآية مباركة وهي قوله عزّ من قائل: «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ* لايَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ» «1».

وفي خطبة لأمير المؤمنين عليه السّلام يرويها شيخ الطائفة أبو جعفر الطوسي رحمة اللَّه عليه في [مصباح المتهجّد]، رأيت من المناسب أنْ أقرأ لكم هذه القطعة من تلك الخطبة يقول الشيخ: إنّ أمير المؤمنين خطب هذه

الخطبة في يوم الغدير:

«وإنّ اللَّه اختصّ لنفسه بعد نبيّه صلّي اللَّه عليه وآله من بريّته خاصةً، اختصّ منهم- أي من الخلائق بعد النبي- خاصة علاهم بتعليته، وسما بهم إلي رتبته، وجعلهم الدعاة بالحق إليه والأدلاء بالرشاد عليه، لقرن قرن وزمن زمن، أنشأهم في القدم قبل كلّ مدر ومبر، وأنواراً أنطقها لتحمده، وألهمها شكره وتمجيده، وجعلهم الحجج علي كلّ معترف له بملكة الربوبية وسلطان العبودية، واستنطق

__________________________________________________

(1) سورة الأنبياء (21): 26، 27.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 170

بها الخراسات بأنواع اللغات، بخوعاً له بأنّه فاطر الأرضين والسماوات، وأشهدهم علي خلقه، وولّاهم ما شاء من أمره، جعلهم تراجمة مشيّته وألسنة إرادته، عبيداً لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم، ولا يشفعون إلّالمن ارتضي ، وهم من خشيته مشفقون» «1».

فهذه مراتب من كان لا يفعل إلّابما يؤمر به، عبادٌ مكرمون، أي مقرّبون، لا يسبقونه بالقول، أي لا يقولون قبل أنْ يقول اللَّه سبحانه وتعالي ، هذا بالقول، وأمّا في الفعل والعمل: لا يفعلون إلّاما يؤمرون.

فحديثنا يدلّ علي العصمة.

وهذه في الجهة الأُولي من جهات البحث.

__________________________________________________

(1) مصباح المتهجّد: 753.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 171

دلالة حديث الولاية علي ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام … ص: 171

اشارة

الجهة الثانية: يدلّ هذا الحديث علي ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام: «علي منّي وأنا من علي، وهو وليّكم من بعدي».

ووجه الإستدلال بهذا الحديث الشريف هو: دلالته علي ثبوت الأولويّة بالتصرف لعلي عليه السّلام، وهذه الأولوية مستلزمة للإمامة، وذلك:

أوّلًا: لأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله حصرها في علي عندما قال: «وهو وليّكم من بعدي»، ومن المعلوم أنّ المعاني الأُخري من الولاية، كالنصرة والمحبّة وغيرهما، ليست بأمور مختصّة بعلي عليه السّلام.

ثانياً: لوجود كلمة «بعدي» في ألفاظ الحديث كلّها أو أكثرها، فكلمة «بعدي» صريحة في هذا المعني ، لأنّ البعديّة هذه إمّا

زمانية أو رتبيّة:

ربّما يستظهر بالدرجة الأُولي أن تكون البعديّة رتبيّة، «علي وليّكم بعدي» أي غيري، أي ما عداي في الرتبة علي وليّكم.

أمّا إذا كانت كلمة «بعدي» بمعني الزمان والظرف، فتدل علي أنّ أمير المؤمنين وليّ المؤمنين بعد رسول اللَّه بلا فصل، وإلّا لما حرّف بعضهم الحديث وأسقط كلمة «بعدي» كما سنعلم!

ثالثاً: هذه الرواية واردة بألفاظ أُخري أيضاً، وتلك الألفاظ هي الأُخري تدلّ

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 172

علي إمامة أمير المؤمنين وأولويته.

فمثلًا: لاحظوا المسند لابن حنبل «1»، والمستدرك «2»، وتاريخ دمشق «3»، وغيرها من الكتب «4»، كلّهم يروون عن بريدة في نفس هذه القصة قوله: فلمّا قدمت علي رسول اللَّه ذكرت عليّاً فتنقّصته، فرأيت وجه رسول اللَّه يتغيّر، فقال:

«يا بريدة، ألست أولي بالمؤمنين من أنفسهم؟» قلت: بلي يا رسول اللَّه، قال: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه».

وهذا هو نفس الحديث الذي أمر اللَّه تعالي رسوله أن يقوله يوم الغدير في أُخريات حياته.

وفي المسند وتاريخ دمشق بطرق عديدة وفي غيرهما من المصادر يقول رسول اللَّه بعد تلك العبارات: «يا بريدة، من كنت وليّه فعليّ وليّه» «5».

رابعاً: هناك في ألفاظ هذا الحديث وهذه القصة مناقب أُخري لأمير المؤمنين، تختصّ به ولا يشاركه فيها غيره من الصحابة. فمثلًا، لاحظوا [المعجم الأوسط] للطبراني «6» ففيه: يقول صلّي اللَّه عليه وآله في هذه القضيّة: «ما بال أقوام ينتقصون عليّاً؟ [لاحظوا بدقّة] من ينتقص عليّاً فقد تنقّصني، ومن فارق عليّاً فقد فارقني، إنّ عليّاً منّي وأنا منه، خلق من طينتي، وخلقت من طينة إبراهيم، وأنا أفضل من إبراهيم، ذريّة بعضها من بعض واللَّه سميع عليم».

__________________________________________________

(1)

مسند أحمد 5/ 347.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 110.

(3) تاريخ ابن عساكر 42/ 187.

(4) المصنّف 7/ 506، الآحاد والمثاني للضحّاك

4/ 325، حديث 2357، السنن الكبري 5/ 45.

(5) تاريخ مدينة دمشق 42/ 188 و 192 و 193- 194.

(6) المعجم الأوسط 6/ 163.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 173

فهذه المناقب جاءت في نفس هذه القصة، مضافاً إلي قوله صلّي اللَّه عليه وآله: «إنّه لا يفعل إلّاما يؤمر به»، وغير ذلك من ألفاظ هذا الحديث، كما قرأنا.

خامساً: ابن عباس يذكر هذه المنقبة، وهذه الفضيلة، ضمن فضائل لأمير المؤمنين يصرّح بأنّها خاصة بعلي، وحديث عبداللَّه بن عباس موجود في مسند الطيالسي، وفي مسند أحمد، وفي المستدرك للحاكم، وفي غيرها من الكتب بسندٍ ينصّون علي صحته … كما ذكرنا سابقاً.

سادساً: حديث الولاية بهذا اللفظ من جملة ما قاله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في بدء الدعوة المحمّدية، في حديث الإنذار الذي قرأناه، حيث قال لهم- أي للحاضرين-: «من يبايعني علي أنْ يكون أخي وصاحبي ووليّكم بعدي» «1».

إذن، فالحديث نصّ في الأولويّة، مضافاً إلي القرائن الموجودة في داخل الحديث، والقرائن الموجودة في خارجه.

وحتّي الآن، فهمنا كيف يكون الحديث دالّاً علي العصمة؟ وكيف يكون دالّاً علي الأولويّة؟

وفي هذا الحديث والقصة التي قرأناها فوائد كثيرة، ينبغي للباحث أنْ يدقّق النظر فيها.

وجود حركة النفاق في زمن الرسول … ص: 173

ويدلّ هذا الحديث وتلك القصة علي وجود حركة النفاق في زمن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وبين المقرّبين من أصحابه، حتّي بين بعض قوّاد جيوشه، فلا يقال: بأنّ النفاق كان يختصّ بعبداللَّه بن أُبي وأمثاله من المنافقين المعروفين المشهورين الذين كان يشار إليهم بالبنان، وقد عُرفوا بالنفاق بين جميع الناس.

__________________________________________________

(1) راجع القسم المختص بحديث الدار من هذا الكتاب.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 174

إنّ هذه القصة تكشف لنا خفايا حالات المقرّبين من أصحاب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

وكم كنت أُحبّ

أنْ أعرف الثلاثة الآخرين الذين جاءوا من اليمن مع بريدة إلي المدينة قبل أن يرجع الجيش، أرسلهم خالد بن الوليد بلا علمٍ من أمير المؤمنين، وإنْ كنت قد وجدت اسم واحد أو اثنين منهم!

وأيضاً، كم كنت أُحبّ أنْ أعرف أُولئك الذين كانوا جالسين علي باب النبي صلّي اللَّه عليه وآله، واستقبلوا بريدة ومن معه، وكأنّ هناك تنسيقاً بين خالد وأصحابه، وبين أُولئك الذين كانوا عند النبي وعلي بابه!

خالد بن الوليد- كما في صريح القصّة- كان يبغض عليّاً، ويعترف عليه بهذا المعني بريدة بن الحصيب، ويقرّ علي نفسه أيضاً، فيظهر أنّ خالد بن الوليد كان عدوّاً لعلي منذ حياة رسول اللَّه.

وخالد هذا هو الذي أرسله أبو بكر إلي القبائل العربية التي أبت أن تبايع أبا بكر وامتنعت من دفع الزكاة إليه، وأعلنت عن اعتقادها بإمامة علي عليه السّلام لكونهم قد بايعوه يوم غدير خم!

وخالد هذا هو الذي أمره أبو بكر بأن يقتل عليّاً في أثناء الصلاة، ثمّ لمّا ندم علي ذلك قبل أن يسلّم قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك به.

وخالد هذا من جملة المهاجمين علي دار علي والزهراء في قضية السقيفة.

فقد كان أبو بكر يعرف من يرسل لقتل أنصار أمير المؤمنين، ويعرف من يكلّف بقتل الإمام في أثناء الصلاة، ولولا هذا الخبر الذي وجدناه في كتاب [الأنساب ] «1» للسمعاني، يذكر لنا حضور علي في صلاة أبي بكر، وأنّ أبا بكر قد

__________________________________________________

(1) الأنساب 3/ 95.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 175

أمر خالداً بأنْ يقتل عليّاً في أثناء الصلاة، لولا هذا الخبر المشتمل علي هذه الفائدة الكبيرة- لا أتذكّر الآن حديثاً في كتاب معتبر لأهل السنّة يعتمد عليه، يدلّ علي أنّ عليّاً كان ملتزماً بالحضور للصلاة مع

أبي بكر أو غيره من الصحابة، ولو وجدتم فأخبروني، أكون لكم من الشاكرين- الذي وجدناه إلي الآن هذا الخبر، وهو يفيدنا:

إنّ أبا بكر أمر خالداً أنْ يقتل عليّاً وهو يصلّي خلفه في أثناء الصلاة! وهو في مسجد رسول اللَّه! ثمّ إنّه ندم علي ذلك، وقبل أنْ يسلّم قال: يا خالد لا تفعل ما أمرتك.

وهذا قد لا يراه أحد، لأنّ كتاب الأنساب للسمعاني ليس بكتاب حديث، ولا يوجد مثل هذا الخبر في شي ء من الصحاح والمسانيد والسنن ومعاجم الحديث، ولكنّ اللَّه شاء أنْ يصلنا ولو في كتاب في الرجال، ولو من ناحية من يتّهمونه بالتشيّع- وهو عبّاد بن يعقوب الرواجني- يتّهمونه بالتشيّع لروايته مثل هذه الأخبار، ممّا يدلّ علي فضائل أمير المؤمنين، وبعض ما يسي ء الآخرين.

وعلي كلّ حال، فخالد هذا وضعه، وهذا شأنه، أراد أن ينتهز تلك الفرصة، قضيّة أخذ أمير المؤمنين تلك الجارية، يقول الحديث: وكانت جارية حسناء- عندما قرأت هذه الكلمة، تذكّرت قضية زوجة مالك، فإنّ مالك بن نويرة عندما قبض عليه خالد وأمر بقتله، إلتفت إلي زوجته وقال: أنت التي قتلتيني «1»، وذلك لأنّها كانت من أجمل نساء العرب، وكان خالد يهواها، ولذا زنا بها في نفس الليلة التي قتل فيها مالكاً، وهذا ما أدّي إلي ضجّة شديدة بالمدينة المنوّرة بين عامة المسلمين- ففعل علي هذا، أي أخذ الجارية هذه من الخمس، وقال رسول اللَّه:

«إنّ له أكثر من ذلك»، وكان خالد يتصوّر بأنّه لو ينتهز هذه الفرصة، ويرسل هؤلاء الجماعة، ويكتب هذا الكتاب، وينسّق مع الموجودين في المدينة المنوّرة، الذين

__________________________________________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 16/ 285، سير أعلام النبلاء 1/ 377.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 176

يفكّرون تفكيره ويخطّطون معه، ليستفيدوا من هذه القضية، ويحطّوا من

منزلة علي عند رسول اللَّه وعند المسلمين، وكأنّ في القضيّة مؤامرةً مدبّرة من هؤلاء المنافقين، ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله ملتفت إلي جميع القضايا عالم بنوايا هؤلاء القوم، وهم لا يعلمون أنّه يسمع أصواتهم من وراء الباب، من وراء الجدار، وهم جالسون علي بابه، فخرج صلّي اللَّه عليه وآله والغضب يعرف في وجهه فقال: «ما تريدون من علي، ما تريدون من علي، دعوا عليّاً … ».

وما زالت المؤامرات ضدّ علي وإلي يومنا هذا، وما زال علي مظلوماً حتّي مِن بعض من يدّعي الإنتساب إليه، وإلي متي ؟ لكن اللَّه شاء هذا، وشاءت المصلحة العامة أن يكون حال علي كحال هارون، وأن تكون منزلته من رسول اللَّه منزلة هارون من موسي ، كما سنقرأ في حديث المنزلة.

والخلاصة: إنّي أري في هذه القضيّة خطّة مدبّرة ومؤامرة منسّقة مرتّبة بين الغائبين عن المدينة المنّورة والحاضرين هناك ضدّ أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

وقد انقلبت المؤامرة عليهم، وأصبحت القضية من جملة موارد إعلان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله- من قبل اللَّه سبحانه وتعالي - عن إمامة أمير المؤمنين، وولايته وعصمته، وعن أنّ كلّ من يبغض عليّاً عليه أن يستغفر، وعليه أن يجدّد إسلامه بعد استغفاره.

أرادوا أنْ ينتهزوا الفرصة ضدّ علي، فانتهزها رسول اللَّه في صالح علي والإسلام، فكان حديث الولاية دالّاً علي إمامة أمير المؤمنين من جهات عديدة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 177

المناقشات في حديث الولاية … ص: 177

والآن، فلننظر ماذا يقول المخالفون في مقام الرد علي هذا الحديث.

ليست لهم مناقشة تسمع وتستحق الذكر، إلّامناقشتهم في معني «وليّكم»، لاحتمال أنْ يكون المراد: علي ناصركم، علي محبّكم من بعدي.

لكن الحديث بقرائنه الداخليّة والخارجيّة والقصة بأجمعها، تأبي كلّ هذه التشكيكات وهم أيضاً يعلمون بهذا.

ولذا يضطرّون إلي اللجوء إلي

طريقة أُخري ، هي تحريف الحديث، وأنا ذاكر لكم بعض مواضع تحريفاتهم.

مثلًا: إذا راجعتم [صحيح البخاري ] «1»، ترونه يروي بسنده عن عبداللَّه بن بريدة، عن أبيه- نفس السند-، يقول: بعث النبي صلّي اللَّه عليه وآله عليّاً إلي خالد ليقبض الخمس، يقول بريدة: وكنت أُبغض عليّاً، وقد اغتسل- التقطيع في الحديث واضح، فمن يدقّق النظر في لفظ هذا الحديث المبتور يري أنّ فيه تقطيعاً! يري أنّ فيه تحريفاً!- لاحظوا: بعث النبي صلّي اللَّه عليه وآله عليّاً إلي خالد ليقبض الخمس وكنت أُبغض عليّاً، وقد اغتسل، فقلت لخالد: ألا تري إلي هذا، فلمّا قدمنا علي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ذكرت ذلك له.

__________________________________________________

(1)

صحيح البخاري 5/ 207.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 178

لا يقول: تنقّصت عليّاً عند النبي، لا يقول: أمرني خالد، ولا، ولا، ولا، يقول:

ذكرت ذلك له- وكأنّه يذكر قضيّةً طبيعية- فقال: «يا بريدة، أتبغض عليّاً؟» فقلت:

نعم، فقال: «لا تبغضه فإنّ له في الخمس أكثر من ذلك».

فأين حديث «علي منّي وأنا من علي، وهو وليّكم من بعدي»؟

هذا لفظ البخاري.

وإذا راجعتم البيهقي في [سننه ] «1»، وهو تلميذ الحاكم النيشابوري، وقد قرأت لكم لفظ الحاكم النيشابوري في مستدركه، لكنّ البيهقي يروي الحديث عن شيخه الحاكم بإسناده ويسقط من آخره: «إنّ عليّاً منّي وأنا من عليّ وهو وليّكم من بعدي».

وإذا راجعتم [مصابيح السنّة] «2» للبغوي، الذي هو من أهم كتب الحديث عندهم، ترون أنّه لا توجد فيه كلمة «بعدي»، ففيه: «علي منّي وأنا من علي وهو وليّكم».

فعندما تسقط كلمة «بعدي» يصبح علي لائقاً للولاية أو منصوباً للولاية من قبل النبي، لكنْ متي ؟ لِيكنْ بعد عثمان!!

وإذا راجعتم [المشكاة] «3»، يروي هذا الحديث عن الترمذي بلا لفظة «بعدي»، أي ينسب هذا الحديث المحرّف إلي

الترمذي، مع أنّ الحديث موجود في الترمذي مع كلمة «بعدي»!! وكأنهم لا يشعرون أنّ هناك ناظراً في الكتاب، وأنّ هناك من يرجع إلي صحيح الترمذي ويطابق بين النقلين وبين اللفظين، لكنّهم لا يستحون.

__________________________________________________

(1)

سنن البيهقي 6/ 342.

(2) مصابيح السنّة 4/ 172 رقم 4766 وفيه باختلاف: «وهو وليّ كلّ مؤمن».

(3) مشكاة المصابيح للخطيب التبريزي 2/ 504، حديث 6090.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 179

إذن، هذه طريقة ثانية وهي طريقة التحريف.

لكنْ لا مناص لمن يريد أنْ يخالف اللَّه ورسوله، لمن يريد أن يعرض عمّا أراد اللَّه ورسوله، من أن يتّبع طريقة ابن تيميّة، إنّه يقول: هذا الحديث كذب، وهذه أحسن طريقة لمن يريد أن يخالف اللَّه ورسوله فيما قالا، وفيما أرادا، أنْ ينفي أصل القضية، وينكر أصل الخبر، ويكذّب الحديث من أصله، نصّ عبارة ابن تيميّة:

قوله: «وهو وليّ كلّ مؤمن بعدي» كذب علي رسول اللَّه، وكلام يمتنع نسبته إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله «1».

هذه الطريقة التي لهم أن يتّخذوها، والأفضل لهم أن يسلكوا هذا الطريق، فلماذا التحريف؟ ولماذا التكذيب لبعض الألفاظ ولبعض الخصوصيات الموجودة في الحديث؟ لننكر أصل الحديث ونرتاح.

«فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْديهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ» «2».

«فَلا وَرَبِّكَ لايُؤْمِنُونَ حَتَّي يُحَكِّمُوكَ فيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لايَجِدُوا في أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْليمًا» «3».

وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4/ 164.

(2) سورة البقرة (2): 79.

(3) سورة النساء (4): 65.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 183

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

موضوع بحثنا «حديث الثقلين»، هذا الحديث الذي لو عمل به وطبّق لما وقع خلاف بين المسلمين.

إنّ الدعوة

إلي الوحدة الإسلامية وإلي نبذ الخلافات بين الفرق، من جملة الأُمور التي يهتمّ بها المفكّرون المصلحون من المسلمين، وعندهم للوصول إلي هذا الهدف مشاريع واقتراحات ونظريات، ولكن حديث الثقلين خير جامع بين المسلمين، لأنّه حديث يتّفق عليه كلّ الأطراف، وهو حديث واضح في مدلوله وفي معناه.

ولنذكر قبل الورود بالبحث لفظاً أو لفظين من ألفاظ هذا الحديث الشريف:

في [صحيح الترمذي ] بسنده عن جابر بن عبداللَّه الأنصاري، قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «يا أيّها الناس إنّي تركت فيكم ما إنْ أخذتم به لن تضلّوا: كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي» «1».

وفي [صحيح الترمذي ] أيضاً بإسناده عن زيد بن أرقم قال: قال رسول اللَّه

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 6/ 124 رقم 3786.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 184

صلّي اللَّه عليه وآله: «إنّي تارك فيكم ما إنْ تمسّكتم به لن تضلّوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللَّه حبل ممدود من السماء إلي الأرض وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتّي يردا عَلَيّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما» «1».

فهذان لفظان من ألفاظ الحديث، عن صحابيين من رواة هذا الحديث الشريف.

ويقع البحث في هذا الحديث من جهات:

الجهة الأُولي: في تحقيق ألفاظ هذا الحديث.

الجهة الثانية: في رواة هذا الحديث.

الجهة الثالثة: في دلالات هذا الحديث.

الجهة الرابعة: في المناقشات والمعارضات.

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 6/ 125 الرقم 3788.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 185

حديث الثقلين … ص: 185

الجهة الأُولي … ص: 185

في تحقيق ألفاظ حديث الثقلين … ص: 185

هذا الحديث مشهور بحديث الثقلَين، والثَقَل: متاع المسافر كما في اللغة، فإنّي تارك فيكم الثَقَلين، الثقلين تثنية ثَقَل، وجماعة من المحدّثين واللغويين يقرأون الكلمة بالثِّقْلين: «إنّي تارك فيكم الثِّقْلين»، فيكون تثنية للثِقْل.

ولعلّ الأظهر كون الكلمة محرّكةً، أي «إنّي تارك فيكم الثَّقَلين» علي أن تكون تثنية للثَقَل.

يقول صاحب [القاموس ]: «والثقل- محركة- متاع المسافر وحشمه وكلّ شي ء

نفيس مصون، ومنه الحديث: إنّي تارك فيكم الثَقَلين كتاب اللَّه وعترتي» «1».

وإنّما أُرجّح الثَّقَلين علي الثِّقْلين، لأنّه إذا كان الثَّقَل بمعني متاع المسافر، فهذا أنسب بحال النبي صلّي اللَّه عليه وآله، وبالظروف التي قال فيها هذا الكلام، لأنّ المسافر من بلدٍ إلي بلد وخاصةً مع العزم علي عدم العود إلي بلده السابق، يأخذ معه متاعه، ولمّا كانت المراكب في تلك العصور لا تتحمّل أخذ جميع وسائل الإنسان وأمتعته، فلا بدّ وأن يأخذ معه أنفس وأغلي الأشياء التي يمتلكها، أو تكون في حوزته.

__________________________________________________

(1) القاموس المحيط 3/ 468، مادة «ثقل».

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 186

ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول في حديث الثقلين: «إنّي قد دعيت فأجبت»، أو: «يوشك أنْ أُدعي فأُجيب»، هذه مقدمة حديث الثقلين، فيخبر رسول اللَّه عن دنوّ أجله وقرب رحيله عن هذه الحياة، وحينئذ يقول: «وإنّي تارك»، ولا يخفي أنّ أغلي الأشياء عند النبي صلّي اللَّه عليه وآله وأثمنها في حياته:

القرآن والعترة، فكان ينبغي أنْ يأخذ القرآن والعترة معه، لكن مقتضي رأفته بهذه الأُمّة وحرصه علي بقاء هذا الدين هو أن يبقي أغلي الأشياء عنده في هذا العالم، ويترك الثقلين الأمرين اللّذين كان مقتضي الحال أن يأخذهما معه، فيقول: «إنّي تارك فيكم الثَقَلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي»، ثمّ يوصيهم بقوله: «ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا»، فالغرض من إبقاء هذين الأمرين بين الأُمة، والهدف من تركهما فيهم، هو أنْ لا يضلّوا من بعده.

فبهذه القرائن الموجودة في داخل الحديث، والظروف المحيطة بهذا الكلام، نرجّح أنْ تكون الكلمة الثقَلين لا الثقْلين.

وقد لاحظتم في اللفظين المذكورين أنّه في اللفظ الأوّل يقول: «ما إنْ أخذتم بهما لن تضلّوا»، وفي اللفظ الثاني يقول: «ما إنْ تمسّكتم

بهما لن تضلّوا»، وهذان اللفظان موجودان عند غير الترمذي أيضاً.

فلفظة «ما إن أخذتم» أو لفظة «الأخذ» موجودة في [مسند أحمد] «1»، وفي [مسند ابن راهويه ] «2»، وفي [طبقات ابن سعد] «3»، وفي [صحيح الترمذي ] «4»،

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 3/ 59.

(2) أنظر: المطالب العالية لابن حجر العسقلاني، رقم 1873.

(3) طبقات ابن سعد 2/ 194.

(4) صحيح الترمذي 6/ 124 رقم 3786.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 187

وفي [مسند أبي يعلي ] «1»، وفي [المعجم الكبير] للطبراني «2»، وفي [مصابيح السنّة] للبغوي «3»، وفي [جامع الأُصول ] لابن الأثير «4»، وفي غيرها من المصادر.

ولفظ «التمسك» تجدونه في [مسند عبد بن حميد] «5»، وفي [الدر المنثور] «6»، وغيرهما من المصادر «7».

وأنتم لو راجعتم اللغة، لوجدتم معني «الأخذ» في مثل هذا المقام، وكذا معني «التمسك» فيه «الإتّباع».

لكنّ كلمة «الإتّباع» أيضاً من ألفاظ حديث الثقلين، وهذا ما تجدونه في رواية ابن أبي شيبة «8».

وفي رواية الخطيب البغدادي «9» لفظ «الاعتصام» بدل لفظ «التمسك» و «الأخذ»، يقول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «إنّي تركت فيكم ما لن تضلّوا بعدي إنْ اعتصمتم به: كتاب اللَّه وعترتي»، و «الإعتصام» في اللغة العربية، في الكتاب والسّنة وفي الإستعمالات الفصيحة هو «التمسك» «10».

ولذا نري في الحديث المتفق عليه- أي الموجود في كتب أصحابنا وفي

__________________________________________________

(1) مسند أبي يعلي 2/ 376 رقم 1140.

(2) المعجم الكبير 3/ 62- 63 رقم 2678 ورقم 2680.

(3) مصابيح السنّة 4/ 189 رقم 481.

(4) جامع الأصول 1/ 277 رقم 65.

(5) المنتخب من مسند عبد بن حميد: 114 رقم 265.

(6) الدرّ المنثور 2/ 285.

(7) احياء الميت بفضائل أهل البيت للسيوطي: 36 رقم 7.

(8) مصنف ابن أبي شيبة 10/ 505 رقم 10127.

(9) أنظر: كنز العمّال 1/ 187 رقم 951.

(10) الصحاح

4/ 1608، لسان العرب 10/ 488، مادة «مسك».

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 188

كتب القوم- عن الإمام الصادق عليه السّلام بتفسير قوله تعالي : «وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقُوا» «1»

يقول الإمام جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام: «نحن حبل اللَّه». وحديث الصادق عليه السّلام هذا بتفسير الآية المباركة موجود في [تفسير الثعلبي ]، وفي [الصواعق المحرقة] «2»، وبعض المصادر الأُخري «3».

وإذا راجعتم تفسير الفخر الرازي «4» في تفسير هذه الآية المباركة، وأيضاً تفسيرالخازن «5» وبعض التفاسير الأُخري ، لرأيتم أنّهم يذكرون حديث الثقلين في تفسير الآية المباركة، وقد عرفنا أنّ الإعتصام هو «التمسك»، و «التمسك» يرجع إلي «الإتّباع» أيضاً، وذلك موجود أيضاً بسند صحيح في [مستدرك ] الحاكم «6».

وإذا وجب «الإتّباع» ثبتت الإمامة بلا نزاع، فيكون علي وأهل البيت عليهم السّلام خلفاء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله من بعده.

لكن حديث الثقلين ورد بلفظ «الخليفتين» أيضاً، كما تجدونه عند أحمد في [المسند] «7»، وابن أبي عاصم في [كتاب السنّة] «8»، وفي [المعجم الكبير] للطبراني، يقول الحافظ الهيثمي بعد أن يرويه عن المعجم الكبير للطبراني «9»: «ورجاله

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران (3): 103.

(2) الصواعق المحرقة: 233.

(3) شواهد التنزيل 1/ 169 و 170.

(4) تفسير الرازي 8/ 173.

(5) تفسير الخازن 1/ 277.

(6) المستدرك علي الصحيحين 3/ 110.

(7) مسند أحمد 5/ 181 رقم 21068 و 189 رقم 21145.

(8) كتاب السنّة: 336 رقم 754.

(9) المعجم الكبير 5/ 52.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 189

ثقات» «1»، وكذا صحّح الحديث جلال الدين السيوطي «2».

والألطف من هذا، عندما نراجع [فيض القدير في شرح الجامع الصغير] «3» يقول المنّاوي بشرح كلمة «عترتي» يقول: «وهم أصحاب الكساء الذين أذهب اللَّه عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً».

فلاحظوا، ألفاظ هذا الحديث كيف تنتهي إلي الإمامة

والخلافة، وإلي تعيين الإمام والخليفة بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

فظهر: أنّ هذا الحديث بجميع ألفاظه يؤدّي معنيً واحداً، وهو معني الإمامة، أمّا بلفظ «الخليفتين» فهو نص، ولا خلاف في هذا، وأيّ لفظ يكون أصرح في الدلالة علي الإمامة والخلافة من هذا اللفظ؟! «إنّي تارك فيكم خليفتين- أو الخليفيتين-: كتاب اللَّه وعترتي، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي».

إذن، رأينا كيف يصدّق الحديث القرآن الكريم، وكيف يصدّق القرآن الكريم الحديث النبوي الشريف.

«وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقُوا».

فهذه هي الجهة الأُولي فيما يرتبط بألفاظ حديث الثقلين، وأنّه كيف نستكشف الإمامة والخلافة من نفس الألفاظ، بغضّ النظر عن ذلك اللفظ الذي هو نصّ صريح بالخلافة بعد رسول اللَّه.

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 165.

(2) الجامع الصغير 1/ 402 رقم 263.

(3) فيض القدير في شرح الجامع الصغير 3/ 14 شرح حديث 2631.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 191

الجهة الثانية … ص: 191

رواة حديث الثقلين … ص: 191

إنّ رواة حديث الثقلين من الصحابة هم أكثر من ثلاثين شخصاً:

1- أمير المؤمنين عليه السّلام.

2- الإمام الحسن السبط عليه السّلام.

3- أبو ذر الغفاري.

4- سلمان الفارسي.

5- جابر بن عبداللَّه الأنصاري.

6- أبو الهيثم ابن التّيهان.

7- حذيفة بن اليمان.

8- حذيفة بن أسيد أبو شريحة أو سريحة.

9- أبو سعيد الخدري.

10- خزيمة بن ثابت.

11- زيد بن ثابت.

12- عبدالرحمن بن عوف.

13- طلحة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 192

14- أبو هريرة.

15- سعد بن أبي وقّاص.

16- أبو أيّوب الأنصاري.

17- عمرو بن العاص.

وغير هؤلاء من الصحابة.

18- فاطمة الزهراء بضعة الرسول صلوات اللَّه عليها.

19- أُمّ سلمة أُمّ المؤمنين.

20- أُم هاني أُخت الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام.

ورواة الحديث من مشاهير الأئمّة في مختلف القرون يبلغون المئات، وسأذكر أسامي خمسين رجلًا منهم، وهؤلاء أشهر مشاهيرهم عبر القرون المختلفة:

1- سعيد بن مسروق الثوري.

2- سليمان بن مهران

الأعمش.

3- محمّد بن إسحاق، صاحب السيرة.

4- محمّد بن سعد، صاحب الطبقات.

5- أبو بكر ابن أبي شيبة، صاحب المصنّف.

6- ابن راهويه، صاحب المسند.

7- أحمد بن حنبل، صاحب المسند.

8- عبد بن حُميد، صاحب المسند.

9- مسلم بن الحجّاج، صاحب الصحيح.

10- ابن ماجة القزويني، صاحب السنن الذي هو أحد الصحاح الستّة.

11- أبو داود السجستاني، صاحب السنن وهو أحد الصحاح.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 193

12- الترمذي، صاحب الصحيح.

13- ابن أبي عاصم، صاحب كتاب السنّة.

14- أبو بكر البزّار، صاحب المسند.

15- النسائي، صاحب الصحيح.

16- أبو يعلي الموصلي، صاحب المسند.

17- محمّد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير.

18- أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم.

19- أبو الحسن الدارقطني البغدادي، الإمام المعروف.

20- الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك.

21- أبو نعيم الإصفهاني، صاحب المؤلّفات المعروفة.

22- أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبري .

23- ابن عبدالبر، صاحب الإستيعاب.

24- الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.

25- محي السنّة البغوي، صاحب مصابيح السنّة.

26- رزين العبدري، صاحب الجمع بين الصحاح الستّة.

27- القاصي عياض، صاحب كتاب الشفاء.

28- ابن عساكر الدمشقي، صاحب تاريخ دمشق.

29- ابن الأثير الجزري، صاحب أُسد الغابة.

30- الفخر الرازي، صاحب التفسير الكبير.

31- الضياء المقدسي، صاحب كتاب المختارة.

32- أبو زكريا النووي، صاحب شرح مسلم.

33- أبو الحجّاج المزّي، صاحب تهذيب الكمال.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 194

34- شمس الدين الذهبي، صاحب الكتب المشهورة.

35- ابن كثير الدمشقي، صاحب التاريخ والتفسير.

36- نور الدين الهيثمي، صاحب مجمع الزوائد.

37- جلال الدين السيوطي، صاحب المؤلفات المعروفة.

38- شهاب الدين القسطلاني، شارح البخاري.

39- شمس الدين الصالحي الدمشقي، تلميذ الحافظ السيوطي.

40- شهاب الدين ابن حجر العسقلاني، شيخ الإسلام، وصاحب المؤلفات.

41- شمس الدين ابن طولون الدمشقي.

42- شهاب الدين ابن حجر المكّي، صاحب الصواعق.

43- المتقي الهندي، صاحب كنز العمّال.

44- علي القاري الهروي، صاحب المرقاة في شرح المشكاة.

45- المنّاوي، شارح الجامع

الصغير.

46- نور الدين الحلبي، صاحب السيرة.

47- زيني دحلان، صاحب السيرة.

48- منصور علي ناصف، صاحب التاج الجامع للأُصول.

49- النبهاني، صاحب المؤلّفات.

50- المبارك پوري، شارح صحيح الترمذي.

هؤلاء خمسون نفراً، وهذا العدد عُشر رواة حديث الثقلين من أعلام أهل السنّة في القرون المختلفة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 195

الجهة الثالثة … ص: 195

دلالات حديث الثقلين … ص: 195

قد عرفتم بنحو الإجمال دلالة حديث الثقلين علي الإمامة في أثناء البحث عن ألفاظه فقط، فكان الحديث في بعض ألفاظه نصّاً علي إمامة وخلافة علي أمير المؤمنين عليه السّلام، وهو في ألفاظه الأُخري - كلفظ «التمسّك» ولفظ «الأخذ» ولفظ «الإتّباع» و «الاعتصام» ونحو ذلك- يدلّ علي الإمامة والخلافة بالدلالة الإلتزاميّة، من حيث أنّ هذه الألفاظ تدلّ علي وجوب «الإتّباع» و «الإنقياد» و «الإطاعة المطلقة»، وهناك ملازمة ثابتة عند الكلّ بين «الإطاعة المطلقة» وبين «الإمامة» و «الخلافة».

وإن كنتم في شكٍ، فارجعوا إلي شرّاح الحديث، بإمكانكم أن ترجعوا إلي فيض القدير في شرح جامع الصغير، وإلي المرقاة في شرح المشكاة، وإلي نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض، وإلي شرح المواهب اللدنيّة، والسراج المنير في شرح الجامع الصغير، وحتي إذا ترجعون إلي الصواعق المحرقة، إلي كتاب جواهر العقدين، وإلي أمثال هذه الكتب، لكي تروا كيف يشرحون حديث الثقلين وينصّون علي أنه حثٌّ وأمرٌ من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله بالإهتداء بهدي أهل البيت، والتعلّم منهم والإقتداء بهم:

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 196

يقول المنّاوي: «في هذا الحديث تصريح بأنّهما- أي القرآن والعترة- كتو أمين خلّفهما وأوصي أُمّته بحسن معاملتهما، وإيثار حقّهما علي أنفسهم، والإستمساك بهما في الدين» «1».

ويقول القاري في شرح الحديث: «معني التمسك بالعترة محبّتهم والإهتداء بهداهم وسيرتهم» «2».

ويقول الزرقاني المالكي- وهو أيضاً محقق في الحديث- يقول: «وأكّد تلك الوصية وقوّاها بقوله: فانظروا

بمَ تخلفوني فيهما بعد وفاتي، هل تتبعونهما فتسرّوني أو لا، فتسيئوني «3».

ويقول ابن حجر المكّي: «حثّ صلّي اللَّه عليه وآله علي الإقتداء والتمسك بهم والتعلّم منهم» «4».

وحينئذ، يكون من دلالات حديث الثقلين: أعلميّة أهل البيت من غيرهم، بالأعلميّة المطلقة، وهي تستلزم أفضليّتهم، والأفضليّة مستلزمة للإمامة، كما سنقرأ إن شاء اللَّه تعالي ونحقّق هذا الموضوع.

إذن، كلّ الصحابة كانوا مأمورين بالرجوع إلي أهل البيت، والإقتداء بهم، والتعلّم منهم، وإطاعتهم والإنقياد لهم.

ومن هنا، فقد جاء في بعض ألفاظ حديث الثقلين- كما هو عند الطبراني «5»،

__________________________________________________

(1) فيض القدير 3/ 15.

(2) المرقاة في شرح المشكاة 10/ 531.

(3) شرح المواهب اللدنيّة بالمنح المحمّديّة 7/ 7.

(4) الصواعق المحرقة: 231.

(5) المعجم الكبير 5/ 166- 167.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 197

وفي [مجمع الزوائد] «1»، وعند ابن الأثير في [أُسد الغابة] «2»، وأيضاً في [الصواعق المحرقة] «3» - قال رسول اللَّه بعد: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وعترتي أهل بيتي ما إن تمسّكتم بهما … » قال: «فلا تقدّموهما فتهلكوا، ولا تقصّروا عنهما فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم»، ففي نفس حديث الثقلين توجد هذه الفقرة في رواية القوم.

أمّا الشرّاح فيوضّحون هذه الناحية أيضاً، مثلًا يقول القاري في [المرقاة] «4»:

«الأظهر هو أنّ أهل البيت غالباً يكونون أعرف بصاحب البيت وأحواله، فالمراد بهم أهل العلم منهم، المطّلعون علي سيرته، الواقفون علي طريقته، العارفون بحكمه وحكمته، وبهذا يصلح أن يكونوا عِدلًا لكتاب اللَّه سبحانه، كما قال تعالي :

«يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ»» «5».

وإذا راجعتم [الصواعق ] «6» لوجدتم هذه العبارة بالنص يقول: «وفي قوله صلّي اللَّه عليه وآله: «فلا تقدّموهم فتهلكوا، ولاتقصّروا عنهم فتهلكوا، ولا تعلّموهم فإنّهم أعلم منكم» في قوله هذا دليل علي أنّ من تأهّل منهم للمراتب العليّة

والوظائف الدينيّة كان مقدّماً علي غيره».

فتكون هذه الفقرة الدالة علي وجوب التعلّم منهم دالّة علي إمامتهم وتقدّمهم

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 164.

(2) أُسد الغابة 2/ 13.

(3) الصواعق المحرقة: 230.

(4) المرقاة في شرح المشكاة 10/ 531.

(5) سورة البقرة (2): 129، سورة آل عمران (3): 164، سورة الجمعة (62): 2.

(6) الصواعق المحرقة: 230.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 198

علي غيرهم.

وهذه أيضاً من دلالات حديث الثقلين.

وفي قِران أهل البيت بالقرآن دلالة علي عصمة أهل البيت، وعلي وجود شخص من أهل البيت في كلّ زمان، يصلح للإمامة، ولأن يكون قدوة للناس، ولأن يتعلّم منه الناس جميع العلوم الإسلاميّة وجميع الأُمور المحتاج إليها، لابد وأنْ يكون موجوداً في كلّ زمان مادام القرآن موجوداً، وسنبحث عن هاتين الدلالتين في المباحث الآتية، لأنّ مسألة العصمة سنخصّص لها ليلةً، ومسألة إمامة بقيّة الأئمّة أيضاً سنخصّص لها ليلة كذلك.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 199

تتمّة … ص: 199

تشتمل علي مطالب … ص: 199

المطلب الأول: اقتران حديث الثقلين بأحاديث أُخري … ص: 199

لقد اقترن حديث الثقلين في كثير من ألفاظه وموارده بأحاديث أُخري ، تلك الأحاديث هي بدورها من الأدلّه المعتبرة علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام.

ففي بعض الألفاظ عن ابن جرير الطبري، وابن أبي عاصم، وأمالي المحاملي الذي هو محدّث كبير من المحدّثين عند القوم، وقد صحّح المحاملي هذا الحديث، ويرويه عنهم صاحب [كنز العمّال ]: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وهو آخذ بيد علي عليه السّلام في يوم الغدير: «أيها الناس ألستم تشهدون أنّ اللَّه ورسوله أولي بكم من أنفسكم، وأنّ اللَّه ورسوله مولاكم؟» قالوا: بلي ، قال: «فمن كان اللَّه ورسوله مولاه فإنّ هذا مولاه، وقد تركت فيكم ما إنْ أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي كتاب اللَّه وأهل بيتي» «1».

واقتران حديث الثقلين بحديث الغدير المتواتر الدالّ علي إمامة أمير المؤمنين، ومجيؤهما في

سياقٍ واحد، يدلّ علي دلالة حديث الثقلين أيضاً علي نفس مدلول حديث الغدير، والسياق- كما قلنا- قرينة يؤخذ بها مالم يكن

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13/ 140 رقم 36441.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 200

في مقابلها نصّ قاطع، وليس هنا في المقابل نصّ قاطع يمنعنا من الأخذ بهذا السياق.

ومن مصادر اقتران الحديثين: [المعجم الكبير] «1» للطبراني، و [مسند ابن راهويه ] «2»، و [المستدرك ] «3»، و [نوادر الأُصول ] للحكيم الترمذي «4»، و [الإصابة] «5»، و [أُسدالغابة] «6»، و [السيرة الحلبيّة] «7».

ولقد اقترن حديث الثقلين بحديث الغدير وحديث المنزلة أيضاً، فأصبح ثلاثة أحاديث في سياق واحد، في رواية ابن حجر في كتاب [الفتاوي الفقهية] «8» وكلّ منها يدلّ علي إمامة أمير المؤمنين بالإستقلال.

المطلب الثاني: تكرار الوصية بالكتاب والعترة في عدّة مواطن … ص: 200

قد ثبت أنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله، كرّر هذه الوصية، أي الوصية بالكتاب والعترة، في موارد عديدة:

المورد الأول: عند انصرافه صلّي اللَّه عليه وآله من الطائف، وهذا الحديث أخرجه ابن أبي شيبة، وعنه ابن حجر المكي في [الصواعق المحرقة] «9».

__________________________________________________

(1) المعجم الكبير 5/ 166- 167، رقم 5070.

(2) أنظر: كنز العمّال 13/ 140.

(3) المستدرك علي الصحيحين 3/ 109.

(4) نوادر الأصول في معرفة أحاديث الرسول 1/ 258.

(5) الإصابة في معرفة الصحابة لابن حجر 4/ 80.

(6) أُسد الغابة 3/ 28.

(7) السيرة الحلبيّة 3/ 274.

(8) الفتاوي الفقهية 2/ 95.

(9) الصواعق المحرقة: 231.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 201

المورد الثاني: في حجة الوداع، وفي عرفة بالذات، وقد أخرج هذا الحديث ابن أبي شيبة كما في [كنز العمال ] «1»، والترمذي في [صحيحه ] «2»، والطبراني في [المعجم الكبير] «3»، وابن الأثير في [جامع الأصول ] «4»، وغير هؤلاء.

المورد الثالث: في يوم غدير خم، وفي الخطبة، وقد أخرج هذا الحديث أحمد في [المسند] «5»، الدارمي في [السنن ]

«6»، البيهقي في [السنن الكبري ] «7»، وابن كثير في [تاريخه ] «8»، وغيرهم.

المورد الرابع: في مرضه صلّي اللَّه عليه وآله الذي توفي فيه، قاله وقد امتلأت الغرفة أو الحجرة بالناس، أخرجه ابن أبي شيبة «9»، والبزّار «10»، وابن حجر المكي «11»، وغيرهم.

وربّما يكون هناك موارد أُخري لقول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «إنّي تارك فيكم الثقلين … ».

__________________________________________________

(1)

كنز العمّال 1/ 185 رقم 944.

(2) صحيح الترمذي 6/ 124 رقم 3786.

(3) المعجم الكبير 3/ 63 رقم 2679.

(4) جامع الأصول 1/ 277.

(5) مسند أحمد 3/ 17.

(6) سنن الدارمي 2/ 432.

(7) سنن البيهقي 2/ 148.

(8) البداية والنهاية 5/ 209.

(9) رواه عنه العصامي في سمط النجوم العوالي 3/ 63 رقم 136.

(10) كشف الأستار عن زوائد البزّار 3/ 221 رقم 2612.

(11) الصواعق المحرقة: 230.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 202

المطلب الثالث: مسألة الدعوة إلي الوحدة الإسلامية علي ضوء حديث الثقلين … ص: 202

كان جدّنا السيّد الميلاني رحمة اللَّه عليه يحدّثنا عن مبادرة بعض أعلام النجف الأشرف «1» إلي التفاهم والتقارب مع بعض علماء السنّة في ذلك الزمان، كان يقول رحمة اللَّه عليه: كنّا نقترح عليه وعلي غيره: أنّ السبيل الصحيح السليم للتقارب بين المذاهب الإسلامية، هو الأخذ بحديث الثقلين، لأنّ المفروض أنّه حديث صحيح عند الطرفين- إنْ لم يكن متواتراً وهو متواتر قطعاً- حديث مقبول عند الطرفين، ودلالته واضحة.

فحينئذ، إذا كان هناك شي ء عن رسول اللَّه نفسه وهو صحيح سنداً ودلالته تامّة، ويصلح لأن يكون جامعاً بيننا، لماذا نتركه ونتوجّه إلي نظريّات واقتراحات ومشاريع أُخري ، قد لا تفيدنا ولا نصل عن طريقها إلي الهدف.

كان رحمة اللَّه عليه يقول: كنّا نصرّ علي هذا المعني ، وكان بعض أعلام النجف الأشرف الذي كان يقود فكرة التقريب له اقتراح آخر.

حتّي أنّه عاد واعترف بأنّ الطريقة الصحيحة ليست إلّاهذه الطريقة،

ولا علاج لهذه المشكلة إلّاالرجوع إلي هذا الحديث وأمثاله.

وتلخّص: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله قد أخبر عن دنوّ وفاته وقرب رحيله، وأخبر الأُمّة بأنّه تارك بينهم أعزّ الأشياء وأثمن الأشياء وأغلاها عنده، إنّه تارك بين الأُمّة القرآن والعترة، حتّي لا يضلّوا من بعده، وكلمة «لن» تدلّ علي التأبيد، وهذه موجودة في ألفاظ الحديث: «ما إن تمسّكتم بهما»، أو «ما إنْ أخذتم بهما لن تضلّوا».

ثمّ إنّه صلّي اللَّه عليه وآله أكّد عليهم أنّه سيسألهم عند الحوض عن معاملتهم

__________________________________________________

(1) هو الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 203

مع الثقلين، وأنّهم كيف خلفوه فيهما.

ولعلّه أراد أن يشير بهذا الموعد والملتقي إلي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام هو الساقي علي هذا الحوض، وهو الذي يذود المنافقين عنه.

وأيضاً: لعلّه كان يريد الإشارة إلي حديث الحوض الشهير الذي قال صلّي اللَّه عليه وآله كما في الصحاح: «سيرد عَلَيّ أصحابي وأنّهم يذادون عن الحوض وأقول: ياربّ هؤلاء أصحابي، فيقول: إنّك لا تدري ما أحدثوا من بعدك» «1».

وسنذكر هذه الأحاديث في موضعها إنْ شاء اللَّه تعالي .

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 6/ 96، 8/ 136 و 148، 9/ 58، صحيح مسلم 4/ 1793، مسند أحمد 1/ 453، 3/ 28، 5/ 50.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 205

الجهة الرابعة … ص: 205

المناقشات والمعارضات في حديث الثقلين … ص: 205

اشارة

وإذا راجعنا كتب القوم، رأينا أنّ محاولات القوم في ردّ حديث الثقلين وإبطاله تتلخّص بالطرق التالية:

الطريق الأوّل: … ص: 205

ما مشي عليه أبو الفرج ابن الجوزي، حيث أدرج حديث الثقلين في كتاب [العلل المتناهية] «1»،- وهو كتاب خاص بالأحاديث الضعيفة بنظره- فقد ذكر فيه هذا الحديث بسندٍ واحد، وجعل يناقش في سنده ويضعّفه، ونحن إلي الآن لم نجد أحداً ضعّف هذا الحديث قبل أبي الفرج ابن الجوزي.

وتضعيفه مردود حتّي من قبل علمائهم، وسنقرأ بعض الأسماء من كبار العلماء المحققين المتأخرين الذين خطّأوه في عمله هذا.

مضافاً إلي أنّ هذا الحديث موجود في [صحيح مسلم ] وإنْ كان مبتوراً، وفي [صحيح الترمذي ]، وفي [صحيح ابن خزيمة] «2» الملقّب عندهم بإمام الأئمّة، وفي

__________________________________________________

(1) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/ 268 رقم 432.

(2) صحيح ابن خزيمة 4/ 62.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 206

[صحيح أبي عوانة]، وفي [الجمع بين الصحيحين ] «1»، وفي [تجريد الصحاح ]، وقد صحّح الحاكم هذا الحديث، وكذا محمّد بن إسحاق، والضياء المقدسي، والبغوي، والمحاملي، وابن النجار، والمزي، والنووي، والذهبي، وابن كثير، والهيثمي، والسيوطي، والقسطلاني، وابن حجر المكي، والمنّاوي، والزرقاني، وولي اللَّه الدهلوي، وغيرهم.

مضافاً إلي أنّ أبا الفرج ابن الجوزي معروف عندهم بالتسرّع في الحكم بالوضع أو الضعف، ومعروف عندهم بالتعصب، وفي خصوص هذا الحديث خطّأه غير واحد من المحققين كما أشرنا، منهم:

1- سبطه، في كتاب تذكرة الخواص.

2- الحافظ السخاوي، في كتاب إرتقاء الغرف «2».

3- الحافظ السمهودي، في كتاب جواهر العقدين «3».

4- ابن حجر المكي، في الصواعق «4».

5- المنّاوي، في فيض القدير «5».

وكلّهم قالوا: قد أخطأ ابن الجوزي، وحذّروا من الإغترار بفعله، حتّي أنّ بعضهم يقول: وإيّاك أنْ تغترّ بما صنع.

فالطريق الأوّل تضعيف الحديث، وهذا جوابه باختصار.

__________________________________________________

(1)

الجمع بين الصحيحين للاشبيلي 3/ 550،

الجمع بين الصحيحين مع حذف السند والمكرّر من البين للموصلي 2/ 207.

(2) استجلاب ارتقاء الغرف بحبّ أقرباء الرسول وذوي الشرف: 83.

(3) جواهر العقدين ق 2، 1/ 73.

(4) الصواعق المحرقه: 231.

(5) فيض القدير 2/ 174- 175.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 207

الطريق الثاني: … ص: 207

الحكم بنكارة المتن، نسبه البخاري إلي أحمد بن حنبل، ففي [التاريخ الصغير] للبخاري «1» يقول: «قال أحمد في حديث عبدالملك عن عطية عن أبي سعيد قال النبي صلّي اللَّه عليه وآله: «تركت فيكم الثقلين» قال: «أحاديث الكوفيين هذه مناكير».

ونحن نقول: أمّا نسبة هذا الكلام إلي أحمد، فنسبة كاذبة، لأنّ أحمد يروي هذا الحديث في [مسنده ] «2»، وفي كتاب [فضائل الصحابة]، بأسانيد كثيرة عن عدّة من الصحابة، وأين قال أحمد هذا؟ ومتي قال؟

وأمّا دعوي : أنّ هذا الحديث منكر، فنقول: صحيح، إنّه منكر عند البخاري، لأنّه يدلّ علي إمامة أمير المؤمنين وأهل البيت، عن طريق الأفضليّة، عن طريق الأعلميّة، بالقِران مع القرآن، بدلالته علي العصمة، وغير ذلك من جهات الدلالة الموجودة في هذا الحديث.

هذا، علي أنّ كثيراً من رواته ليسوا كوفيّين، وحديث الكوفيين ليس منحصراً بالطريق الذي ذكره.

الطريق الثالث: … ص: 207

تحريف الحديث، وهذا ما صنعه مسلم في [صحيحه ] «3»، وفي [تاريخ بغداد] للخطيب البغدادي «4» يقول: «أخبرنا المطيّن، حدّثنا نصر بن عبدالرحمن،

__________________________________________________

(1) التاريخ الصغير 1/ 302.

(2) مسند أحمد 3/ 17 و 59، 5/ 181.

(3) صحيح مسلم 7/ 122.

(4) تاريخ بغداد 8/ 442.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 208

حدّثنا زيد بن الحسن، عن معروف، عن أبي الطفيل، عن حذيفة بن أسيد: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قال: «يا أيّها الناس إنّي فرط لكم وأنتم واردون عَلَيّ الحوض، وإنّي سائلكم حين تردون عَلَيّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلفوني فيهما: الثقل الأكبر كتاب سبب طرفه بيد اللَّه، وطرفه بأيديكم، فاستمسكوابه ولا تضلّوا ولا تبدّلوا» انتهي الحديث.

وهذا الحديث بنفس السند، أي عن طريق نصر بن عبدالرحمن عن زيد بن الحسن عن معروف عن أبي الطفيل عن حذيفة، فبنفس السند وبنفس اللفظ موجود في

المصادر، أقرألكم نصّ الحديث عن واحد منها، عن [نوادر الأُصول ] للحكيم الترمذي «1» ففيه: «إنّي فرطكم علي الحوض وإنّي سائلكم حين تردون عَلَيّ عن الثقلين فانظروا كيف تخلفوني فيهما: الثقل الأكبر كتاب اللَّه سبب طرفه بيد اللَّه وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به ولا تضلّوا ولا تبدّلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنّي قد نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن يفترقا حتّي يردا عَلَيّ الحوض».

فهذا كتاب نوادر الأُصول، وهذا كتاب تاريخ بغداد، وكلاهما موجودان بين أيدي الناس، وهل المتصرف بالحديث هو الخطيب نفسه أو النسّاخ أو الناشرون؟

اللَّه أعلم.

وأكتفي من التحريفات بهذا المقدار إذ طال بنا المقام.

الطريق الرابع: … ص: 208

المعارضة بأحاديث يروونها في كتبهم، يعارضون بها حديث الثقلين، والمعارضة كما تعلمون بحث علي القاعدة وأسلوب مقبول، المعارضة معناها أنّ هناك حديثاً صحيحاً في سنده وتامّاً في دلالته، يعارض هذا الحديث الصحيح

__________________________________________________

(1) نوادر الأصول 1/ 258.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 209

التام دلالةً، ولذا، فنحن الطلبة نقول: المعارضة فرع الحجية، فلابدّ وأنْ يكون الخبران كلاهما حجة، فإذا كانا تامّين سنداً ودلالةً فيتعارضان، فيكون أحدهما صدقاً والآخر كذباً، فإنْ تمكنّا من ترجيح أحدهما علي الآخر فهو، وإلّا فهما يتعارضان ويتساقطان، فالبحث عن طريق المعارضة بحث علي القاعدة.

لكنْ بأيّ شي ء يعارض حديث الثقلين وهو حديث الوصيّة بالقرآن وأهل البيت؟ إنّهم يزعمون معارضة حديث الثقلين بأشياء، أهمّها:

حديث الإقتداء بالشيخين وهو حديث يروونه عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أنّه قال: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» «1» هذا الحديث موجود في بعض كتبهم، فإذا كان حديث الثقلين أي الوصيّة بالكتاب والعترة، دالّاً علي وجوب الإقتداء بالقرآن والعترة، فهذا الحديث يدلّ علي وجوب الإقتداء بالشيخين، إذن، يقع التعارض بين الحديثين.

الحديث الآخر المهم الذي يحاول بعض كتّاب عصرنا أنْ

يعارض به حديث الثقلين، أي الوصيّة بالكتاب والعترة، هو حديث الثقلين والوصية بالكتاب والسنّة، قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «إنّي تارك فيكم الثقلين كتاب اللَّه وسنّتي» «2»، فحديث الوصيّة بالكتاب والعترة يدلّ علي وجوب الإقتداء بالكتاب والعترة، الأخذ والتمسّك بهما، وهذا الحديث يقول بوجوب الأخذ والتمسّك بالكتاب والسنّة، إذن، يقع التعارض بين الحديثين.

وهذا هو الطريق الرابع لردّ حديث الوصية بالقرآن والعترة.

أمّا الحديث الأوّل، فسنبحث عنه إنْ شاء اللَّه في إحدي الليالي الآتية،

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 5/ 382 و 380 و 399 و 402.

(2) كنز العمّال 1/ 172.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 210

حيث سنتعرض لأدلّة القوم علي إمامة الشيخين، وقد خصّصنا ليلةً للبحث عن تلك الأدلّة.

وأمّا حديث الثقلين والوصية بالكتاب والسنّة، فقد كتبت فيه رسالة مستقلّة مفردة، وهي مطبوعة، فمن شاء فليرجع إليها.

فهذا هو الطريق الرابع.

وقد كان الطريق الأول: التضعيف، والطريق الثاني: دعوي نكارة المتن، والطريق الثالث: تحريف الحديث، والطريق الرابع: المعارضة.

وهل من فائدة في هذه الطرق؟ وأيّ فائدة؟ بل المتعيّن هو:

الطريق الخامس: … ص: 210

وهو طريق شيخ الإسلام!! ابن تيميّة، إنّه يقول: هذا الحديث كذب «1».

وما أسهل هذا الطريق وأيسره؟ ولماذا يتعبون أنفسهم فيحرّفون الحديث، أو يجيؤون بأحاديث فيعارضون بها حديث الثقلين، وما الفائدة من تضعيف الحديث من ابن الجوزي فينبري للرد عليه أعلام طائفته ويخطّئونه في هذا التضعيف؟ فأحسن طريقٍ أنْ لا يصدّق بحديث الثقلين، ويدّعي أنْ ليس هناك سند معتبر لقوله صلّي اللَّه عليه وآله: «وعترتي أهل بيتي ما إنْ تمسّكتم بهما لن تضلّوا»، ولماذا يصرّ الشيعة علي هذا الحديث ويبنون عليه إمامة أمير المؤمنين؟

وهذا هو دأب شيخ إسلامهم في قبال أحاديث إمامة أمير المؤمنين، ومناقب أهل البيت عليهم السّلام.

ونعم الحكم اللَّه بين ابن تيميّة وأمثاله

وبين أهل البيت، نعم الحكم اللَّه وهو خير الحاكمين، وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7/ 319.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 213

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

موضوع بحثنا حديث الطير.

وهو أيضاً من الأحاديث التي نستدلّ بها علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، إنّه حديثٌ سعي المخالفون لإخفائه ومنع نقله وانتشاره بين المسلمين، حتّي أدّي ذلك إلي جهل كثير من الناس- وربّما من أبناء الحق- بهذا الحديث الذي رواه أكثر من عشرة من الصحابة.

ولابدّ من البحث حول هذا الحديث في جهات عديدة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 214

حديث الطير … ص: 214

اشارة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 215

الجهة الاولي … ص: 215

رواة حديث الطير وأسانيده … ص: 215

نبدأ بأسماء الصحابة الذين وصلتنا رواياتهم لهذا الحديث الشريف، وهم:

أولًا: علي أمير المؤمنين عليه السّلام، ويوجد حديثه عند ابن عساكر «1»، وغيره من كبار المحدّثين، وأشار إليه الحاكم النيسابوري في المستدرك «2».

ثانياً: سعد بن أبي وقّاص، وحديثه يوجد في حلية الأولياء «3» لأبي نعيم الحافظ الإصفهاني.

ثالثاً: أبو سعيد الخدري، وحديثه يوجد في تاريخ ابن كثير «4»، وغيره، وأشار إليه الحاكم في المستدرك «5».

رابعاً: أبو رافع، وحديثه يوجد عند ابن كثير «6».

خامساً: أبو الطفيل المكّي، وأخرج حديثه الحافظ ابن عقدة، والحاكم

__________________________________________________

(1) تاريخ مدينة دمشق 42/ 245 و 432.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 130- 131.

(3) حلية الأولياء 4/ 356.

(4) البداية والنهاية 7/ 353.

(5) المستدرك علي الصحيحين 3/ 131.

(6) البداية والنهاية 7/ 353.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 216

النيسابوري «1»، وغيرهما.

سادساً: جابر بن عبداللَّه الأنصاري، ويوجد حديثه عند ابن عساكر، وابن كثير «2».

سابعاً: حبشي بن جنادة، ويوجد حديثه عند ابن كثير «3».

ثامناً: يعلي بن مرّة، ويوجد حديثه عند الخطيب البغدادي، وابن كثير «4».

تاسعاً: عبداللَّه بن عباس، وحديثه عند الطبراني «5».

عاشراً: سفينه مولي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، ويوجد حديثه عند ابن عساكر «6»، وأشار إليه الحاكم النيسابوري «7».

الحادي عشر: عمرو بن العاص، ويوجد حديثه في كتاب له إلي معاوية بن أبي سفيان، روي ذلك الكتاب الخطيب الخوارزمي في كتاب المناقب «8».

الثاني عشر: أنس بن مالك، وهو المشهور برواية هذا الحديث، لأنّه صاحب القصّة.

وهذا الحديث الشريف وارد من طرق أصحابنا، عن الأئمّة الأطهار عليهم السّلام، وعن بعض الأصحاب، حتّي أنّ أبا الشيخ الحافظ الإصفهاني روي هذا

__________________________________________________

(1) أنظر: كفاية الطالب: 368.

(2) تاريخ مدينة دمشق 42/ 244- 245.

(3) البداية والنهاية 7/ 354.

(4) تاريخ بغداد 11/ 376.

(5)

المعجم الكبير 10/ 343 رقم 10667.

(6) ترجمة الإمام علي عليه السّلام لابن عساكر 2/ 133 رقم 643.

(7) المستدرك علي الصحيحين 3/ 131.

(8) المناقب للخوارزمي: 200.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 217

الحديث عن الإمامين الباقر والصادق عليهما السّلام في كتابه، وهو من كبار حفّاظ أهل السنّة.

فهؤلاء رواة هذا الحديث من الصحابة.

وأمّا رواته من التابعين، فإنّ التابعين الرواة لهذا الحديث عن أنس بن مالك فقط يبلغون حدود التسعين رجلًا.

ومن رواته من أئمّة المذاهب:

1- أبو حنيفة.

2- أحمد بن حنبل.

3- مالك بن أنس.

4- الإمام الأوزاعي، ذلك الفقيه الكبير الذي كان يعدّ مذهبه مذهباً مستقلًا من بين المذاهب، إلي أن حصروا المذاهب في الأربعة المشهورة.

ومن رواته جماعة كبيرة من مشايخ البخاري ومسلم.

وكثير من رواته من رجال الصحاح الستّة عند أهل السنّة.

ولنذكر أسماء أشهر مشاهير رواة هذا الحديث من أئمة الحديث وكبار الحفّاظ في القرون المختلفة:

1- شعبة بن الحجّاج، أمير المؤمنين في الحديث، كما يلقّبونه «1».

2- الأوزاعي، الإمام المعروف.

3- مالك بن أنس، إمام المذهب.

4- أبو حنيفة، صاحب المذهب.

5- أحمد بن حنبل، صاحب المذهب.

__________________________________________________

(1) أنظر: الكاشف للذهبي 1/ 485 رقم 2278.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 218

6- أبو عاصم النبيل، شيخ البخاري.

7- أحمد بن حنبل.

8- عبدالرزاق الصنعاني، شيخ البخاري.

9- البخاري نفسه، يروي هذا الحديث، لكن لا في صحيحه، بل في تاريخه الكبير «1»، وسنذكر نصّ حديثه فيما بعد.

10- البلاذري، صاحب أنساب الأشراف.

11- أبو حاتم الرازي، الذي هو من أقران البخاري ومسلم.

12- الترمذي، صاحب الصحيح.

13- أبو بكر البزّار، صاخب المسند.

14- النسائي، صاحب الصحيح.

15- أبو يعلي الموصلي، صاحب المسند.

16- محمّد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير المعروفين.

17- ابن أبي حاتم، صاحب التفسير، والمحدّث الكبير الذي يعدّونه من الأبدال «2».

18- ابن عبدربّه، في العقد الفريد.

19- أبو الحسين

المحاملي، صاحب الأمالي.

20- أبو العباس ابن عُقدة، له كتاب في حديث الطير.

21- المسعودي المؤرخ، صاحب مروج الذهب.

22- أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.

__________________________________________________

(1) التاريخ الكبير 1/ 357 رقم 1122، 2/ 2 رقم 1488.

(2) تذكرة الحفّاظ 3/ 830.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 219

23- أبو الشيخ الاصفهاني، صاحب كتاب طبقات المحدّثين بإصفهان.

24- ابن السقا الواسطي، هذا الحافظ الكبير من علماء القرن الرابع، وسنذكر قصّته في حديث الطير.

25- أبو حفص ابن شاهين، له كتاب في حديث الطير.

26- أبو الحسن الدارقطني، صاحب كتاب العلل.

27- أبو عبداللَّه الحاكم النيشابوري، صاحب المستدرك، وله كتاب بطرق حديث الطير.

28- أبو بكر ابن مردويه، له كتاب في طرق حديث الطير.

29- أبو نعيم الأصفهاني، صاحب حلية الأولياء وغيره من الكتب، له كتاب في طرق حديث الطير.

30- أبو طاهر ابن حمدان الخراساني، المحدّث الكبير، له كتاب في طرق حديث الطير.

31- أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبري .

32- ابن عبدالبر، صاحب الإستيعاب.

33- الخطيب البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.

34- محي السنّة البغوي، صاحب مصابيح السنّة.

35- رزين العبدري، صاحب الجمع بين الصحاح الستّة.

36- أبو القاسم ابن عساكر، صاحب تاريخ دمشق.

37- ابن الأثير الجزري، صاحب جامع الأُصول.

38- وأيضاً أخوه ابن الأثير الآخر، صاحب أُسد الغابة.

39- الخطيب التبريزي، صاحب مشكاة المصابيح.

40- أبو الحجّاج المزّي، صاحب تهذيب الكمال وكتاب تحفة الأشراف.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 220

41- شمس الدين الذهبي، صاحب المؤلفات المعروفة المشهورة.

42- ابن كثير الدمشقي، صاحب التفسير والتاريخ.

43- أبو بكر الهيثمي، صاحب مجمع الزوائد.

44- شمس الدين ابن الجزري، صاحب المؤلفات.

45- ابن حجر العسقلاني، صاحب المؤلفات، شيخ الإسلام، والفقيه المحدث الرجالي المعروف.

46- جلال الدين السيوطي، أيضاً صاحب المؤلفات المشهورة.

47- ابن حجر المكي، صاحب الصواعق.

48- شاه ولي اللَّه الدهلوي، محدّث الهند.

وكما عرفتم في خلال ذكر

أسماء الرواة هؤلاء: إنّ جماعة من الأعلام ومن كبار المحدّثين ألّفوا كتباً خاصة تتعلّق بطرق حديث الطير، وهؤلاء هم:

1- الطبري، صاحب التفسير والتاريخ.

2- ابن عقدة.

3- الحاكم النيسابوري.

4- ابن مردويه.

5- أبو نعيم.

6- أبو طاهر ابن حمدان.

7- الذهبي، فإنه يذكر في كتابه تذكرة الحفّاظ بترجمة الحاكم النيسابوري: أنّ له كتاباً- أي الذهبي- في طرق حديث الطير «1».

فهؤلاء رواة هذا الحديث بنحو الإجمال من الصحابة، وأشرنا إلي أنّ عدد

__________________________________________________

(1) تذكرة الحفّاظ 3/ 1042- 1043.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 221

التابعين الرواة لهذا الحديث عن أنس بن مالك وحده يبلغون حدود التسعين رجلًا، وذكرنا أشهر مشاهير علماء الحديث في القرون المختلفة الرواة لحديث الطير، ثم أسماء من أفرد أسانيده بالتأليف.

وحديث الطير موجود في عدّة من الصحاح، كصحيح الترمذي «1»، وصحيح النسائي «2»، وصحيح ابن حبّان، وأيضاً موجود في المختارة للضياء المقدسي، وفي المستدرك للحاكم «3»، وفي الجمع بين الصحيحين، وفي الجمع بين الصحاح.

كما أنّ لهذا الحديث أسانيد صحيحة هي أكثر من عشرين سنداً عدا أسانيده في الصحاح.

ولا أظن أنّ من يقف علي هذه الأسامي، وهذه الأسانيد، يشك في صدور هذا الحديث عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وحينئذ ننتقل إلي الجهة الثانية.

__________________________________________________

(1)

سنن الترمذي 5/ 300 رقم 3805.

(2) سنن النسائي 5/ 107 رقم 8398.

(3) المستدرك علي الصحيحين 3/ 130- 132.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 223

الجهة الثانية … ص: 223

دلالة حديث الطير علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام … ص: 223

اشارة

إنّ حديث الطير يدلّ علي إمامة أمير المؤمنين بالقطع واليقين، وذلك، لأنّ القضيّة التي يتعلّق بها حديث الطير أسفرت عن كون علي عليه السّلام أحبّ الناس إلي اللَّه وإلي الرسول، فكأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قد انتهز فرصة إهداء طير إليه ليأكله، انتهز تلك الفرصة للإعلان عن مقام أمير المؤمنين وشأنه عند اللَّه والرسول،

هذا الشأن الذي سنري أنّ عائشة تمنّت أن يكون لأبيها، وحفصة تمنّت لأن يكون لأبيها، وأنس بن مالك- صاحب القصّة- حال دون أن تكون هذه المرتبة والخصيصة الفريدة التي لا تقدّر لأمير المؤمنين، زاعماً أنّه أراد أن يكون لواحدٍ من الأنصار، وربّما سعد بن عبادة بالخصوص، بل سنقرأ في بعض ألفاظ هذا الحديث أنّ الشيخين، وفي سند أنّ عثمان أيضاً، جاؤوا إلي الباب ولم يتشرّفوا بالدخول علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله في تلك اللحظة التي كان يدعو اللَّه أن يأتي إليه بأحبّ الخلق إلي اللَّه وإلي الرسول.

فلنذكر- إذن- طائفةً من ألفاظ القصّة، لنقف علي واقع الأمر أوّلًا، ولنطّلع علي تصرّفات القوم في نقل حديث الطير، وكيفيّة تصّرفهم فيه، إمّا إختصاراً له وإمّا نقلًا له بنحوٍ يقلّل من أهميّة القضية فيما يتعلّق بأمير المؤمنين عليه السّلام.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 224

يقول الترمذي في [صحيحه ] «1» عن أنس بن مالك: كان عند النبي صلّي اللَّه عليه وآله طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير، فجاء علي فأكل معه».

هذا لفظ الحديث بهذا المقدار في صحيح الترمذي، فلا يذكر فيه دور أنس في القضيّة هذه كما سنقرأ، ولا يذكر مجي ء غير علي ورجوعه من باب دار رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله.

وجاء في كتاب [مناقب علي ] لأحمد بن حنبل «2» ما نصّه: عن سفينة خادم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله الذي هو أحد رواة هذا الحديث يقول: «أهدت امرأة من الأنصار إلي رسول اللَّه طيرين بين رغيفين، فقدّمت إليه الطيرين، فقال صلّي اللَّه عليه وآله: اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلي رسولك، ورفع صوته، فقال رسول اللَّه: من هذا؟ فقال: علي».

لاحظوا نصّ

الحديث الذي يرويه أحمد بن حنبل، وقارنوا بينه وبين رواية الآخرين.

ولكم أن تقولوا: لعلّ الآخرين هم الذين قد تصرّفوا في لفظ الحديث بإسقاط كلمة «ورفع صوته» بأن يكون اللّفظ: فقال صلّي اللَّه عليه وآله: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلي رسولك ورفع صوته»، ويكون معني «رفع صوته» أنّه كان يدعو بصوت عال، لنفرض أنّ هذا لفظ الحديث وهذا معناه، ولا بأس بذلك.

لكن الحقيقة: إنّ لفظ أحمد محرّف، لأنّا سنقرأ في بعض الألفاظ: إنّ عليّاً عندما جاء في المرّة الأُولي فأرجعه أنس ولم يأذن له بالدخول، وفي المرّة الثانية

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 6/ 84 رقم 3731.

(2) فضائل الإمام علي عليه السّلام لأحمد بن حنبل: 42 رقم 68.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 225

كذلك، ففي المرّة الثالثة لمّا جاء علي رفع صوته، فقال رسول اللَّه: من هذا؟

فمن هنا يظهر معني «ورفع صوته» ويتبيّن التحريف، وإلّا فأيّ علاقة بين قوله: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإلي رسولك ورفع صوته»، وقوله: «فقال رسول اللَّه من هذا؟ فقال: علي» أي: قال سفينة: الذي خلف الباب هو علي، قال افتح له، ففتحت، فأكل مع رسول اللَّه من الطيرين حتّي فنيا.

فالتصرف في لفظ الحديث عند أحمد أيضاً واضح تماماً، والتلاعب في هذا اللفظ بادٍ بكلّ وضوح.

أمّا الهيثمي صاحب [مجمع الزوائد]، فيروي هذا الحديث باللفظ التالي «1»:

«عن أنس بن مالك قال: كنت أخدم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فقُدّم فرخاً مشويّاً أو فَقدّم فرخاً مشويّاً [يقتضي أنْ يكون: فقُدّم فرخ مشويّ، أو فقدّم رسول اللَّه فرخاً مشويّاً] فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ» فجاء علي ودقّ الباب، فقال أنس: من هذا؟ قال:

علي، فقلت- أي أنس-: النبي علي حاجة، وفي بعض الألفاظ: النبي مشغول، أي لامجال للدخول عليه، والحال أنّ النبيّ كان ما زال يدعو: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك»، قال: النبي علي حاجة، فانصرف علي، عاد رسول اللَّه مرّة أُخري يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ الخلق إليك وإليّ يأكل معي من هذا الفرخ»، فجاء علي فدقّ الباب دقّاً شديداً، فسمع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فقال: «يا أنس من هذا؟» قال: علي، قال: «أدخله»، فدخل.

فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «لقد سألت اللَّه ثلاثاً أنْ يأتيني بأحبّ الخلق إليه وإليّ يأكل معي هذا الفرخ».

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 125.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 226

فقال علي: وأنا يا رسول اللَّه، لقد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردّني أنس.

فقال رسول اللَّه: «يا أنس، ما حملك علي ما صنعت؟»

قال: أحببت أن تدرك الدعوة رجلًا من قومي.

فقال رسول اللَّه: «لا يلام الرجل علي حبّ قومه».

في هذا الحديث جاء علي مرّتين فردّه أنس قائلًا: رسول اللَّه علي حاجة، وفي المرّة الثالثة دقّ علي الباب دقّاً شديداً.

وفي بعض الألفاظ: رفع صوته، فسمع رسول اللَّه صوت علي وقال لأنس:

«إفتح الباب ليدخل علي»، ثمّ اعترض عليه رسول اللَّه، أي علي أنس، واعتذر أنس كما في الخبر: أحببت أن تدرك الدعوة رجلًا من قومي.

لكن الحديث في [مسند أبي يعلي ] كما يلي: حدّثنا قطن بن نسير، حدّثنا جعفر بن سليمان الضبعي، حدّثنا عبداللَّه بن مثنّي ، حدّثنا عبداللَّه بن أنس عن أنس قال: أُهدي لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله حجل مشويّ، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطعام».

فقالت عائشة: اللهمّ اجعله أبي، وقالت حفصة: اللهمّ اجعله أبي، قال أنس:

فقلت أنا:

اللهمّ اجعله سعد بن عبادة.

قال أنس: سمعت حركة الباب، فإذا علي، فسلّم، فقلت: إنّ رسول اللَّه علي حاجة، فانصرف، ثمّ سمعت حركة الباب فسلّم علي، فسمع رسول اللَّه صوته، أي رفع علي صوته [أُريد أنْ أؤكّد أنّ لفظ أحمد محرّف ] فسمع رسول اللَّه صوته فقال: «أُنظر من هذا؟» فخرجت، فإذا علي، فجئت إلي رسول اللَّه فأخبرته، فقال:

«ائذن له»، فأذنت له، فدخل، فقال رسول اللَّه: «اللهمّ وإليّ اللهمّ وإليّ».

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 227

هذا لفظ أبي يعلي «1».

ولاحظوا الفوارق بين هذا اللفظ ولفظ الهيثمي، ثمّ لفظ الترمذي، ولفظ أحمد بن حنبل.

أمّا في [الخصائص ] للنسائي «2» [الذي نصّ الحافظ الذهبي علي أنّ كتاب الخصائص داخل في السنن، راجعوا سير أعلام النبلاء «3» وكذا راجعوا مقدمة تهذيب التهذيب «4» لابن حجر العسقلاني ] فيروي النسائي هذا الحديث بسند صحيح، مضافاً إلي أنّ كتابه داخل في السنن الكبري له الذي يقولون بأنّ له شرطاً في هذا الكتاب أشدّ من شرط الشيخين «5»:

عن أنس بن مالك: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله كان عنده طائر، فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطائر»، فجاء أبو بكر فردّه، ثم جاء عمر فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له.

وفي [مسند أبي يعلي ] بنفس السند، ترون مجي ء الشيخين ومجي ء عثمان أيضاً، قال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي من هذا الطير»، فجاء أبو بكر فردّه، ثمّ جاء عمر فردّه، ثمّ جاء عثمان فردّه، ثمّ جاء علي فأذن له «6».

لاحظوا الفوارق بين الألفاظ، وقد تعمّدت التدرج في النقل حتّي تلتفتوا إلي أنّهم إذا أرادوا أن ينقلوا القضيّة الواحدة وهي ليست في صالحهم، كيف يتلاعبون

__________________________________________________

(1) أنظر: تاريخ مدينة دمشق 42/ 247.

(2) خصائص أمير

المؤمنين عليه السلام: 51.

(3) سير أعلام النبلاء 14/ 133.

(4) تهذيب التهذيب 1/ 6.

(5) أنظر: مقدمة سنن النسائي 1/ 3.

(6) مسند أبي يعلي 7/ 105، رقم 4052.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 228

باللّفظ، وكيف ينقصون من القصة، وكيف يسقطون تلك النقاط الحساسة التي يحتاج إليها الباحث الحرّ المصنف في تحقيقه عن سنّة رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، وفي فحصه عن القول الحق من بين الأقوال.

أقول: سند النسائي- كما أكّدت- صحيح، وهو نفس السند في مسند أبي يعلي ، لكنّ بعضهم يحاول أن يناقش في سند هذا الحديث الأخير الذي نقلته عن النسائي وأبي يعلي ، ونحن نرحّب بالمناقشة إذا كانت علميّة، وعلي كلّ منصف أن يسلّم لو كانت المناقشة واردة، وحينئذٍ لرفعنا اليد عن هذا الحديث بهذا اللفظ وتمسّكنا بغيره من الألفاظ، أو تمسّكنا بغير هذا الحديث من الأحاديث، لكن كيف لو كانت المناقشة ظاهرة البطلان، واضحة التعصّب!!

يحاول بعضهم أنْ يناقش في وثاقة أحد رجال هذا السند، وهو السُدّي إسماعيل بن عبدالرحمن، لكنّه من رجال مسلم والترمذي والنسائي وأبي داود، وابن ماجة.

ويقول أحمد بترجمته: ثقة «1».

ويقول غيره من كبار الرجاليين: ثقة «2».

حتّي أنّ ابن عدي المتشدّد في الرجال يقول: هو مستقيم الحديث صدوق.

بل إنّه من مشايخ شعبة بن الحجاج.

وقد ذكرنا أنّ شعبة أمير المؤمنين عندهم في الحديث، وهو لا يروي إلّاعن ثقة، هكذا يقولون، وممّن يعترف بهذا المعني أو يدّعي هذا المعني ابن تيميّة، وينقل السبكي كلامه في كتابه [شفاء السقام ] «3».

__________________________________________________

(1) الجرح والتعديل للرازي 2/ 184 رقم 625.

(2) الكامل في ضعفاء الرجال 1/ 278.

(3) شفاء السقام في زيارة خير الأنام: 75.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 229

فإذا كان الرجل من رجال خمسة من الصحاح الستّة، ويوثّقه أحمد، ويوثّقه

العجلي، ويوثّقه ابن عدي، ويوثّقه الآخرون من كبار الرجاليين «1»، فأيّ مناقشة تبقي في السُدي ليطعن الطاعن من هذا الطريق في هذا الحديث الذي هو في نفس الوقت الذي يدلّ علي فضيلة لأمير المؤمنين، يدلّ علي ما يقابل الفضيلة لمن يقابل أمير المؤمنين؟

وهناك قرائن في داخل الحديث وفي خارجه لا نحتاج إلي ذكرها كلّها، بل نكتفي بالإشارة إلي بعضها:

ففي بعض ألفاظ هذا الحديث يقول صلّي اللَّه عليه وآله: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وأوجههم عندك»، وهذه الإضافة موجودة في بعض الألفاظ.

وفي بعض الألفاظ: «اللهمّ أدخل عَلَيّ أحبّ خلقك إليّ من الأوّلين والآخرين» «2».

وربّما يدلّ الحديث بهذا اللفظ علي أفضليّة أمير المؤمنين من الأوّلين والآخرين، أمّا الآخرون فالأمر فيهم سهل. أمّا الأوّلون، فإنّه يشمل الأنبياء أيضاً، يشمل حتّي أُولي العزم منهم، ويكون هذا الحديث باللفظ المذكور من أدلّتنا علي أفضليّة أمير المؤمنين من جميع الأنبياء إلّاالنبي والرسول الأعظم صلّي اللَّه عليه وآله.

وفي بعض ألفاظ الحديث يقول أنس: فإذا علي- أي فتحت الباب فإذا علي- «فلمّا رأيته حسدته» «3».

وفي بعض ألفاظ الحديث: فلمّا نظر إليه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قام

__________________________________________________

(1) تهذيب التهذيب 4/ 297 رقم 590.

(2) مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام: 171 رقم 200.

(3) المصدر: 175 رقم 212.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 230

قائماً فضمّه إليه وقال: «يا ربّ وإليّ يا رب وإليّ، ما أبطأ بك يا علي؟» «1».

وفي لفظ آخر بعد تلك العبارات: «ما أبطأ بك يا علي؟».

قال: يا رسول اللَّه قد جئت ثلاثاً كلّ ذلك يردنّي أنس.

قال أنس: فرأيت الغضب في وجه رسول اللَّه، وقال: «يا أنس ما حملك علي ردّه؟» قلت: يا رسول اللَّه سمعتك تدعو، فأحببت أن تكون الدعوة في

الأنصار.

وكأنّ بهذا العذر زال غضب رسول اللَّه!! ذلك الغضب الشديد الذي رآه أنس في وجهه، زال بمجرّد اعتذاره بهذا العذر، حتي أنّه صلّي اللَّه عليه وآله لمّا اعتذر أنس هذا العذر قال: لستَ بأوّل رجلٍ أحَبّ قومه «2»!!

وإنّي أعتقد أنّ هذا الكلام عن رسول اللَّه مفتعل عليه في حديث الطير:

«لا يلام الرجل علي حبّ قومه» أو «لستَ بأوّل رجلٍ أحَبّ قومه»، أعتقد أنّ هذه إضافة من المحدّثين، وليس عندي الآن دليل علي ذلك، وإنّما أقول: كيف غضب رسول اللَّه ذلك الغضب ثمّ زال غضبه بمجرّد اعتذار أنس بهذا العذر الواهي؟ بل ويعتذر له رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله!! ألم يكن يعلم رسول اللَّه بهذا العذر:

لا يلام الرجل علي حبّ قومه؟ فلماذا غضب عليه إذن؟ بل قاله له رسول اللَّه وكأنّه يلاطفه بعد ذاك الغضب الشديد، كما في هذا الحديث: «لستَ بأوّل رجل أحَبّ قومه، أبي اللَّه يا أنس إلّاأنْ يكون ابن أبي طالب».

هذه قرائن داخليّة في الألفاظ، ولو أردت أن أنقل لكم الألفاظ بكاملها من أوّلها إلي آخرها لطال بنا البحث، لكن تلك المقاطع التي نحتاج إليها- كقرائن داخليّة تؤيّد ما نريد أنْ نستدلّ به من هذا الحديث- هذه القرائن انتخبتها

__________________________________________________

(1) المعجم الكبير 10/ 282، مناقب الامام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: 164، رقم 190 و 192 و 193.

(2) أنظر: المستدرك علي الصحيحين 3/ 131، المعجم الأوسط 7/ 267.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 231

واستخرجتها بهذا الشكل.

مضافاً: إلي أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام احتجّ بحديث الطير في يوم الشوري .

ولماذا احتجّ؟ وعلي من احتجّ؟

احتجّ علي كبار الصحابة الذين انتخبهم عمر، لأنْ يتشاوروا فيما بينهم، فيتعيّن الخليفة في ذلك المجلس، هؤلاء أعلام القوم وأهل الحلّ والعقد.

إذن،

احتجّ علي علي هؤلاء، ومن المحتج؟ علي أمير المؤمنين، وهل يحتج علي بما ليس له أصل؟ وهل يحتج علي بما هو ضعيف سنداً أو كذب أو موضوع؟

فالمحتج علي، والمحتج عليه أُولئك الأصحاب المنتخبون من قبل عمر لأن يعيَّن من بينهم خليفة عمر، احتجّ علي في ذلك المجلس بحديث الطير «1».

وأيضاً: سعد بن أبي وقّاص الذي أمره معاوية بن أبي سفيان بسبّ علي، فأبي سعد من أن يسب، وسأله معاوية عن السبب، فاعتذر بأنّه سمع من رسول اللَّه خلالًا أو خصالًا لعلي، ومادام يذكر تلك الخصال فلن يسب عليّاً، ذلك الحديث الذي قرأناه من قبل، وفيه تحريفات كثيرة كما ذكرت هناك … جاء في بعض ألفاظه:

إنّ سعداً اعتذر من أنْ يسبّ عليّاً بخصال، فذكر الخصال ومنها حديث الطير.

الخصال التي اعتذر بها سعد في هذه الرواية هي: حديث الراية، وحديث الطير، حديث الغدير، وهذه الرواية موجودة في كتاب [حلية الأولياء] لأبي نعيم الحافظ، ومن شاء فليراجع «2».

__________________________________________________

(1) مناقب الامام عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: 136.

(2) حلية الأولياء 4/ 356.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 232

هذا، والشواهد والقرائن الخارجيّة الدالّة علي أنّ عليّاً أحبّ الخلق إلي اللَّه وإلي الرسول صلّي اللَّه عليه وآله دون غيره، كثيرة لا تحصي ، واللَّه يشهد علي ما أقول، وأنتم أيضاً تعلمون، فلا نطيل البحث بذكر تلك الشواهد.

بل في الأحاديث التي بحثنا عنها، والآيات التي درسناها فيما سبق، والتي سنذكرها فيما سيأتي، كفاية لأن تكون شواهد لهذا الحديث.

وما معني الأحبيّة إلي اللَّه وإلي الرسول؟ وأيّ علاقة بين الأحبيّة وبين الإمامة والولاية؟ أي إرتباط بين الأمرين؟

أتتصوّرون أنْ تكون الأحبيّة إلي اللَّه وإلي الرسول،- بأن يكون الشي ء أحب الأشياء إلي اللَّه والرسول، أو يكون شخص هو الأحب

إلي اللَّه وإلي الرسول- اعتباطيّة، فلا يكون لها معيار وملاك وضابطة وحساب؟ أيمكن هذا؟ أتحتملون هذا؟ وأنتم بأنفسكم، كلّ واحد منكم إذا أحبّ شيئاً، وجعله أحبّ الأشياء إلي نفسه، أو أحبّ شخصاً واتّخذه أحبّ الناس إلي نفسه، لابدّ وأن يكون له ضابط، قطعاً يكون له سبب، فالأحبيّة ليست أمراً اعتباطيّاً، الإنسان لا يحب كلّ صوت، لا يحبّ كلّ صورة، لا يحبّ كلّ شي ء، لابدّ وأن يكون هناك ضوابط للحبّ فكيف الأحبيّة؟ أن يكون شي ء أحبّ الأشياء إلي الإنسان من كلّ الأشياء في العالم، أن يكون شخص أحبّ الأشخاص إلي الإنسان من كلّ أفراد الإنسان وبني آدم، يكون هذا بلا حساب وبلا سبب؟ أيمكن هذا ويعقل؟

نحن لكوننا أفراداً من البشر وذي عقول، ونحاول أن تكون أعمالنا وتروكنا عن حكمة، عن سبب، عن علّة، لا نذر شيئاً ولا نختار شيئاً إلّالعلّة، إلّالحساب، إلّا لسبب، أيعقل أن تقول بأنّي أُحبّ الكتاب الفلاني وهو أحبّ إليّ من بين جميع كتب العالم، فإذا سئلت عن السبب لا يكون عندك سبب تذكره، لا يكون عندك جواب معقول.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 233

اللَّه سبحانه وتعالي، يجعل فرداً من أفراد البشر، وواحداً من خلائقه، أحبّ الخلائق إلي نفسه، ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يتّخذ أحداً ويجعله أحبّ الخلق إليه، أتري يكون هذا بلا حساب، وهل يعقل؟

وجميع التصرّفات التي صدرت من المحدّثين والمؤلّفين في هذا الحديث، وما سنقرأ أيضاً ممّا يحاولونه أمام الإماميّة في استدلالهم بهذا الحديث، كلّ تلك القضايا أدلّة أُخري وشواهد علي أنّ هذا الحديث يدلّ علي مقام عظيم لأمير المؤمنين وشأن كبير، وإلّا لما فعلوا، ولما تصرّفوا، ولما ضربوا وكسروا المنبر، ولما أهانوا المحدّث الحافظ الشهير الكبير عندهم، كما سنقرأ.

ثمّ

إنّ الأحبيّة إلي اللَّه والرسول لمّا لا تكون اعتباطاً، ولا بدّ من سبب، والمفروض أنّ تلك الأحبية إلي رسول اللَّه لم تكن لميول نفسانيّة ولم تكن لأغراض شخصيّة، لأنّ رسول اللَّه أعلي وأجلّ وأسمي من أن يحب شخصاً ويجعله أحبّ الخلق إليه لمجرّد ميل نفساني، فما هي تلك الضوابط التي أشرنا إليها؟

نحن لا علم لنا بتلك الضوابط علي نحو الدقّة؛ فالأمر أدقّ من هذا، أدقّ من أن تتوصّل إليه عقولنا وأفهامنا، إنّ الأمر أدقّ من أن نفهم أنّ النبيّ أيّ معيار كان عنده لأنْ يتّخذ أحداً أحبّ الخلق إليه، نحن لسنا بذلك المستوي لأنْ نعرف ملكات رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، حتّي نتمكّن من تعيين من هو أحبّ، اللهمّ إلّا عن طريق تلك الأحاديث المتواترة القطعيّة الواردة عنه صلّي اللَّه عليه وآله، الأحاديث المتفق عليها بين الطرفين.

فأحبيّة شخص إلي رسول اللَّه لا يمكن أن تكون لميل نفساني، ولشهوة خاصّة، ولغرض شخصي عند رسول اللَّه، فيجعل أحداً أحبّ الخلق إليه ولا يجعل الآخر والآخرين، بل هناك ضوابط، وهي التي تقرّب إليه أبعد الناس وتبعّد عنه

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 234

أقرب الناس، تلك الضوابط لا بدّ وأن تكون هكذا، وإلّا فليس من نبيّ مرسل من قبل اللَّه سبحانه وتعالي ، يفعل ويترك إلّاعن وحي من اللَّه سبحانه وتعالي «وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوي * إِنْ هُوَ إِلّا وَحْيٌ يُوحي » «1».

فإذا كانت الإحبّية بملاك، بسبب، وبحساب، تلك الأحبيّة تنتهي إلي الأقربيّة المعنويّة، تنتهي إلي الأفضليّة، تنتهي إلي وجود ما يقتضي أن يكون ذلك الشخص الأحبّ إلي رسول اللَّه، أن يكون مقدّماً علي غيره في جميع شؤون الحياة.

وإليكم عبارة الحافظ النووي في [شرح صحيح مسلم ]، وهذا حافظ كبير من حفّاظهم، وكتابه

هذا من أشهر كتبهم وأكثرها اعتباراً، إنه يقول في معني محبّة اللَّه تعالي لعبده، وأنه ما المراد من هذه الكلمة في النصوص الإسلاميّة والأدلّة الدينيّة، كتاباً وسنّةً:

«محبّة اللَّه سبحانه وتعالي لعبده: تمكينه من طاعته، وعصمته، وتوفيقه، وتيسير ألطافه وهدايته، وإفاضة رحمته عليه، هذه مباديها. وأمّا غايتها: فكشف الحجب عن قلبه، حتّي يراه [أي يري اللَّه تعالي ] ببصيرته فيكون [هذا الشخص المحبوب للَّه سبحانه وتعالي ] كما قال في الحديث الصحيح: فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره» «2».

هذه عبارته، وما ألطفها من عبارة.

فهل من شك حينئذ في استلزام الأحبية للإمامة؟ إنّ من كان محبوباً للَّه تعالي يكون له هذه المنزلة، فكيف من كان أحب الخلق إليه؟

عبارة النووي كانت في محبّة اللَّه لأحد، أمّا كون هذا الشخص وحده هو

__________________________________________________

(1) سورة النجم (53): 3- 4.

(2) المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج 15/ 151.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 235

الأحبّ من كلّ الخلائق إلي اللَّه سبحانه وتعالي ، فحدّث ولا حرج، هذا الذي قلت بأنّ أفهامنا تقصر عن درك مثل هذه القضايا، إلّاأنّنا نتكلّم بقدر ما نفهم.

إذن، لا شكّ ولا ريب في استلزام الأحبيّة للإمامة والخلافة والولاية.

هذا علي ضوء الحديث الذي قرأناه برواته وأسانيده وألفاظه، وبعض العبارات المتعلّقة بالمطلب.

فتمّ البحث إلي الآن عن دلالة حديث الطير علي الإمامة عن طريق استلزام الأحبيّة للأفضليّة.

ملاك الأحبية علي صعيد الواقع التاريخي … ص: 235

وأمّا علي صعيد الواقع التاريخي، أذكر لكم شاهدين فقط، حتّي تعرفوا أنّ استدلالنا بحديث الطير علي إمامة أمير المؤمنين لا مجال لأيّ خدشةٍ فيه من أيّ أحدٍ من الأوّلين والآخرين.

الشاهد الأوّل:

إنّهم يروون عن عمر بن الخطّاب أنّه قيل له لمّا طعن: لو استخلفت، فقال: لو كان أبو عبيدة حيّاً لاستخلفته.

لا أُريد أنْ أخرج عن موضوع البحث،

وإلّا فعندي تعليق هنا، يقول: لو كان أبو عبيدة حيّاً لا ستخلفته.

فإنْ سأله اللَّه: لماذا وبأيّ ملاك استخلفت أبا عبيدة؟

يقول: وقلت لربّي إنْ سألني: سمعت نبيّك يقول: أبو عبيدة أمين هذه الأُمة.

ولي تعليق علي هذا الحديث أتركه إلي وقتٍ آخر.

ويقول عمر أيضاً: ولو كان سالم مولي أبي حذيفة حيّاً استخلفته.

وعندي تعليق هنا، أتركه لوقته.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 236

يقول: فقلت لربّي إنْ سألني: سمعت نبيّك يقول: إنّ سالماً شديد الحبّ للَّه.

يقول عمر بن الخطّاب: لو كان سالم مولي أبي حذيفة حيّاً لاستخلفته، هذا الشخص المولي ، ولاعتذرت إلي اللَّه بأنّي سمعت نبيّك يقول: إنّ سالماً شديد الحبّ للَّه.

إذن، أصبح الحبّ ملاكاً ومعياراً للخلافة، وهو مولي ، وقد أجمعوا علي أنّ الإمام يجب أن يكون من قريش.

لكنْ لماذا كان سالم مولي أبي حذيفة بهذه المثابة في نظر عمر بن الخطّاب؟

نتركه لوقته.

هذا هو الشاهد الأوّل.

هذا الشاهد موجود في [تاريخ الطبري ] «1»، وفي تاريخ ابن الأثير [الكامل ] «2»، فراجعوا.

الشاهد الثاني:

والأهم من هذا هو الشاهد الثاني، تجدونه في [صحيح البخاري ] في قضيّة السقيفة نفسها، في بيعة أبي بكر بالذات، يقول الراوي والعبارة هكذا:

«اجتمعت الأنصار إلي سعد بن عبادة في سقيفة بني ساعدة، فقال أبو بكر:

نحن الأُمراء وأنتم الوزراء، فقال عمر: نبايعك أنت، فأنت سيّدنا وخيّرنا وأحبّنا إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، فبايعه عمر وبايعه الناس» «3».

فأصبحت الأحبية إلي رسول اللَّه هي الملاك علي صعيد الواقع، دعنا عن البحث الصغروي، فله مجال آخر، نستدلّ الآن بهذا الحديث علي ما هو في

__________________________________________________

(1) تاريخ الطبري 2/ 580.

(2) الكامل في التاريخ 3/ 65.

(3) صحيح البخاري 5/ 7- 8.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 237

صحيح البخاري صدقاً أو كذباً، حجة عليهم ونحن نلزمهم بهذه الحجة.

عمر

بن الخطّاب يدّعي لأبي بكر إنّه كان أحبّ الخلق إلي النبي، ولذا نادي- أمام الأنصار وغيرهم- بأنّ أبا بكر هو المتعيَّن للخلافة؛ لأنّه أحبّ الخلق إلي رسول اللَّه.

لكن حديثنا حديث متواتر قطعي الصدور عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله، مقبول بين الطرفين، وقد ذكرت لكم أسماء عدّةٍ من رواته، وذكرت لكم كيفيّة الإستدلال به، وفقه هذا الحديث.

الحسد لأمير المؤمنين عليه السّلام: … ص: 237

ومن فوائد حديث الطير ما أفاده من أنّه كان هناك بين أصحاب رسول اللَّه- حتّي المقرّبين منهم- من كان في قلبه حسد بالنسبة لأمير المؤمنين عليه السّلام، وأنس بن مالك خادم رسول اللَّه يكذب، لا مرّةً ولا مرّتين، يكذب مرّات لأجل الحسد الذي في قلبه علي علي أمير المؤمنين، لكن أنساً كشف عن واقع حاله أكثر فأكثر، منها عندما ناشده أمير المؤمنين عليه السّلام بحديث الغدير فأبي أن يشهد، وكتم الشهادة، وكتمان الشهادة ذنب كبير من كبائر المعاصي، حتّي أنّ أمير المؤمنين دعا عليه، وابتلي بالبرص «1».

إنّه لابدّ أنْ نعرف حقائق الأشخاص من خلال السنّة النبويّة، قبل أن نقرأ تراجمهم وأحوالهم في كتب التراجم، ففي السنّة وفي الأحاديث الواردة في المصادر المعتبرة ما يستكشف به حقائق حالات الأشخاص أكثر بكثير، وهذا ممّا لا يخفي علي المتضلّعين بمثل هذه البحوث.

__________________________________________________

(1) المعارف لابن قتيبة: 580، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/ 74.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 239

الجهة الثالثة … ص: 239

محاولات القوم في ردّ حديث الطير … ص: 239

اشارة

فننتقل الآن إلي محاولات القوم في ردّ هذا الحديث وإبطاله، وفي المنع عن نقله وانتشاره.

وتتلخّص محاولاتهم في وجوه:

الأول: المناقشة في سند الحديث … ص: 239

فإذا راجعتم كتاب [العلل المتناهية في الأحاديث الواهية] لأبي الفرج ابن الجوزي، تجدونه يذكر هذا الحديث بسندٍ أو ببعض أسانيده ويضعّفه ويسكت عن بعض الأسانيد الأُخري «1».

لكن ابن الجوزي أبا الفرج الحنبلي المتوفي سنة 597 معروف بالتسرّع بالحكم، لا بالتضعيف فقط بل حتّي بالحكم بالوضع، ولربّما ضعّف أو كذّب في كتبه أحاديث صحيحة قطعاً أو موجودة في الصحاح، وهذا ما دعا كبار المحدّثين من المحققين من أهل السنّة إلي التحذير من الإعتماد علي حكم ابن الجوزي في أيّ حديث من الأحاديث، وأنّه لابدّ من التثبّت.

__________________________________________________

(1) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/ 228 من رقم 360 إلي 377.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 240

والعجيب أنّهم ربّما ينسبون إلي ابن الجوزي أنّه أدرج حديث الطير في كتاب الموضوعات، راجعواكتاب المرقاة في شرح المشكاة للقاري «1» وبعض الكتب الأُخري «2»، فإنهم ينسبون إلي ابن الجوزي أنّه حكم علي هذا الحديث بالوضع وأدرجه في كتاب الموضوعات، والحال أنّه غير موجود في كتاب الموضوعات، نعم، هو موجود في كتاب العلل المتناهية كما عرفتم، لكنّه ببعض أسناده، وإنّما يتكلّم علي بعض رجال هذا الحديث في بعض الأسانيد- ونحن لا ندّعي أنْ كلّ أسانيده صحيحة- ويسكت عن البعض الآخر.

ويأتي من بعده ابن كثير، فيذكر في [تاريخه ] «3» حديث الطير، ويرويه عن عدّة من الأئمّة الأعلام، يرويه عن الترمذي، وعن أبي يعلي ، وعن الحاكم، وعن الخطيب البغدادي، وعن ابن عساكر، وعن الذهبي، عن غيرهم، إلي أنْ قال:

«وقد جمع الناس في هذا الحديث مصنّفات مفردة منهم: أبو بكر ابن مردويه، والحافظ أبو طاهر محمّد بن أحمد بن

حمدان فيما رواه شيخنا أبو عبداللَّه الذهبي يقول: ورأيت مجلداً في جمع طرقه وألفاظه لأبي جعفر ابن جرير الطبري المفسّر صاحب التاريخ، ثمّ وقفت علي مجلّد كبير في ردّه وتضعيفه سنداً ومتناً للقاضي أبي بكر الباقلانيّ المتكلّم».

ثمّ يذكر ابن كثير رأيه في هذا الحديث قائلًا:

وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.

أقول: فدليل ابن كثير علي ضعف حديث الطير ليس إلّاأنّ قلبه لا يساعد علي قبول هذا الحديث، كما أنّ قلب أبي جهل لم يساعد علي قبول القرآن والإسلام،

__________________________________________________

(1) مرقاة المفاتيح 10/ 465 رقم 6094.

(2) تذكرة الموضوعات: 96.

(3) البداية والنهاية 7/ 350- 353.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 241

لا يقول: إنّه موضوع، لا يقول: إنّه حديث مكذوب، لا يقول: في سنده كذا وكذا، لا يقول: الراوي ضعيف لقول فلان، لنصّ فلان علي ضعفه، وأمثال ذلك، فإنّها مناقشات علميّة تُسمع، وقابلة للبحث والنظر، وأيّ مانع! يقول: وبالجملة، ففي القلب من صحّة هذا الحديث نظر وإن كثرت طرقه.

إنّ من جملة أساليبهم عندما يريدون أنْ يردّوا حديثاً وقد أعيتهم السبل، فلم يمكنهم المناقشة في سنده بشكل من الأشكال، يلجأون إلي القسم أحياناً، كقولهم:

«واللَّه إنّه موضوع» وأيّ دليل أقوي من هذا؟! أوْ يلتجئون إلي قلوبهم: والقلب يشهد بأنّ هذا الحديث موضوع، أذكر لكم شاهداً واحداً فقط.

في [مستدرك الحاكم ] حديث عن علي عليه السّلام: أخبرني رسول اللَّه: «إنّ أوّل من يدخل الجنّة أنا وفاطمة والحسن والحسين»، قلت: يا رسول اللَّه فمحبّونا؟ قال: «من ورائكم».

يقول الحاكم: «صحيح الإسناد ولم يخرجاه» «1».

هذا حديث الحاكم، وما ذنبنا إنْ كان الحاكم كاذباً بنقل هذا الحديث وفي حكمه بصحّته، نحن المحبّون لأهل البيت ندخل الجنّة وراء أهل البيت، هم يدخلون ونحن وراءهم، لأنّنا

نحبّ أهل البيت، وهذا لا يمكن لأحدٍ إنكاره.

فيقول الذهبي في [تلخيصه ] للمستدرك في ذيل هذا الحديث: «الحديث منكر من القول يشهد القلب بوضعه» «2».

ليته ناقش في سند الحديث، بضعف راوٍ من رواته، وإنّما يقول يشهد القلب بوضعه!! ولماذا يشهد قلب الذهبي بوضع هذا الحديث؟ الحديث يقول: إنّ أوّل

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3/ 151.

(2) تلخيص المستدرك 3/ 151.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 242

من يدخل الجنّة رسول اللَّه وعلي وفاطمة والحسن ومحبّوهم من وراءهم، أيّ مانع من هذا؟ وأيّ ضير علي الذهبي حتّي يشهد قلبه بأن هذا الحديث موضوع؟

ولماذا؟ هل حبّ أهل البيت مانع من دخول الجنّة فيكون قلبه يشهد بوضع هذا الحديث؟ أو يشُك في أنّ رسول اللَّه وعليّاً وفاطمة والحسنين أوّل من يدخل الجنّة؟ أيشُك في هذا؟ لماذا قلبه يشهد بوضعه؟ فتأمّلوا في هذا.

إذن، كانت المحاولة الأُولي هي المناقشة في سند الحديث والحكم بضعف الحديث، لكن الحديث في الصحاح كما ذكرنا، وله أسانيد صحيحة، وقسم كبير من أسانيده أنا بنفسي صحّحتها علي ضوء كلمات كبار علماء الحديث وأئمّة الجرح والتعديل، وهي في خارج الصحاح.

الثاني: تحريف اللفظ … ص: 242

وهذا هو الطريق الثاني لردّ هذا الحديث، قد قرأنا بعض الألفاظ، وعرفتم كيف يكون التحريف.

أمّا أحمد بن حنبل، فقد قرأنا لفظ الحديث من كتابه المعروف في فضائل علي، فلنقرأ لفظ الحديث في [مسنده ]:

قال: سمعت أنس بن مالك وهو يقول: أُهديت لرسول اللَّه ثلاثة طوائر، فأطعم خادمه طائراً، فلمّا كان من الغد أتت به- كلمة الخادم تطلق علي المرأة والرجل- فقال لها صلّي اللَّه عليه وآله: «ألم أنهك أن ترفعي شيئاً، فإنّ اللَّه عزّوجلّ يأتي برزق كلّ غد».

هذا هو الحديث في مسند أحمد «1».

ولك أن تقول: لعلّ هذا الحديث في قضيّة أُخري

لا علاقة لها بحديث الطير

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 3/ 198.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 243

الذي هو موضوع البحث.

لكنْ عندما نراجع ألفاظ الحديث، نجد بعض ألفاظه بنفس هذا اللفظ وبنفس السند الذي أتي به أحمد، وفيه ما يتعلّق بعليّ عليه السّلام وكونه أحبّ الخلق إلي اللَّه إلي آخر الحديث.

نعم، كنت أتصوّر أنّ هذا الحديث وارد في قضيّة لا علاقة لها بحديث الطير الذي نبحث عنه، هذا تبادر إلي ذهني لأوّل وهلة، لكنّني دقّقت النظر في الآحاديث، فوجدت الحديث حديث الطير، إلّاأنّه جاء به بهذا الشكل، وهل هذا التحريف الذي وقع في مسند أحمد من أحمد نفسه، أو النسّاخ، أو الطابعين لكتابه؟ اللَّه أعلم.

وأبو الشيخ الإصفهاني الذي ذكرناه مراراً، يروي هذا الحديث، وفيه ما يتعلّق بأمير المؤمنين عليه السّلام، إلّاأنّ ما يتعلّق بأنس، وكذب أنس، وخيانة أنس، هذا كلّه محذوف ومحرّف، قال:

«عن أنس بن مالك قال: أُهدي لرسول اللَّه طير فقال: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك يأكل معي هذا الطير»، فجاء علي فأكل معه، ثمّ هو يقول: فذكر الحديث انتهي » «1».

وكأنّه يريد أنْ يحفظ الأمانة فلا يخون، فيضع كلمة: فذكر الحديث.

ومن العجيب إسقاط بعضهم كلا الفقرتين، ما يتعلّق بعلي وما يتعلّق بأنس، وجاء فقط بذلك العذر الذي ذكر أنس في آخر القضية:

عن أنس عن النبي قال: «لا يلام الرجل علي حبّ قومه».

حينئذ يقول ابن حجر العسقلاني: هذا طرف من حديث الطير «2».

__________________________________________________

(1) طبقات المحدّثين بإصبهان 3/ 454.

(2) لسان الميزان 5/ 58.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 244

الثالث: تأويل الحديث وحمل مدلوله علي خلاف ما هو ظاهر فيه … ص: 244

فيحملون أوّلًا لفظ الحديث الذي يقول: «اللهمّ ائتني بأحبّ خلقك إليك وإلي رسولك»، يحملونه علي أنّ المراد: اللهمّ ائتني بمن هو من أحبّ خلقك إليك وإلي رسولك.

فحينئذ لا إشكال، لأنّ مشايخ القوم

أحبّ الخلق إليه أيضاً عندهم، فيكون علي أيضاً من أحبّ الخلق إليه.

راجعوا شروح مصابيح السنّة، وشروح المشكاة «1» وكتاب التحفة الإثنا عشرية «2» حتي تجدوا هذا التأويل في كتبهم حول هذا الحديث.

وهل توافقون عليه؟ وهل هناك مجال لقبول هذا التأويل بلا أيّ دليل؟

وقال صاحب [التحفة الإثني عشرية] «3»: إنّ القضيّة إنّما كانت في وقتٍ كان الشيخان في خارج المدينة المنوّرة، فلذا لم يحضرا، فحضر علي.

وهذا الكتاب عندهم من أحسن الكتب في باب الإمامة، أو في أبواب العقائد كلّها، وطبع مراراً وتكراراً طبعات مختلفة، وطبعوا خلاصته باللغة العربية مع تعاليق ذلك العدو من أعداء الدين، مراراً وتكراراً في البلاد المختلفة.

أقول: هل كانت هذه القضية في وقت كان أبو بكر وعمر في خارج المدينة المنوّرة؟ واللَّه لو كانا في خارج المدينة المنوّرة لما كان عندنا أي كلام، فنحن ما عندنا أي غرض في إثبات شي ء أو نفي شي ء، لكنْ ماذا نفعل مع حديث النسائي، مع حديث أبي يعلي : إنّه جاء أبو بكر فردّه، جاء عمر فردّه، وأضاف صاحب

__________________________________________________

(1) المرقاة في شرح المشكاة 10/ 464.

(2) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 165.

(3) التحفة الاثنا عشريّة: 212.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 245

المسند فقال: بأنّ عثمان أيضاً جاء وردّه؟! فهؤلاء كانوا في المدينة المنوّرة، وأيّ ذنبٍ لنا إنْ كان النسائي وغيره ورواة خبر حضورهم في المدينة كاذبين عليهم؟!

الرابع: المعارضة … ص: 245

المعارضة لها وجه علمي، نحن نوافق علي هذا، لأنّ المعارضة هي الإتيان بحديث معتبر ليعارض به حديث معتبر آخر في مدلوله، فتلاحظ بينهما قواعد الجرح والتعديل لتقديم البعض علي البعض الآخر، تلك القواعد المقررة في كتب السنّة وعلم اصول الفقه، فهذا أُسلوب علمي للبحث والمناظرة، وأيُّ مانع من هذا، المعارضة وإلقاء التعارض بين الحديثين، ثمّ دراسة

الحديثين بالسند والدلالة وغير ذلك فعل حسن وعمل جميل وعلي الموازين، وله وِجهةٌ علمية، ونحن مستعدون لدراسة ما يذكرونه معارضاً لحديث الطير، بلا أيّ تعصّب، لكنْ أيّ شي ء ذكروا ليعارضوا به حديث الطير؟

في كتاب [التحفة الإثنا عشرية] استند إلي حديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر» «1» في مقابلة حديث الطير.

فو اللَّه لو تمّ هذا الحديث سنداً ودلالة، حتّي لو ثبت اعتباره عندهم واتّفقوا علي صحّته، فنحن نغضّ النظر عن انفراد القوم به، وقد قلنا- منذ الأوّل- أنّ الحديث الذي يريد كلّ طرفٍ من الطرفين أن يستند إليه، لا بدّ وأن يكون مقبولًا عند الجانبين،، نحن نغضّ النظر عن هذه الناحية، وندرس الحديث علي ضوء كتبهم وأقوال علمائهم هم فقط، ولو تمّ، لوافقنا ولرفعنا اليد عن حديث الطير المقبول بين الطرفين بواسطة حديث: «اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر».

__________________________________________________

(1) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 165.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 246

ولكنْ ماذا نفعل وهم لا يقبلون بحديث الإقتداء بالشيخين، وسنقرأ ما يقولونه حول هذا الحديث بالتفصيل في موضعه إن شاء اللَّه تعالي .

الخامس: … ص: 246

بعد أنْ أعيتهم السبل العلميّة في الظاهر وهي: المناقشات في السند أو الدلالة، يلجأون إلي طريقة أُخري ، وماذا نسمّي هذه الطريقة؟ لا أدري الآن، لأقرأ لكم ماوجدته تحت هذا العنوان الذي عنونته أنا، فأنتم سمّوا ما فعلوا بأيّ تسمية تريدون!!

أذكر لكم قضيّة الحافظ ابن السقّا الواسطي المتوفي سنة 373:

يقول الذهبي في كتاب [سير أعلام النبلاء] «1» بعد أن يصف ابن السقا بما يلي:

الحافظ الإمام محدّث واسط.

فبعد أن يلقّبه بهذه الألقاب ينقل عن الحافظ السلفي يقول: سألت الحافظ خميساً الجوزي عن ابن السقا؟ فقال: هو من مزينة مضر ولم يكن سقّاءً بل لقب له،

من وجوه الواسطيين وذي الثروة والحفظ، رحل به أبوه فأسمعه من أبي خليفة وأبي يعلي و …، وبارك اللَّه في سنّه وعلمه.

واتفق أنّه أملي حديث الطائر، فلم تحتمله نفوسهم، فوثبوا عليه فأقاموه وغسلوا موضعه، فمضي ولزم بيته لا يحدّث أحداً من الواسطيين، فلهذا قلّ حديثه عندهم.

أقول: ولم يذكر الراوي كلّ ما وقع علي هذا المحدّث من ضرب وشتم وإهانة وغير ذلك، يكتفي بهذه العبارة: «وثبوا عليه فأقاموه عن مجلسه

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 16/ 351- 352.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 247

وغسلوا موضعه».

كأنّ الموضع الذي كان جالساً فيه تنجّس لإملائه طرق حديث الطير، وغسلوا موضعه.

فمضي ولزم بيته ولم يخرج.

فماذا تسمّون هذه الطريقة؟ لا أدري.

هذا ما ذكره الذهبي في ترجمة هذا الرجل في كتابه سير أعلام النبلاء، وفي كتاب تذكرة الحفّاظ «1».

أمّا الحاكم النيسابوري صاحب المستدرك علي الصحيحين، فقد كان مصرّاً علي صحّة حديث الطير، وهو حافظ زمانه والمرجوع إليه في معرفة الصحيح والسقيم منه.

يقول في كتابه [علوم الحديث ] «2»: «حديث الطير من مشهورات الأحاديث» وكان علي أصحاب الصحاح أن يخرّجوه في الصحاح.

ويقول: ذاكرت به كثيراً من المحدثين.

ويقول: كتبت فيه كتاباً، أي كتب في جمع طرقه كتاباً.

ثمّ إنّه في [المستدرك ] «3» يروي هذا الحديث ويقول: «هذا حديث صحيح علي شرط الشيخين ولم يخرجاه، وقد رواه عن أنس جماعة من أصحابة زيادة علي ثلاثين نفساً».

وقد قلت لكم أنّ الرواة عن أنس هم أكثر من ثمانين شخصاً، لا ثلاثين شخصاً فقط.

__________________________________________________

(1) تذكرة الحفّاظ 3/ 966.

(2) معرفة علوم الحديث: 93.

(3) المستدرك علي الصحيحين 3/ 131.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 248

يقول: ثمّ صحّت الرواية عن علي وأبي سعيد الخدري وسفينة.

واضطرب القوم تجاه تصحيح الحاكم، وإخراج الحاكم هذا الحديث في مستدركه، وإصراره علي صحّته،

وأصبحت قضيّة حديث الطير والحاكم قضيّة تذكر في أكثر الكتب المتعلّقة بالحاكم وبحديث الطير، أي حدثت هناك ضجّة من فعل الحاكم هذا، وقام القوم عليه وقامت قيامتهم، ولأجل هذا الحديث رماه بعضهم بالرفض فقال: الحاكم رافضي. لكن الذهبي وابن حجر العسقلاني يقولان:

اللَّه يحبّ الإنصاف، ما الرجل برافضي. فراجعوا [لسان الميزان ]، و [سير أعلام النبلاء]، وغير هذين الكتابين «1».

ثمّ جاء بعضهم وجعل يرمي كتاب المستدرك بأنّ: هذا الكتاب ليس فيه ولا حديث واحد علي شرط الشيخين.

وحينئذ يقول الذهبي: هذه مكابرة وغلو «2».

ثمّ نسبوا إلي الدارقطني: أنّه لمّا بلغه أنّ الحاكم قد أخرج حديث الطير في المستدرك، انتقد فعل الحاكم هذا.

لكن الذهبي يقول: إنّ الحاكم إنّما ألّف المستدرك بعد وفاة الدارقطني بمدة «3».

وحينئذ، إذا راجعتم كتاب [طبقات الشافعيّة] للسبكي «4» رأيتموه ينقل عن الذهبي: إنّ الحاكم سُئل عن حديث الطير فقال: لا يصّح ولو صحّ لما كان أحد

__________________________________________________

(1) سير أعلام النبلاء 17/ 174، وفيه: قلت: كلّا ليس هو رافضيّاً، بل يتشيّع. لسان الميزان 6/ 251 وفيه: قلت: إنَّ اللَّه يحبّ الإنصاف، ما الرجل برافضي بل شيعي فقط.

(2) المصدر 17/ 175.

(3) المصدر 17/ 176.

(4) طبقات الشافعية 4/ 168- 169.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 249

أفضل من علي بعد رسول اللَّه. ثمّ قال شيخنا: وهذه الحكاية سندها صحيح، فما باله أخرج حديث الطير في المستدرك؟!

يعني: إذا كان الحاكم يعتقد بأنّ الشيخين أفضل من علي، فلماذا أخرج هذا الحديث في المستدرك؟ ولماذا صحّحه؟

حينئذ يقول السبكي: قد جوّزت أنْ يكون زيد في كتابه.

يعني: حديث الطير ممّا زاده غيره علي كتاب المستدرك وأدخله فيه!!

لاحظوا إلي أي حدِّ يحاولون إسقاط حديث من الأحاديث، يقول قد جوّزتُ أن يكون زيد في كتابه، وأنه ليس من روايات الحاكم.

يقول

السبكي: وبحثت عن نسخ قديمة من المستدرك فلم أجد ما ينشرح الصدر بعدمه.

أي: وجدت الحديث في كلّ النسخ.

وتذكّرت الدارقطني إنّه يستدرك حديث الطير، فغلب علي ظنّي إنّه لم يوضع عليه.

أي: إنّ الحديث لم يوضع علي الحاكم، ولم يزده أحد في المستدرك.

ثمّ تأمّلت قول من قال: إنّه أخرجه من الكتاب، فإنْ ثبت هذا صحّت الحكايات.

أي: ويكون خرّجه في الكتاب قبل أن يظهر له بطلانه، ثمّ أخرجه منه لاعتقاده عدم صحّته كما في هذه الحكاية التي صحّح الذهبي سندها.

ولكنّه بقي في بعض النسخ، إمّا لإنتشار النسخ بالكتاب، أو لإدخال بعض الطاعنين في الشيخين إيّاه فيه.

فكلّ هذا جائز، والعلم عند اللَّه تعالي .

هذا نصّ عبارة السبكي.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 250

أقول: هذه نمادج من محاولات القوم لإسقاط الحديث، ولإثبات أنّ الحاكم لم يروه في مستدركه، وذلك يكشف عن اضطراب القوم أمام تصحيح الحاكم وإخراجه هذا الحديث في كتابه.

وهل اكتفوا بهذا؟ وهل استفادوا من هذه الأساليب شيئاً؟ لا.

فما كان عليهم إلّاأنْ يهجموا علي الحاكم داره، فيضربوه ويكسروا منبره الذي كان يجلس عليه ويحدّث، ويمنعوه من الخروج من داره.

وهلّا فعلوا هذا من أوّل يومٍ، وقبل أن يتعبوا أنفسهم في التحقيق عن كتاب المستدرك، باحتمال أنْ يكون هذا الحديث قد أدرجه بعض الوضّاعين، فما أحسن هذا الطريق لإثبات الخلافة لأسيادهم!!

وهكذا فعلوا مع غير الحاكم، مع كثير من أئمّتهم!!

أما فعلوا ذلك مع النسائي في دمشق؟

أما بقروا بطن الحافظ الكنجي في داخل المسجد، لأنّه كان يملي فضايل علي؟

هذا ممّا فعلوه بعلمائهم!

هذا بعلمائهم فكيف بعلماء الطائفة الشيعيّة، وبالأئمّة الإثني عشر، فأيّ شي ء فعلوا؟ وكيف عاملوا؟

وهكذا ثبتت الإمامة والخلافة للشيخين وللمشايخ.

فأيّ داعٍ لكلّ ما قاموا به من المناقشة في السند، ومن المناقشة في الدلالة، ومن المعارضة،

ومن تحريف اللفظ؟ من ضرب وهتك لابن السقا والحاكم؟

لماذا لا يقلّدون إمامهم وشيخ إسلامهم الذي قال: حديث الطير من

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 251

الموضوعات المكذوبات «1». فأراح نفسه من كلّ هذا التعب؟

وهذه فتوي ابن تيميّة، وتلك فتوي ابن كثير، وتلك أفعالهم وأعمالهم مع أئمّتهم كالحاكم وغيره، وتلك تحريفاتهم لألفاظ الحديث النبوي، وتلك خياناتهم تبعاً لخيانة صاحبهم أنس بن مالك، وتلك إمامة مشايخهم التي يريدون أن يثبتوها بهذه السبل!!

وعلي كلّ منصفٍ، كلّ محقّق، وكلّ حرّ: أنْ يستمع القول فيتّبع أحسنه، واللَّه علي ما نقول شهيد، ونعم الحكم اللَّه، والخصيم محمّد، وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7/ 371.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 255

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا ونبينا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

موضوع بحثنا الليلة حديث المنزلة، قوله صلّي اللَّه عليه وآله لأمير المؤمنين عليه السّلام: «أما ترضي أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسي »، وقوله في بعض الألفاظ: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي »، أو «علي منّي بمنزلة هارون من موسي ».

يمتاز هذا الحديث عن كثير من الأحاديث في أنّه حديث أخرجه البخاري ومسلم أيضاً، إلي جنب سائر المحدّثين الذين أخرجوا هذا الحديث الشريف، وأنه حديث اتّفق عليه الشيخان باصطلاحهم.

ومن جهة أُخري يستدلّ بهذا الحديث علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام من جهات عديدة، لوجود دلالات متعدّدة فيه.

لذلك اهتمّ بهذا الحديث علماؤنا منذ قديم الأيام، كما اهتمّ به الآخرون أيضاً في مجال روايته بأسانيدهم، وفي مجال الجواب عنه بطرقهم المختلفة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 256

حديث المنزلة … ص: 256

اشارة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 257

رواة حديث المنزلة … ص: 257

قبل كلّ شي ء نذكر أسامي عدّة من الصحابة الرواة لهذا الحديث، وأسماء أشهر مشاهير الرواة له، من محدّثين ومفسّرين ومؤرّخين في القرون المختلفة.

علي رأس الرواة لهذا الحديث من الصحابة:

1- أمير المؤمنين عليه السّلام.

ويرويه أيضاً:

2- عبداللَّه بن العباس.

3- جابر بن عبداللَّه الأنصاري.

4- عبداللَّه بن مسعود.

5- سعد بن أبي وقّاص.

6- عمر بن الخطّاب.

7- أبو سعيد الخدري.

8- البراء بن عازب.

9- جابر بن سمرة.

10- أبو هريرة.

11- مالك بن الحويرث.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 258

12- زيد بن أرقم.

13- أبو رافع.

14- حذيفة بن أسيد.

15- أنس بن مالك.

16- عبداللَّه بن أبي أوفي .

17- أبو أيّوب الأنصاري.

18- عقيل بن أبي طالب.

19- حبشي بن جنادة.

20- معاوية بن أبي سفيان.

ومن جملة رواة هذا الحديث من الصحابيات:

1- أُم سلمة أُمّ المؤمنين رضي اللَّه عنها.

2- أسماء بنت عميس.

رواة هذا الحديث من الصحابة أكثر من ثلاثين، وربّما يبلغون الأربعين رجل وامرأة.

يقول ابن عبدالبر في [الإستيعاب ] عن هذا الحديث: هو من أثبت الأخبار وأصحّها.

قال: وطرق حديث سعد بن أبي وقاص كثيرة جدّاً.

فذكر عدّة من الصحابة الذين رووا هذا الحديث، ثمّ قال: وجماعة يطول ذكرهم «1».

وهكذا ترون المزي يقول بترجمة أمير المؤمنين عليه السّلام من كتابه الكبير

__________________________________________________

(1) الإستيعاب 3/ 1097.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 259

في الرّجال [تهذيب الكمال ] «1».

وذكر الحافظ ابن عساكر بترجمة أمير المؤمنين من [تاريخ دمشق ] كثيراً من طرق هذا الحديث وأسانيده عن عشرين من الصحابة تقريباً «2».

ويقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في [شرح البخاري ] بعد أن يذكر أسامي عدّة من الصحابة، ويروي نصوص روايات جمع منهم يقول: وقد استوعب طرقه ابن عساكر في ترجمة علي «3».

فهذا الحديث- مضافاً إلي أنّه متواتر عند أصحابنا الإماميّة- من الأحاديث الصحيحة المعروفة المشهورة عند أهل السنّة،

بل هو من الأحاديث المتواترة عندهم كذلك.

يقول الحاكم النيسابوري: «هذا حديث دخل في حدّ التواتر» «4».

كما أنّ الحافظ السيوطي أورد هذا الحديث في كتابه [الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة] «5»، وتبعه الشيخ علي المتقي في كتابه [قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة].

وممّن اعترف بتواتر هذا الحديث: الشاه ولي اللَّه الدهلوي محدّث الهند في كتابه [إزالة الخفاء في سيرة الخلفاء] «6».

ولنذكر أسماء عدة من أشهر مشاهير القوم الرواة لهذا الحديث في القرون

__________________________________________________

(1) تهذيب الكمال 2/ 483.

(2) أنظر: ترجمة الإمام علي عليه السّلام 1/ 306- 393.

(3) فتح الباري 7/ 60.

(4) كفاية الطالب: 283.

(5) الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة: حرف الألف.

(6) أنظر: نفحات الأزهار 17/ 162.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 260

المختلفة، فمنهم:

1- محمّد بن إسحاق، صاحب السيرة.

2- أبو داود الطيالسي، في مسنده.

3- محمّد بن سعد، صاحب الطبقات.

4- أبو بكر ابن أبي شيبة، صاحب المصنف.

5- أحمد بن حنبل، صاحب المسند.

6- البخاري، في صحيحه.

7- مسلم، في صحيحه.

8- ابن ماجة، في صحيحه.

9- أبو حاتم بن حبّان، في صحيحه.

10- الترمذي، في صحيحه.

11- عبداللَّه بن أحمد بن حنبل، هذا الإمام الكبير الذي ربّما يقدّمه بعضهم علي والده، يروي هذا الحديث في زيادات مسند أحمد وزيادات مناقب أحمد.

12- أبو بكر البزّار، صاحب المسند.

13- النسائي، صاحب الصحيح.

14- أبو يعلي الموصلي، صاحب المسند.

15- محمّد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ والتفسير.

16- أبو عوانة، صاحب الصحيح.

17- أبو الشيخ الإصفهاني، صاحب طبقات المحدثين.

18- أبو القاسم الطبراني، صاحب المعاجم الثلاثة.

19- أبو عبداللَّه الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك علي الصحيحين.

20- أبو بكر الشيرازي، صاحب كتاب الألقاب.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 261

21- أبو بكر بن مردويه الإصفهاني، صاحب التفسير.

22- أبو نعيم الإصفهاني، صاحب حلية الأولياء.

23- أبو القاسم التنوخي، له كتاب في طرق أحاديث

المنزلة.

24- أبو بكر الخطيب، صاحب تاريخ بغداد.

25- ابن عبدالبر، صاحب الإستيعاب.

26- البغوي، الملقّب عندهم بمحي السنّة، صاحب مصابيح السنّة.

27- رزين العبدري، صاحب الجمع بين الصّحاح.

28- ابن عساكر، صاحب تاريخ دمشق.

29- الفخر الرازي، صاحب التفسير الكبير.

30- ابن الأثير الجزري، صاحب جامع الأُصول.

31- أخوه ابن الأثير، صاحب أُسد الغابة.

32- ابن النجّار البغدادي، صاحب تاريخ بغداد.

33- النووي، صاحب شرح صحيح مسلم.

34- أبو العباس الطبري، صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشرة.

35- ابن سيّد الناس، في سيرته.

36- ابن قيّم الجوزية، في سيرته.

37- اليافعي، صاحب مرآة الجنان.

38- ابن كثير الدمشقي، صاحب التاريخ والتفسير.

39- الخطيب التبريزي، صاحب مشكاة المصابيح.

40- جمال الدين المزّي، صاحب تهذيب الكمال.

41- ابن الشحنة، صاحب التاريخ المعروف.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 262

42- زين الدين العراقي المحدّث المعروف، صاحب المؤلفات، صاحب الألفية في علوم الحديث.

43- ابن حجر العسقلاني، صاحب المؤلفات.

44- السيوطي، صاحب المؤلفات كالدر المنثور وغيره.

45- الديار بكري، صاحب تاريخ الخميس.

46- ابن حجر المكّي، صاحب الصواعق المحرقة.

47- المتقي الهندي، صاحب كنز العمّال.

48- المناوي، صاحب فيض القدير في شرح الجامع الصغير.

49- وليّ اللَّه الدهلوي، صاحب المؤلفات ككتاب حجة اللَّه البالغة وإزالة الخفاء.

50- أحمد زيني دحلان، صاحب السيرة الدحلانيّة.

وغير هؤلاء من المحدّثين والمؤرّخين والمفسّرين من مختلف القرون والطبقات.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 263

نصّ حديث المنزلة وتصحيحه … ص: 263

أمّا نصّ الحديث في [صحيح البخاري ]:

حدّثنا محمّد بن بشّار، حدّثنا غندر، حدّثنا شعبة، عن سعد قال: سمعت إبراهيم بن سعد عن أبيه [أي سعد بن أبي وقّاص ] قال النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: «أما ترضي أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسي » «1».

قال: وحدّثنا مسدّد، حدّثنا يحيي ، عن شعبة، عن الحكم، عن مصعب- مصعب بن سعد بن أبي وقّاص- عن أبيه: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه

عليه وآله وسلّم خرج إلي تبوك فاستخلف عليّاً فقال: أتكلّفني بالصبيان والنساء؟ قال: «ألا ترضي أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه ليس بعدي نبي» «2».

وأمّا مسلم، فإنّه يروي في [صحيحه ] هذا الحديث بأسانيد عديدة لا بسندٍ وسندين:

منها: ما يرويه بسنده عن سعيد بن المسيّب، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه لا نبي بعدي».

__________________________________________________

(1) صحيح البخاري 5/ 24.

(2) المصدر 6/ 3.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 264

قال سعيد: فأحببت أنْ أُشافه بها سعداً، فلقيت سعداً فحدّثته بما حدّثني به عامر فقال: أنا سمعته، قلت: أنت سمعته؟ قال: فوضع إصبعيه علي أُذنيه فقال: نعم، وإلّا أُستكّتا «1».

في هذا الحديث، وفي هذا اللفظ نكت يجب الإلتفات إليها.

وبسند آخر في صحيح مسلم: عن بكير بن مسمار، عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص، عن أبيه قال: أمر معاوية بن أبي سفيان سعداً فقال: ما منعك أنْ تسبّ أبا التراب؟ فقال: أمّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللَّه فلن أسبّه … فذكر الخصال الثلاث ومنها حديث المنزلة «2».

أقول: فهذا حديث المنزلة في الصحيحين، وأنتم تعلمون بأنّ المشهور بينهم قطعيّة أحاديث الصحيحين، فجمهورهم علي أنّ جميع أحاديث الصحيحين مقطوعة الصدور، ولا مجال للبحث عن أسانيد شي ء من تلك الأحاديث.

وللتأكّد من ذلك يمكنكم الرجوع إلي كتبهم في علوم الحديث، فراجعوا- مثلًا- كتاب [تدريب الراوي في شرح تقريب النوّاوي ] للحافظ السيوطي، وبإمكانكم الرجوع إلي [شروح ألفيّة الحديث ] كشرح ابن كثير وشرح زين الدين العراقي و غير ذلك، وحتّي لو راجعتم كتاب [علوم الحديث ] لأبي الصلاح لرأيتم هذا المعني ، ويزيد شاه ولي اللَّه

الدهلوي في كتاب [حجة اللَّه البالغة]، وهو كتاب معتبر عندهم ويعتمدون عليه، يزيد الأمر تأكيداً عندما يقول- وبعد أنْ يؤكّد علي وقوع الإتفاق علي هذا المعني- يقول: «اتفقوا علي أنّ كلّ من يهوّن أمرهما [أي أمر الصحيحين ] فهو مبتدعٌ متبع غير سبيل المؤمنين» «3».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 4/ 1870 رقم 2404.

(2) المصدر 4/ 1871.

(3) حجة اللَّه البالغة 1/ 134.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 265

فمن يناقش في سند حديث المنزلة- بحكم هذا الكلام الذي ادّعي عليه الاتفاق شاه ولي اللَّه دهلوي- فهو مبتدع متّبع غير سبيل المؤمنين.

وعندما تراجعون كتب الرجال، فهناك اتفاق بينهم علي قبول من أخرج له الشيخان، حتّي أنّ بعضهم قال: من أخرجا له فقد جاز القنطرة!

ومن هنا، نراهم متي ما أعيتهم السبل في ردّ حديث يتمسّك به الإمامية علي إثبات حقّهم أو علي إبطال باطل، وعجزوا عن الجواب، يتذرّعون بعدم إخراج الشيخين له، ويتّخذون عدم إخراجهما للحديث ذريعة للطعن في ذلك الحديث الذي ليس في صالحهم.

أذكر لكم مثالًا واحداً، وهو حديث: «ستفترق أُمّتي علي ثلاث وسبعين فرقة»، هذا الحديث بهذا اللفظ غير موجود في الصحيحين، لكنّه موجود في السنن الأربعة، يقول ابن تيميّة في مقام الردّ علي هذا الحديث «1»: الحديث ليس في الصحيحين ولكن قد أورده أهل السنن ورووه في المسانيد كالإمام أحمد وغيره.

ومع ذلك لا يوافق علي هذا الحديث متذرّعاً بعدم وجوده في الصحيحين.

إلّا أنّ الملفت للنظر لكلّ باحث منصف، أنّهم في نفس الوقت الذي يؤكّدون علي قطعيّة صدور أحاديث الصحيحين، ويتخذون إخراج الشيخين لحديثٍ أو عدم إخراجهما له دليلًا وذريعة ووسيلة لردّ الحديث أو قبوله، في نفس الوقت، إذا رأوا في الصحيحين حديثاً في صالح الإماميّة يخطّئونه ويردّونه وبكلّ جرأة.

ولذا لو

راجعتم إلي كتاب [التحفة الإثنا عشرية] «2» لوجدتم صاحب هذا

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 3/ 456.

(2) التحفة الاثنا عشرية: 278.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 266

الكتاب يبطل حديث هجر فاطمة الزهراء أبا بكر وأنّها لم تكلّمه إلي أن ماتت، يبطله ويردّه مع وجوده في الصحيحين.

وينقل القسطلاني في [إرشاد الساري في شرح البخاري ] «1»، وأيضاً ابن حجر المكي في كتاب [الصواعق ] «2»، ينقلان عن البيهقي أنّه ضعّف حديث الزهري الدالّ علي أنّ عليّاً عليه السّلام لم يبايع أبا بكر مدّة ستّة أشهر، فالبيهقي يضعّف هذا الحديث ويحكي غيره كالقسطلاني وابن حجر هذا التضعيف في كتابه، مع أنه موجود في الصحيحين.

وقد رأيتم أنّ الحافظ أبا الفرج ابن الجوزي الحنبلي أدرج حديث الثقلين في كتابه [العلل المتناهية في الأحاديث الواهية]، مع وجوده في صحيح مسلم، ومن هنا اعترض عليه غير واحد.

فيظهر: أنّ القضيّة تدور مدار مصالحهم، فمتي ما رأوا الحديث في صالحهم وأنّه ينفعهم في مذاهبهم، اعتمدوا عليه واستندوا إلي وجوده في الصحيحين، ومتي كان الحديث يضرّهم ويهدم أساساً من أُسس مذهبهم ومدرستهم، أبطلوا ذلك الحديث أو ضعّفوه مع وجوده في الصحيحين أو أحدهما.

وهذا ليس بصحيحٍ، وليس من دأب أهل العلم وأهل الفضل، وليس من دأب أصحاب الفكر وأصحاب العقيدة الذين يبنون فكرهم وعقيدتهم علي أُسس متينة، يلتزمون بها ويلتزمون بلوازمها.

وعندما نصل إلي محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة أو المناقشة في سنده، سنري أنّ عدّةً منهم يناقشون سند هذا الحديث أو يضعّفونه بصراحة، مع

__________________________________________________

(1) إرشاد الساري في شرح صحيح البخاري 6/ 363.

(2) الصواعق المحرقة: 90.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 267

وجوده في الصحيحين، فأين راحت قطعية صدور أحاديث الصحيحين؟ وما المقصود من الإصرار علي هذه القطعية؟

ونحن أيضاً لا نعتقد بقطعيّة صدور

أحاديث الصحيحين، ونحن أيضاً لا نعتقد بوجود كتاب صحيح من أوّله إلي آخره سوي القرآن الكريم.

لكن بحثنا معهم، وإنّما نتكلّم معهم علي ضوء ما يقولون وعلي أساس ما به يصرّحون.

فإذا جاء دور البحث عن سند حديث المنزلة، سترون أنّ عدّةً منهم من علماء الأصول ومن علماء الكلام يناقشون في سند حديث المنزلة ولا يسلّمون بصحّته، فيظهر أنّه ليس هناك قاعدة يلجأون إليها دائماً ويلتزمون بها دائماً، وإنّما هي أهواء يرتّبونها بعنوان قواعد، يذكرونها بعنوان أُسس، فيطبّقونها متي ما شاؤا ويتركونها متي ما شاؤا.

ولا بأس بذكر عدّة من ألفاظ حديث المنزلة في غير الصحيحين من الكتب المعروفة المشهورة، وفي كلّ لفظ أذكره توجد خصوصية أرجو أنْ لا تفوت عليكم، وأرجو أنْ تتأمّلوا فيها:

في [الطبقات لابن سعد]، يروي هذا الحديث بطرق، ومنها: بسنده عن سعيد بن المسيّب، وهو نفس الحديث الذي قرأناه في صحيح مسلم، فقارنوا بين لفظه في الطبقات ولفظه في صحيح مسلم. يقول سعيد:

قلت لسعد بن مالك- هو سعد بن أبي وقّاص-: إنّي أُريد أنْ أسألك عن حديث، وأنا أهابك أنْ أسألك عنه! قال: لا تفعل يا ابن أخي، إذا علمت أنّ عندي علماً فاسألني عنه ولاتهبني، فقلت: قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي حين خلّفه في المدينة في غزوة تبوك، فجعل سعد يحدّثه الحديث «1».

__________________________________________________

(1) طبقات ابن سعد 3/ 24.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 268

لماذا عندما يريدون أن يسألوا عن حديث يتعلّق بعلي وأهل البيت يهابون الصحابي أن يسألوه، أمّا إذا كان يتعلّق بغيرهم فيسألونه بكلّ انطلاق وبكلّ سهولة وبكلّ ارتياح؟

ويروي محمّد بن سعد في [الطبقات ] «1» بإسناده عن البراء بن عازب وعن زيد بن أرقم قالا:

لمّا كان عند غزوة جيش العسرة

وهي تبوك، قال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي بن أبي طالب: «إنّه لا بدّ أنْ أُقيم أو تقيم».

يظهر أنّ في المدينة في تلك الظروف حوادث، وهناك محاولات أو مؤامرات سنقرؤها في بعض الأحاديث الآتية، وكان لا بدّ أنْ يبقي في المدينة إمّا رسول اللَّه نفسه وإمّا علي ولا ثالث، أحدهما لابدّ أنْ يبقي ، وأمّا الغزوة أيضاً فلا بدّ وأنْ تتحقّق، فيقول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: «إنّه لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم»، فخلّفه.

فلمّا فَصَلَ رسول اللَّه غازياً قال ناس- وفي بعض الألفاظ: قال ناس من قريش، وفي بعض الألفاظ: قال بعض المنافقين- ما خلّفه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلّالشي ء كرهه منه، فبلغ ذلك عليّاً، فأتبع رسول اللَّه حتّي انتهي إليه، فقال له: «ما جاء بك يا علي؟» قال: لا يا رسول اللَّه، إلّاأنّي سمعت ناساً يزعمون أنّك إنّما خلّفتني لشي ء كرهته منّي، فتضاحك رسول اللَّه وقال: «يا علي أما ترضي أن تكون منّي كهارون من موسي إلّاأنّك لست بنبي؟» قال: بلي يا رسول اللَّه، قال: «فإنّه كذلك».

وفي رواية [سنن النسائي ] «2» قال الناس: قالوا ملّه، أي ملّ رسول اللَّه

__________________________________________________

(1) طبقات ابن سعد 3/ 24.

(2) السنن الكبري: كتاب الخصائص، ذكر خصائص أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه 5/ 44 رقم 8138 و 120 رقم 8429، فضائل الصحابة: فضائل علي رضي اللَّه عنه، 13.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 269

عليّاً وكره صحبته.

وفي رواية: قال علي لرسول اللَّه: زعمت قريش أنّك إنّما خلّفتني أنّك استثقلتني وكرهت صحبتي، وبكي علي، فنادي رسول اللَّه في الناس: «ما منكم أحد إلّاوله خاصة، يابن أبي طالب، أما ترضي أنْ تكون منّي بمنزلة

هارون من موسي إلّاأنّه لا نبي بعدي؟» قال علي: رضيت عن اللَّه عزّوجلّ وعن رسوله.

وإذا راجعتم [سيرة ابن سيّد الناس ] «1»، وكذا [سيرة ابن قيّم الجوزية] «2»، و [سيرة ابن إسحاق ] «3»، وأيضاً في بعض المصادر الأُخري : إنّ الذين قالوا ذلك كانوا رجالًا من المنافقين، ففي بعض الألفاظ: الناس، وفي بعض الألفاظ: قريش، وفي بعض الألفاظ: المنافقون.

ومن هنا يظهر أنّ في قريش أيضاً منافقين، وهذا مطلب مهم.

وفي [المعجم الأوسط] للطبراني عن علي عليه السّلام: إنّ النبي قال له:

«خلّفتك أنْ تكون خليفتي»، قلت: أتخلّف عنك يا رسول اللَّه؟ قال: «ألا ترضي أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه لا نبي بعدي» «4».

ففيه: «خلّفتك أنْ تكون خليفتي».

وروي السيوطي في [جامعه الكبير] «5» عن كتب جمع، منهم: ابن النجار البغدادي، وأبو بكر الشيرازي في الألقاب، والحاكم النيسابوري في كتابه الكني ، والحسن بن بدر- الذي هو من كبار الحفّاظ- في كتابه ما رواه الخلفاء، هؤلاء

__________________________________________________

(1) عيون الأثر في فنون المغازي والسير 2/ 294.

(2) زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 559- 560.

(3) سيرة ابن هشام (السيرة النبويّة) 2/ 519- 520.

(4) المعجم الأوسط 4/ 484 رقم 4248.

(5) الجامع الكبير 16/ 244 رقم 7818.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 270

يروون عن ابن عباس قال: قال عمر بن الخطّاب: كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب [لماذا كانوا يذكرون عليّاً؟ وبم كانوا يذكرونه؟ حتّي نهاهم عمر عن ذكره؟ أكانوا يذكرونه بالخير وينهاهم؟ قائلًا: كفّوا عن ذكر علي بن أبي طالب ] فإنّي سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول في علي ثلاث خصال لو كان لي واحدة منهنّ كان أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس:

كنت أنا وأبو بكر وأبو عبيدة بن الجرّاح

[هؤلاء الثلاثة هم أصحاب السقيفة من المهاجرين ] ونفر من أصحاب النبي، وهو متّكي ء [أي النبي ] علي علي بن أبي طالب، حتّي ضرب بيده علي منكبيه ثمّ قال: «يا علي أنت أوّل المؤمنين إيماناً وأوّلهم إسلاماً، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسي ، وكذب من زعم أنّه يحبّني ويبغضك».

وفي [تاريخ ابن كثير] «1»: «أو ما ترضي أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاالنبوّة».

وفرق بين عبارة «إلّا النبوّة» وبين عبارة «إلّا أنّك لست بنبي» و «إلّا أنّه لا نبي بعدي» فرق كثير بين العبارتين، يقول ابن كثير: «إسناده صحيح ولم يخرجوه».

وفي [تاريخ ابن كثير] أيضاً (2) في حديث معاوية وسعد: إنّ معاوية وقع في علي فشتمه [بنصّ العبارة] فقال سعد: واللَّه لأنْ تكون لي إحدي خلاله الثلاث أحبّ إليّ ممّا يكون لي ما طلعت عليه الشمس …، فيذكر منها حديث المنزلة.

إلّا أن الزرندي الحافظ يذكر نفس الحديث يقول: عن سعد: إنّ بعض الأُمراء قال له: ما منعك أنْ تسبّ أبا تراب («2»).

__________________________________________________

(1)

(- 2) البداية والنهاية، المجلد الرابع الجزء 7/ 340.

(2) نظم درر السمطين: 107.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 271

فأراد أنْ لا يذكر اسم معاوية محاولةً لحفظ ماء وجهه وماء وجههم.

وفي [تاريخ دمشق ] و [الصواعق المحرقة] وغيرهما: إنّ رجلًا سأل معاوية عن مسألة فقال: سل عنها عليّاً فهو أعلم.

قال الرجل: جوابك فيها أحبّ إليّ من جواب علي.

قال معاوية: بئس ما قلت، لقد كرهت رجلًا كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يغرّه بالعلم غرّاً، ولقد قال له: أنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلّالا نبي بعدي، وكان عمر إذا أشكل عليه شي ء أخذ منه» «1».

وتلاحظون: أنّ في كلّ لفظ من هذه الألفاظ التي انتخبتها خصوصية، لابدّ من النظر

إليها بعين الدقّة والإعتبار.

وانتهت الجهة الأُولي ، أي جهة البحث عن السند والرواة.

__________________________________________________

(1) ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 1/ 396 رقم 410، الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة 3/ 162، مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام: 34 رقم 52.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 273

دلالات حديث المنزلة … ص: 273

اشارة

الجهة الثانية: في دلالات حديث المنزلة، وكما أشرنا من قبل، دلالات حديث المنزلة متعددة، وكلّ واحدة منها تكفي لأن تكون بوحدها دليلًا علي إمامة أمير المؤمنين.

وقبل كلّ شي ء لابدّ أنْ نري ما هي منازل هارون من موسي حتّي يكون علي نازلًا من النبي منزلة هارون من موسي ؟ لنرجع إلي القرآن الكريم ونستفيد من الآيات المباركات منازل لهارون:

المنزلة الاولي: النبوّة … ص: 273

قال تعالي : «وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا» «1».

المنزلة الثانية: الوزارة … ص: 273

قال تعالي عن لسان موسي : «وَاجْعَلْ لي وَزيرًا مِنْ أَهْلي* هارُونَ أَخي» «2»

، وفي سورة الفرقان قال تعالي : «وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَي الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ

__________________________________________________

(1) سورة مريم (19): 53.

(2) سورة طه (20): 29.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 274

وَزيرًا» «1»

، وفي سورة القصص عن لسان موسي : «وَأَخي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنّي لِسانًا فَأَرْسِلْهُ مَعي رِدْءًا يُصَدِّقُني» «2».

المنزلة الثالثة: الخلافة … ص: 274

قال تعالي : «وَقالَ مُوسي لأَخيهِ هارُونَ اخْلُفْني في قَوْمي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِدينَ» «3».

المنزلة الرابعة: القرابة القريبة … ص: 274

والمنزلة الخامسة: الشركة في الأمر … ص: 274

قال تعالي عن لسان موسي : «وَاجْعَلْ لي وَزيرًا مِنْ أَهْلي* هارُونَ أَخي* اشْدُدْ بِهِ أَزْري* وَأَشْرِكْهُ في أَمْري» «4».

ورسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يخبر في حديث المنزلة عن ثبوت جميع هذه المنازل القرآنية لهارون وغيرها كما سنقرأ، عن ثبوتها جميعاً لعلي ما عدا النبوة، حيث أخرج رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم النبوة بعد شمول تلك الكلمة التي أطلقها، فهي تشمل النبوة إلّاأنّه أخرجها واستثناها استثناءً، لقيام الضرورة الدينيّة علي أنْ لا نبي بعده صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، ويبقي غير هذه المنزلة باقياً وثابتاً لعلي عليه السّلام، وبيان ذلك:

إنّ عليّاً عليه السّلام وإنْ لم يكن بنبي- وهذا هو الفارق الوحيد بينه وبين هارون في المراتب والمقامات والمنازل المعنوية الثابتة لهارون- إلّاأنّه عليه

__________________________________________________

(1) سورة الفرقان (25): 35.

(2) سورة القصص (28): 34.

(3) سورة الأعراف (7): 142.

(4) سورة طه (20): 31.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 275

السّلام يعرّف نفسه ويذكر بعض خصائصه وأوصافه في الخطبة القاصعة، نقرأ في [نهج البلاغة] يقول عليه السّلام:

«ولقد علمتم موضعي من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالقرابة القربية والمنزلة الخصيصة، وضعني في حجره وأنا ولد، يَضمّني إلي صدره ويكنفني في فراشه، ويمسّني جسده، ويشمّني عرفه، وكان يمضغ الشي ء ثمّ يلقمنيه، وما وجد لي كذبة بقول ولا خطلة في فعل، ولقد قرن اللَّه به صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم من لدن أنْ كان فطيماً أعظم ملك من ملائكته، يسلك به طريق المكارم ومحاسن أخلاق العالَم، ليله ونهاره، ولقد كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه عَلَما، ويأمرني بالإقتداء

به، ولقد كان يجاور في كلّ سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللَّه وخديجة وأنا ثالثهما».

لاحظوا هذه الكلمة: «أري نور الوحي والرسالة، وأشمّ ريح النبوّة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه، فقلت: يا رسول اللَّه ما هذه الرنّة؟

فقال: هذا الشيطان قد أيس من عبادته».

ثمّ لاحظوا ماذا يقول الرسول لعلي: «إنّك تسمع ما أسمع وتري ما أري ، إلّا أنّك لست بنبي ولكنّك وزير، وإنّك لعلي خير» «1».

أرجوا الإنتباه إلي ما أقول، لتروا كيف تتطابق الآيات القرآنيّة والأحاديث النبويّة وكلام علي في الخطبة القاصعة، إنّ عليّاً وإنْ لم يكن بنبي لكنّه رأي نور الوحي والرسالة وشمّ ريح النبوّة.

أترون أنّ هذا المقام وهذه المنزلة تعادلها منازل جميع الصحابة من أوّلهم

__________________________________________________

(1) نهج البلاغه 2/ 182 بشرح محمّد عبده.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 276

إلي آخرهم في المنازل الثابتة لهم؟ تلك المنازل لو وضعت في كفّة ميزان، ووضعت هذه المنزلة في كفّة، أترون أنّ تلك المنازل كلّها وتلك المناقب، تعادل هذه المنقبة الواحدة؟ فكيف وأنْ يُدّعي أنَّ شيئاً من تلك المناقب المزعومة يترجّح علي هذه المنقبة؟

علي لم يكن بنبي، لكنّه شمّ ريح النبوّة. لكنْ ما معني هذه الكلمة بالدقّة؟

لا نتوصّل إلي معناها، وعقولنا قاصرة عن درك هذه الحقيقة، وأيضاً: لم يكن علي نبيّاً إلّاأنّه كان وزيراً لرسول اللَّه الذي هو أشرف الأنبياء وخير المرسلين وأكرمهم وأعظمهم وأقربهم إلي اللَّه سبحانه وتعالي ، وأين هذه المرتبة من مرتبة هارون بالنسبة إلي موسي الذي طلب أن يكون هارون وزيراً له، إلّاأنّ كلامنا الآن في دوران الأمر بين علي وأبي بكر.

ومن الأحاديث الشاهدة بوزارة علي عليه السّلام لرسول اللَّه، الحديث الذي ذكرناه في يوم

الدار، يوم الإنذار، حيث قال: «فأيّكم يوآزرني علي أمري هذا؟» قال علي: أنا يا نبي اللَّه أكون وزيرك عليه، فقال: «أنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم فاسمعوا له وأطيعوا» «1».

وفي رواية الحلبي في [سيرته ]: «إجلس، فأنت أخي ووزيري ووصيّي ووارثي وخليفتي من بعدي» «2».

وفي [تاريخ دمشق ]، و [المرقاة]، و [الدر المنثور]، و [الرياض النضرة]، يروون عن ابن مردويه وعن ابن عساكر وعن الخطيب البغدادي وغيرهم، عن أسماء بنت عميس قالت:

سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله يقول: «اللهمّ إنّي أقول كما قال أخي

__________________________________________________

(1) تفسير البغوي 4/ 278، ومصادر أُخري.

(2) السيرة الحلبيّة 1/ 461.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 277

موسي : اللهمّ اجعل لي وزيراً من أهلي أخي عليّاً، اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً ونذكرك كثيراً، إنّك كنت بنا بصيراً» «1».

هذه دلالات حديث المنزلة، لاحظوا كيف تتطابق الآيات والروايات وكلام علي بالذات؟

إنّ لعلي عليه السّلام موضعاً من رسول اللَّه يقول: «قد علمتم موضعي من رسول اللَّه بالقرابة القريبة»، هذه القرابة القريبة في قصّة موسي وهارون قول موسي : «وَاجْعَلْ لي وَزيرًا مِنْ أَهْلي* هارُونَ أَخي»، ومن هنا نري- كما سيأتي- أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله قد ذكر حديث المنزلة في قصة المؤاخاة بينه وبين علي عليهما الصلاة والسلام.

مضافاً إلي قوله تعالي : «وَأُولُوا اْلأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلي بِبَعْضٍ في كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنينَ وَالْمُهاجِرينَ» «2»

. فإنّ الأوصاف الثلاثة هذه- أي الإيمان والهجرة وكونه ذا رحم- لا تنطبق إلّاعلي علي.

فيظهر أنّ القرابة القريبة هي جزء من مقوّمات الخلافة والولاية بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

وقد ذكر الفخر الرازي بتفسير الآية المذكورة «3» استدلال محمّد بن عبداللَّه بن الحسن بن الحسن المجتبي عليه السّلام بالآية المباركة

هذه، في كتاب له إلي المنصور العباسي، استدلّ بهذه الآية علي ثبوت الأولوية لعلي، وأجابه المنصور بأنّ العباس أولي بالنبي من علي، لأنّه عمّه وعلي ابن عمّه، ووافق الفخر الرازي- الذي ليس من العباسيين- في دعواهم هذه، لا حبّاً للعباسيين، وإنّما …

__________________________________________________

(1) السيرة الحلبيّة 1/ 461.

(2) سورة الأحزاب (33): 6.

(3) تفسير الرازي 15/ 213- 214.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 278

والفخر الرازي نفسه يعلم بأنّ العباس عمّ النبي ليس من المهاجرين، إذ لا هجرة بعد الفتح، فكان علي هو المؤمن المهاجر ذا الرحم، ولو فرضنا أنّ في الصحابة غير علي من هو مؤمن ومهاجر، والإنصاف وجود كثيرين منهم كذلك، إلّا أنّهم لم يكونوا بذي رحم، ويبقي العباس وقد عرفتم أنّه ليس من المهاجرين، فلا تنطبق الآية إلّاعلي علي.

وهذا وجه استدلال محمّد بن عبداللَّه بن الحسن في كتابه إلي المنصور، وقد كان الرجل عالماً فاضلًا عارفاً بالقرآن الكريم، والفخر الرازي في هذا الموضع يوافق العباسيين والمنصور العباسي، ويخالف الهاشميين والعلويين حتّي لا يمكن- بزعمه- الاستدلال بالآية علي إمامة علي أمير المؤمنين.

فقوله تعالي: «وَأُولُوا اْلأَرْحامِ» دليل أخر علي إمامة علي، ومن هنا يظهر: أنّ استدلال علي عليه السّلام وذكره القرابة القريبة كانت إشارة ما في هذه الناحية من الدخل في مسألة الإمامة والولاية.

مضافاً إلي أنّ العباس قد بايع عليّاً عليه السّلام في الغدير وبقي علي بيعته تلك، ولم يبايع غير أمير المؤمنين، بل في قضايا السقيفة جاء إلي علي، وطلب منه تجديد البيعة، فيسقط العباس عن الإستحقاق للإمامة والخلافة بعد رسول اللَّه، ولو تتذكرون، ذكرت لكم في الليلة الأُولي أنه كان هناك قول بإمامة العباس، لكنّه قول لا يستحق الذكر، والبحث عنه عديم الجدوي .

ومن منازل هارون: … ص: 278

أعلميّته بعد موسي من

جميع بني إسرائيل ومن كلّ تلك الأُمّة، وقد ثبتت المنزلة هذه بمقتضي تنزيل علي منه بمنزلة هارون من موسي لأمير المؤمنين عليه السّلام. وإلي الأعلميّة هذه يشير علي عليه السّلام في الأوصاف التي ذكرها لنفسه

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 279

في هذه الخطبة وفي غير هذه الخطبة.

في هذه الخطبة بقول: «كنت أتّبعه اتّباع الفصيل أثر أُمّه، يرفع لي في كلّ يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالإقتداء به».

ويقول عليه السّلام في خطبة أُخري بعد أنْ يذكر العلم بالغيب يقول: «فهذا علم الغيب الذي لا يعلمه أحد إلّااللَّه، وما سوي ذلك [أي ما سوي ما اختصّ به سبحانه وتعالي لنفسه ] فعلم علّمه اللَّه نبيّه، فعلّمنيه ودعا لي بأنْ يعيه صدري وتضْطَمّ عليه جوانحي».

وأيضاً: تظهر أعلميّته عليه السلام من قوله في نفس هذه الخطبة عن رسول اللَّه حيث خاطبه بقوله: «إنّك تسمع ما أسمع وتري ما أري ».

وأيضاً: رسول اللَّه يقول في علي: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها، فمن أراد المدينة فليأتها من بابها».

وهذا الحديث هو الآخر من الأحاديث الدالة علي إمامة أمير المؤمنين سلام اللَّه عليه، وكان ينبغي أن نخصّص ليلة للبحث عنه، لنتعرّض هناك لأسانيده ودلالاته، ولنتعرضّ أيضاً لمحاولات القوم في ردّه وإبطاله، وما ارتكبوه من الكذب والدسّ والتزوير والتحريف.

أمّا ثبوت الأعلميّة لهارون بعد موسي ، فراجعوا- إنْ شئتم- التفاسير في قوله تعالي : «قالَ إِنَّما أُوتيتُهُ عَلي عِلْمٍ عِنْدي» «1»

عن لسان قارون، ففي ذيل هذه الآية، تجدون التصريح بأعلميّة هارون من جميع بني إسرائيل إلّاموسي ، فراجعوا [تفسير البغوي ] «2»، و [تفسير الجلالين ] «3»، وغير هذين من التفاسير.

__________________________________________________

(1)

سورة القصص (28): 78.

(2) تفسير البغوي 4/ 357.

(3) تفسير الجلالين 2/ 201.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 280

من دلالات حديث المنزلة العصمة: … ص: 280

وهل من شك في ثبوت العصمة

لهارون؟ وقد نزّل رسول اللَّه أمير المؤمنين منزلة هارون، ولم يدّع أحد من الصحابة العصمة، كما لم يدّعها أحد لواحد منهم سوي أمير المؤمنين عليه السّلام.

وحينئذ، هل يجوّز عاقل أن يكون الإمام بعد رسول اللَّه غير معصوم مع وجود المعصوم؟

وهل يجوّز العقل أنْ يجعل غير المعصوم واسطة بين الخلق والخالق مع وجود المعصوم؟

وهل يجوز عقلًا وعقلاءاً الإقتداء بغير المعصوم مع وجود المعصوم؟

وإلي مقام العصمة يشير علي عليه السّلام لمّا يقول ويصّرح بأنّه كان يري نور الوحي والرسالة ويشمّ ريح النبوة.

وهل يعقل أن يترك مثل هذا الشخص، ويُقتدي بمن ليس له أقلّ القليل من هذه المنزلة؟

ولا يخفي عليكم أنّ الذي كان يسمعه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وكان يراه، هو أسمي وأجلّ وأرقي وأرفع ممّا كان يراه ويسمعه غيره من الأنبياء السابقين عليه، فكان علي يسمع ويري ما يسمع ويري النبي، وعليكم بالتأمّل التام في هذا الكلام.

من خصائص هارون ومنازله: … ص: 280

أنّ اللَّه سبحانه وتعالي أحلّ له ما لم يكن حلالًا لغيره في المسجد الأقصي ، وبحكم حديث المنزلة يتمّ هذا الأمر لعلي وأهل بيته بالخصوص، ويكون هذا من

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 281

جملة ما يختصّ به أمير المؤمنين وأهل البيت الطاهرون ويميّزهم عن الآخرين، فيكونون أفضل- من هذه الناحية أيضاً- من غيرهم.

والشواهد لهذا التنزيل في الأحاديث كثيرة، ومن ذلك: حديث سدّ الأبواب، وهذه ألفاظ تتعلّق بهذا الموضوع في السنّة النبويّة الشريفة المتفق عليها بين الفريقين، وأنا أنقل لكم من بعض المصادر المعتبرة عند أهل السنّة:

أخرج ابن عساكر في تاريخه، وعنه السيوطي في [الدر المنثور] «1»: إنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم خطب فقال: «إنّ اللَّه أمر موسي وهارون أن يتبوّءا لقومهما بيوتاً، وأمرهما أنْ لا يبيت في

مسجدهما جنب، ولا يقربوا فيه النساء، إلّاهارون وذريّته، ولا يحلّ لأحدٍ أن يقرب النساء في مسجدي هذا ولا بيت فيه جنب إلّاعلي وذريّته».

وفي [مجمع الزوائد] عن علي عليه السّلام قال: أخذ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بيدي فقال: «إنّ موسي سأل ربّه أنْ يطهّر مسجده بهارون، وإنّي سألت ربّي أنْ يطهّر مسجدي بك وبذريّتك»، ثمّ أرسل إلي أبي بكر أنْ سدّ بابك، فاسترجع [أي قال: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون ] ثمّ قال: سمعٌ وطاعة، فسدّ بابه، ثمّ أرسل علي عمر، ثمّ أرسل إلي العباس بمثل ذلك، ثمّ قال رسول اللَّه: «ما أنا سددت أبوابكم وفتحت باب علي، ولكن اللَّه فتح باب علي وسدّ أبوابكم» «2».

وفي [مجمع الزوائد] و [كنز العمال ] وغير هما- واللفظ للأوّل- لمّا أخرج أهل المسجد وترك عليّاً قال الناس في ذلك [أي تكلّموا في ذلك واعترضوا] فبلغ النبي صلّي اللَّه علي وآله فقال: «ما أنا أخرجتكم من قبل نفسي، ولا أنا تركته، ولكنّ

__________________________________________________

(1) ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 1/ 296، الدرّ المنثور 4/ 383.

(2) مجمع الزوائد 9/ 114.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 282

اللَّه أخرجكم وتركه، إنّما أنا عبد مأمور، ما أُمرت به فعلت، إنّ أتّبع إلّاما يوحي إليّ» «1».

وفي كتاب [المناقب ] لأحمد بن حنبل، وكذا في [المسند]، و [المستدرك ] للحاكم، وفي [مجمع الزوائد]، و [تاريخ دمشق ]، وغيرها «2» عن زيد بن أرقم قال:

كانت لنفر من أصحاب رسول اللَّه أبواب شارعة في المسجد، فقال يوماً: «سدّوا هذه الأبواب إلّاباب علي»، قال: فتكلّم في ذلك ناسٌ، فقام رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فحمد اللَّه وأثني عليه ثمّ قال: «أمّابعد، فإني أمرت بسدّ هذه الأبواب غير باب علي،

فقال فيه قائلكم، واللّه ما سددت شيئاً ولا فتحته، ولكن أُمرت بشي ء فاتّبعته».

وهذا الحديث موجود في [صحيح الترمذي ]، وفي [الخصائص ] للنسائي «3»، وغيرهما من المصادر أيضاً.

ولذا كانت قضية سدّ الأبواب من جملة موارد قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «علي منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه لا نبي بعدي».

وإلي الآن ظهرت دلالة حديث المنزلة علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام:

من جهة ثبوت العصمة له.

ومن جهة ثبوت الأفضلية له.

ومن جهة ثبوت بعض الخصائص الأُخري الثابثة لهارون.

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 115، كنز العمّال 11/ 600 رقم 32887.

(2) فضائل الإمام علي عليه السّلام: 72 رقم 109، مسند أحمد 5/ 496 رقم 18801، المستدرك علي الصحيحين 3/ 125، مجمع الزوائد 6/ 114، ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 1/ 279- 280 رقم 324، الرياض النضرة 3/ 158.

(3) خصائص أمير المؤمنين عليه السلام: 73- 74.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 283

دلالة حديث المنزلة … ص: 283

علي خلافة أمير المؤمنين عليه السّلام … ص: 283

وننتقل الآن إلي دلالة هذا الحديث علي خصوص الخلافة والولاية، فيكون نصّاً في المدّعي .

ولا ريب في أنّ من منازل هارون: خلافته لموسي عليه السّلام، قال تعالي عن لسان موسي يخاطب هارون: «اخْلُفْني في قَوْمي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبيلَ الْمُفْسِدينَ» «1».

فكان هارون خليفة لموسي ، وعلي بحكم حديث المنزلة خليفة لرسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فيكون هذا الحديث نصّاً في الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول اللَّه.

ومن جملة آثار هذه الخلافة: وجوب الطاعة المطلقة، ووجوب الإنقياد المطلق، وهما من أحكام الإمامة والولاية العامة.

ولا يتوهمنّ أحدٌ: بأنّ وجوب إطاعة هارون ووجوب الإنقياد المطلق له، كان من آثار وأحكام نبوّته لا من آثار وأحكام خلافته عن موسي ، حتّي لا تجب الإطاعة المطلقة لعلي، لأنّه لم يكن نبيّاً.

__________________________________________________

(1) سورة الأعراف (7): 142.

محاضرات

في الاعتقادات، ج 1، ص: 284

هذا التوهم باطل ومردود، وإنْ وقع في بعض الكتب من بعض علمائهم؛ وذلك: لأنّ وجوب الإطاعة المطلقة إنْ كان من آثار النبوّة لا من آثار الخلافة، إذن لم يثبت وجوب الإطاعة للمشايخ الثلاثة، لأنّهم لم يكونوا أنبياء، وأيضاً: لم يثبت وجوب الإطاعة المطلقة لعلي في المرتبة الرابعة التي يقولون بها له عليه السّلام، إذ لم يكن حينئذاك نبيّاً، بل هو خليفة.

فإذن، وجوب الإطاعة لهارون كان بحكم خلافته عن موسي لا بحكم نبوّته، وحينئذ تجب الإطاعة المطلقة لعلي عليه السّلام بحكم خلافته عن رسول اللَّه، وبحكم تنزيله من رسول اللَّه منزلة هارون من موسي .

فالمناقشة من هذه الناحية مردودة.

وإذا ما رجعنا إلي الكتب المعنيّة بمثل هذه البحوث، لرأينا تصريح علمائهم بدلالة حديث المنزلة علي خلافة علي عليه السّلام.

فراجعوا مثلًا كتاب [التحفة الإثنا عشرية] الذي وضعه مؤلفه ردّاً علي الشيعة الإمامية الإثنا عشرية، فإنّه يعترف هناك بدلالة حديث المنزلة علي الخلافة، بل يُضيفُ أنّ إنكار هذه الدلالة لا يكون إلّامن ناصبي ولا يرتضي ذلك أهل السنة، لأنّ الكلام في ثبوت هذه الخلافة بعد رسول اللَّه بلا فصل، أمّا أصل ثبوت الخلافة لأمير المؤمنين بعد رسول اللَّه بحكم هذا الحديث فلا يقبل الإنكار، إلّاإذا كان من النواصب المعاندين لأمير المؤمنين عليه السّلام، وهذا ما نصّ عليه صاحب التحفة الإثنا عشرية.

يقول هذا العالم الحنفي هذا الكلام ويعترف بهذا المقدار من الدلالة «1».

إلّا أنّك لو راجعت كتب الحديث وشروح الحديث، لرأيتهم يناقشون حتّي

__________________________________________________

(1) التحفة الاثنا عشرية: 211.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 285

في أصل دلالة حديث المنزلة علي الخلافة والولاية بعد رسول اللَّه، أي: تري في كتبهم ما ينسبه صاحب التحفة إلي النواصب، ويقولون بما يقوله النواصب.

فراجعوا مثلًا

شرح حديث المنزلة في كتاب فتح الباري لابن حجر العسقلاني الحافظ، وشرح صحيح مسلم للحافظ النووي، والمرقاة في شرح المشكاة، تجدوهم في شرح حديث المنزلة يناقشون في دلالة هذا الحديث علي أصل الإمامة والولاية، وهذا ما كان صاحب التحفة ينفيه عن أهل السنّة وينسبه إلي النواصب.

أقرأ لكم عبارة النووي في [شرح صحيح مسلم ]، ونفس العبارة أو قريب منها موجود في الكتب التي أشرت إليها وغيرها أيضاً، يقول النووي «1»: وليس فيه [أي: في هذا الحديث ] دلالة لاستخلافه [أي: استخلاف علي ] بعده [أي: بعد الرسول ]، لأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله إنّما قال لعلي حين استخلفه علي المدينة في غزوة تبوك [أي: إنّ هذا الحديث وارد في مورد خاص ].

يقول: ويؤيّد هذا أنّ هارون المشبّه به لم يكن خليفة بعد موسي ، بل توفي في حياة موسي قبل وفاة موسي بنحو أربعين سنة علي ما هو المشهور عند أهل الأخبار والقصص.

قالوا: وإنّما استخلف موسي هارون حين ذهب لميقات ربّه للمناجاة، فكانت الخلافة هذه خلافة موقتة، وكانت في قضية خاصة محدودة، وليس فيها أي دلالة علي الخلافة بالمعني المتنازع فيه أصلًا.

وهل هذا إلّانفس الكلام الذي يأبي أن يلتزم به مثل صاحب التحفة، فينسبه إلي النواصب؟

__________________________________________________

(1) شرح النووي لصحيح مسلم: المجلد الثامن الجزء 15/ 174.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 286

وأمّا ما يقوله ابن تيميّة وغيره من أصحاب الردود علي الشيعة الإماميّة، فسنذكر مقاطع من عباراتهم، لتعرفوا من هو الناصبي، وتعرفوا النواصب أكثر وأكثر.

وإلي هنا بيّنا وجه دلالة حديث المنزلة علي الخلافة والإمامة والولاية بعد رسول اللَّه بالنص، وأنّ صاحب التحفة لا ينكر هذه الدلالة، وإنّما يقول بأنّ الدلالة علي الإمامة بلا فصل أوّل الكلام، لأن النزاع والكلام في دلالة الحديث

علي الإمامة بعد رسول اللَّه مباشرة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 287

محاولات القوم في ردّ حديث المنزلة … ص: 287

اشارة

وحينئذ ندخل في الجهة الثالثة من جهات بحثنا عن حديث المنزلة، أي في المناقشات العلمية، وفي محاولات القوم ردّ هذا الحديث وإبطاله.

أوّلًا: المناقشات العلمية … ص: 287

اشارة

ونحن علي استعداد تام لقبول أيّ مناقشة إنْ كانت علمية، وعلي أُسس متينة وعلي القواعد والموازين المقررّة في كيفيّة البحث والمناظرة. ويتلخّص ما ذكروه في مقام دلالة هذا الحديث في المناقشات الثلاثة التالية:

المناقشة الأُولي : … ص: 287

إنّ هذا الحديث لا يدلّ علي عموم المنزلة، وحينئذ تتمّ المشابهة بين علي وهارون بوجه شبهٍ واحد، ويكفي ذلك في صحّة الحديث، أمّا أنْ يكون علي نازلًا من رسول اللَّه منزلة هارون من موسي بجميع منازل هارون فلا نوافق علي هذا.

المناقشة الثانية: … ص: 287

إنّ هذه الخلافة كانت خلافة موقتةً في ظرف خاص، وزمان محدود، وفي حياة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما كانت خلافة هارون لموسي في حياة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 288

موسي عندما ذهب لمناجاة ربّه، ويؤيّد ذلك موت هارون في حياة موسي ، فأين الخلافة بالمعني المتنازع فيه؟

المناقشة الثالثة: … ص: 288

إنّ حديث المنزلة إنّما ورد في خصوص غزوة تبوك، وإنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال هذا الكلام عندما خرج إلي تلك الغزوة وترك عليّاً ليقوم بشؤون أهله وعياله ومن بقي في المدينة المنوّرة، فالقضيّة خاصة وحديث المنزلة إنّما ورد في هذه القضية المعيّنة.

ولابدّ من الإجابة عن هذه المناقشات واحدة واحدة:

الجواب عن المناقشة الأُولي : … ص: 288

والمناقشة الأُولي كانت تتلخّص في نفي عموم المنزلة، فنقول في الجواب:

إنّ الحديث يشتمل علي لفظ وهو اسم جنس مضاف إلي عَلَم قال: «أنت منّي بمنزلة هارون»، فكلمة المنزلة اسم جنس مضاف إلي علم وهو هارون، ثمّ يشتمل الحديث علي استثناء «إلّا أنّه لا نبي بعدي»، فالكلام مشتمل علي اسم جنس مضاف إلي علم، ومشتمل علي إستثناء باللفظ الذي ذكرناه، هذا متن الحديث.

ولو رجعناإلي كتب علم أُصول الفقه، وكتب علم البلاغة والأدب، لوجدنا العلماء ينصّون علي أنّ الإستثناء معيار العموم، وينصّون علي أنّ من ألفاظ العموم اسم الجنس المضاف، فأي مجال للمناقشة؟ اسم الجنس المضاف «بمنزلة هارون» من صيغ العموم، والإستثناء أيضاً معيار العموم، فيكون الحديث نصّاً في العموم، إذْ ليس في الحديث لفظ أخر، فلفظه: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 289

إلّا أنّه لا نبي بعدي»، وحينئذ يسقط الإشكال وتبطل المناقشة.

وهذه عبارة ابن الحاجب الذي هو من أئمّة علم الأُصول ومن أئمّة علم النحو الصرف وعلوم الأدب، يقول في كتاب [مختصر الأُصول ]- وهو المتن الذي كتبوا عليه الشروح والتعاليق الكثيرة، وكان يدرّس في الحوزات العلمية-: ثمّ إنّ الصيغة الموضوعة له- أي للعموم- عند المحققين هي هذه: أسماء الشرط والإستفهام، والموصولات، الجموع المعرفة تعريف جنس لا عهد، واسم الجنس معرفاً تعريف جنس أو مضافاً «1».

وإن شئتم أكثر من هذا، فراجعوا

كتابه [الكافية في علم النحو] بشرح المحقق الجامي المسمّي ب (الفوائد الضيائيّة)، وهو أيضاً كان من الكتب الدراسيّة إلي هذه الأواخر.

وراجعوا من كتب الأُصول أيضاً [كتاب المنهاج ] للقاضي البيضاوي وشروحه.

وأيضاً: راجعوا [فواتح الرحموت في شرح مسلّم الثبوت ]، الذي هو من كتب علم أُصول الفقه المعتبرة المشهورة عند القوم.

وراجعوا من الكتب الأدبية كتاب [الأشباه والنظائر] للسيوطي.

وراجعوا من كتب علم البلاغة [المطوّل في شرح التلخيص ] و [مختصر المعاني ] في شرح التلخيص للتفتازاني، هذين الكتابين اللذين يدرّسان في الحوزات العلمية.

وهكذا غير هذه الكتب المعنية بعلم أُصول الفقه وعلم النحو والبلاغة.

وأمّا الإستثناء، فقد نصّ أئمّة علم أُصول الفقه كذلك كما في كتاب [منهاج الوصول إلي علم الأُصول ] للقاضي البيضاوي، وفي شروحه أيضاً، كشرح ابن إمام

__________________________________________________

(1) بيان المختصر: 111.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 290

الكاملية وغير هذا من الشروح، كلّهم ينصّون علي هذه العبارة يقولون: الإستثناء معيار العموم.

فكلّ ما صحّ الإستثناء منه ممّا لا حصر فيه فهو عام، والحديث يشتمل علي الإستثناء.

وقد يقال: لابدّ من رفع اليد عن العموم، بقرينة اختصاص حديث المنزلة بغزوة تبوك، وإذا قامت القرينة أو قام المخصّص سقط اللّفظ عن الدلالة علي العموم، فيكون الحديث دالّاً علي استخلافه ليكون متولّياً شؤون الصبيان والنساء والعجزة- بتعبير ابن تيميّة- الباقين في المدينة المنوّرة لا أكثر من هذا.

لكن يردّ هذا الإشكال وهذه الدعوي ، ورود حديث المنزلة في مواطن عديدة غير تبوك، كما سنقرأ.

وقد يقال أيضاً: إنّ الإستثناء إنّما يدلّ علي العموم إنْ كان متّصلًا، وهذا الإستثناء منقطع، لأنّ الجملة المستثناة جملة خبرية، ولا يمكن أنْ تكون الجملة الخبرية استثناؤها استثناءً متصلًا.

وهذه مناقشة علمية ولابدّ وأنكم درستم هذه القاعدة الأدبيّة في الحوزة العلمية، فهذا وجه للإشكال وجيه، ذكره صاحب [التحفة الإثنا

عشرية] «1»، ولو تمّ سقط الإستدلال بعموم الإستثناء.

ولكن عندما نراجع ألفاظ الحديث، نجد فيها مجي ء كلمة «النبوّة» مستثناة بعد «إلّا» وليس هناك جملة خبرية، وسند هذا الحديث معتبر، وممّن نصّ علي صحّته بهذا اللفظ: هو الحافظ ابن كثير الدمشقي في كتابه [البداية والنهاية] «2».

__________________________________________________

(1)

التحفة الإثنا عشرية: 211.

(2) البداية والنهاية، المجلّد 4 الجزء 7/ 340.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 291

علي أنّ من المقرّر عندهم في علم الأُصول وفي علم البلاغة أيضاً: إنّ الأصل في الإستثناء هو الإتصّال، ولا ترفع اليد عن هذا الأصل إلّابدليل أو قرينة، وأراد صاحب التحفة أن يجعل الجملة الخبرية المستثناة قرينة، وقد أجبنا عن ذلك بمجي ء المستثني إسماً لا جملة خبريّة.

ولو أردتم أن تطّلعوا علي تصريحاتهم: بأنّ الأصل في الإستثناء هو الإتّصال لا الانقطاع، فراجعوا كتاب [المطوّل ]، هذا الكتاب الموجود بأيدينا، الذي ندرسه وندرّسه في الحوزة العلميّة «1».

وأيضاً يمكنكم مراجعة كتاب [كشف الأسرار في شرح أُصول البزدوي ] «2» للشيخ عبدالعزيز البخاري الذي هو من مصادرهم الأُصولية.

كما بإمكانكم مراجعة كتاب [مختصر الأُصول لابن الحاجب ] «3» أيضاً، وهو ينصّ علي هذا.

بل لو راجعتم شروح الحديث، لوجدتم الشرّاح من المحدّثين أيضاً ينصّون علي كون الإستثناء هذا متّصلًا لا منقطعاً، فراجعوا عبارة القسطلاني في [إرشاد الساري ] «4»، وراجعوا أيضاً [فيض القدير في شرح الجامع الصغير].

إذن، سقطت المناقشة الأُولي ، وتمّت دلالة الحديث علي عموم المنزلة، وهذه البحوث بحوث تخصصيّة، أرجوا الإلتفات إليها وتذكّروا ما درستموه من القواعد العلمية المفيدة في مثل هذه المسائل.

__________________________________________________

(1) المطوّل: 204- 224.

(2) كشف الأسرار 3/ 178 باب بيان التغير.

(3) بيان المختصر: 246.

(4) ارشاد الساري 6/ 117- 118.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 292

الجواب عن المناقشة الثانية: … ص: 292

والمناقشة الثانية كان ملخصها: إنّ الإستخلاف هذا كان في قضية معيّنة،

وفي حياة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، كما أنّ استخلاف هارون كان في حياة موسي ، وقد مات هارون قبل موسي ، وإذن، لا دلالة علي الإمامة والخلافة بالمعني المتنازع فيه.

هذا الإشكال طرحه كثيرون، منهم: ابن حجر العسقلاني والقسطلاني والقاري وغيرهم من كبار المحدّثين، والمتكلّمون أيضاً طرحوه في كتبهم الكلاميّة.

مع ابن تيمية: … ص: 292

بل لو رجعتم إلي [منهاج السنّة] لوجدتم عبارات ابن تيميّة مشحونة بالبغض والعداءو التنقيص والطعن في علي عليه السّلام، لأقرأ لكم بعض عباراته، يقول:

كان النبي كلّما سافر في غزوة أو عمرة أو حجّ، يستخلف علي المدينة بعض الصحابة، حتّي أنّهم ذكروا استخلاف رسول اللَّه ابن أم مكتوم في بعض الموارد، ولا يدّعي لابن ام مكتوم مقام لاستخلاف النبي إيّاه في تلك الفترة.

يقول ابن تيميّة: فلمّا كان في غزوة تبوك، لم يأذن في التخلّف عنها وهي آخر مغازيه، ولم يجتمع معه الناس كما اجتمعوا معه فيها، أي في المغازي الأُخري ، فلم يتخلّف عنه إلّاالنساء والصّبيان أو من هو معذور لعجزه عن الخروج أو من هو منافق، ولم يكن في المدينة رجال من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم، كما كان يستخلف عليهم في كلّ مرّة، لقد كان الباقون عجزة وأطفال وصبيان ونسوان، هؤلاء لم يكن حاجة لأنْ يستخلف عليهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم رجلًا مهمّاً وشخصيّةً من شخصيّاته الملتفّين حوله، بل كان هذا الإستخلاف

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 293

أضعف من الإستخلافات المعتادة منه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

أي استخلاف علي في تبوك كان أضعف من استخلاف ابن أُم مكتوم في بعض موارد خروجه من المدينة المنوّرة.

يقول: لأنّه لم يبق في المدينة رجال كثيرون من المؤمنين أقوياء يستخلف عليهم، فكان كلّ استخلاف قبل هذا يكون علي أفضل ممّن

استخلف عليه عليّاً، فلهذا خرج إليه علي يبكي ويقول: أتخلّفني مع النساء و الصبيان؟ فبيّن له النبي أنّي إنّما استخلفتك لأمانتك عندي، وأنّ الإستخلاف ليس بنقصٍ ولا غضّ،، فإنّ موسي استخلف هارون علي قومه، والملوك وغيرهم إذا خرجوا في مغازيهم أخذوا معهم من يعظم انتفاعه به ومعاونته له، ويحتاجون إلي مشاورته والإنتفاع برأيه ولسانه ويده وسيفه، فلم يكن رسول اللَّه محتاجاً إلي علي في هذه الغزوة، حتّي يشاوره أو أن يستفيد من يده ولسانه وسيفه، فأخذ معه غيره، لأنّهم كانوا ينفعونه في هذه القضايا.

يقول: وتشبيه الشي ء بالشي ء يكون بحسب ما دلّ عليه السياق، ولا يقتضي المساواة في كلّ شي ء، ألا تري إلي ما ثبت بالصحيحين من قول النبي في حديث الأُساري لمّا استشار أبا بكر فأشار بالفداء، واستشار عمر فأشار بالقتل، قال:

سأُخبركم عن صاحبيكم، مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم، ومثلك يا عمر مثل نوح، فقوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لهذا: مثلك مثل إبراهيم وعيسي ، وقوله لهذا:

مثلك مثل نوح وموسي ، أعظم من قوله: أنت منّي بمنزلة هارون من موسي .

هذا كلام ابن تيميّة، أي: قطعة من كلامه، وإنّا لنسأل اللَّه سبحانه وتعالي أنْ يعامل هذا الرجل بعدله، وأن يجازيه بكلّ كلمة ما يستحقّه.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 294

وهنا ملاحظات مختصرة علي هذا الكلام: … ص: 294

أوّلًا: إذا لم يكن لعلي في هذا الإستخلاف فضل ومقام، وكان هذا الإستخلاف أضعف من استخلاف غيره من الإستخلافات السابقة، فلماذا تمنّي عمر أنْ يكون هذا الإستخلاف له؟ ولماذا تمنّي سعد بن أبي وقّاص أن يكون هذا الإستخلاف له؟

ثانياً: قوله: «إنّ عليّاً خرج يبكي … »، هذا كذب، علي خرج يبكي لعدم حضوره في تلك الغزوة، ولما سمعه من المنافقين، لا لأنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله

خلّفه في النساء والصبيان.

وبعبارة أُخري : قول علي لرسول اللَّه: أتخلّفني في النساء والصبيان، كان هذا القول قبل خروج رسول اللَّه في الغزوة، قبل أنْ يخرج، وبكاء علي وخروجه خلف رسول اللَّه والتقاؤه به وهو يبكي، كان بعد خروج رسول اللَّه، وإنّما خرج- وكان يبكي- لِما سمعه من المنافقين، لا لأنّ هذا الإستخلاف كان ضعيفاً، فالقول بأنّه لمّا استخلف مع النساء والصبيان جعل يبكي ويعترض علي رسول اللَّه لهذا الإستخلاف، افتراء عليه.

وثالثاً: ذكره الحديث الذي شبّه فيه رسول اللَّه أبا بكر بإبراهيم، وشبّه فيه عمر بنوح، وقوله: هذا الحديث في الصحيحين، هذا كذب، فليس هذا الحديث في الصحيحين، ودونكم كتاب البخاري ومسلم، ويشهد بذلك نفس كتاب منهاج السنّة، في هذه الطبعة الجديدة المحقّقة التي حقّقها الدكتور محمّد رشاد سالم، المطبوعة في السعوديّة في تسعة أجزاء، راجعوا عبارته هنا، إذْ يقول محقّقه في الهامش: إنّ هذا الحديث إنّما هو في مسند أحمد، ويقول محقّقه- أي محقّق المسند وهو الشيخ أحمد شاكر في الطبعة الجديدة-: هذا الحديث ضعيف.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 295

وهو أيضاً في مناقب الصحابة لأحمد بن حنبل، المطبوع في جزئين في السعودية أخيراً، فراجعوا لتروا المحقق يقول في الهامش: إنّ سنده ضعيف.

فالحديث ليس في الصحيحين، ليعارض به حديث المنزلة الموجود في الصحيحين، وإنّما هو في بعض الكتب، وينصّ المحققون في تعاليقهم علي تلك الكتب بضعف هذا الحديث.

وكأنّ ابن تيميّة ما كان يظنّ أن ناظراً ينظر في كتابه، وأنّه سيراجع الصحيحين، ليظهر كذبه ويتبيّن دجله.

وأمّا ما في كلامه من الطعن لأمير المؤمنين، فكما ذكرنا، نحيل الأمر إلي اللَّه سبحانه وتعالي ، وهو أحكم الحاكمين.

مع الأعور الواسطي: … ص: 295

ومثل كلمات ابن تيميّة كلمات يوسف الأعور الواسطي ، فله رسالة في الرد علي الشيعة،

يقول هذا الرجل:

لو سلّمنا دلالة حديث المنزلة علي الخلافة، فقد كان في خلافة هارون عن موسي فتنة وفساد وارتداد المؤمنين وعبادتهم العجل، وكذلك خلافة علي، لم يكن فيها إلّاالفساد، لم يكن فيها إلّاالفتنة، ولم يكن فيها إلّاقتل للمسلمين في وقعة الجمل وصفين.

وهذا كلام هذا الناصبي الخبيث.

وبعدُ، إذا لم يكن لاستخلاف أمير المؤمنين عليه السّلام في تبوك قيمة، ولم يكن له هذا الإستخلاف مقاماً، بل كان هذا الإستخلاف أضعف من استخلاف مثل ابن أُم مكتوم، فلماذا هذا الإهتمام بهذا الحديث بنقل طرقه وأسانيده، وبالتحقيق في رجاله، وبالبحث في دلالاته ومداليله؟

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 296

إذا كان شيئاً تافهاً لا يستحق البحث، وكان أضعف من أضعف الإستخلافات، فلماذا هذه الإهتمامات؟

ولماذا قول عمر: لو كان لي واحدة منهنّ كان أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشمس؟

وقول سعد: واللَّه لأنْ تكون لي إحدي خلاله الثلاث أحبّ إليّ من أن يكون لي طلعت عليه الشمس؟

ولماذا استشهاد معاوية بهذا الحديث أمام ذلك الرجل الذي سأله مسألةً، وكان معاوية بصدد بيان مقام علي وفضله؟

ولماذا كلّ هذا السعي لإبطال هذا الحديث وردّه؟

ألم يقل الفضل ابن روزبهان- الذي هو الآخر من الرادّين علي الإماميّة واستدلالاتهم بالأحاديث النبويّة- ما نصّه: يثبت به- أي بحديث المنزلة- لأمير المؤمنين فضيلة الأُخوّة والمؤازرة لرسول اللَّه في تبليغ الرسالة وغيرهما من الفضائل.

وهكذا تسقط المناقشة الثانية.

الجواب عن المناقشة الثالثة: … ص: 296

والمناقشة الثالثة كانت دعوي اختصاص حديث المنزلة بغزوه تبوك.

نعم، لو كان الحديث مختصّاً بغزوة تبوك، ولو سلّمنا بأنّ سبب الورود وشأن النزول مخصِّص، لكان لهذا الإشكال ولهذه المناقشة وجه.

ولكن حديث المنزلة- كحديث الثقلين وكحديث الغدير- كرّره رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في مواطن كثيرة، وهذه كتب القوم موجودة بين أيدينا، والباحث الحرّ المنصف يمكنه

العثور علي تلك الروايات، وتلك المواطن الكثيرة التي ذكر فيها رسول اللَّه هذا الحديث.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 297

مواطن ورود حديث المنزلة: … ص: 297
اشارة

وأنا أذكر لكم بعض تلك المواطن ومصادر ورود حديث المنزلة فيها، أُحاول أن أختصر:

المورد الأول: قصة المؤاخاة … ص: 297

قال ابن أبي أوفي : لمّا آخي النبي صلّي اللَّه عليه وآله بين أصحابه، وآخي بين أبي بكر وعمر، قال علي: يا رسول اللَّه ذهب روحي، وانقطع ظهري، حين رأيتك فعلت ما فعلت بأصحابك غيري، فإن كان هذا من سخط عَلَيّ فلك العتبي والكرامة، فقال رسول اللَّه: «والذي بعثني بالحقّ، ما أخّرتك إلّابنفسي، وأنت منّي بمنزلة هارون من موسي غير أنّه لا نبي بعدي، وأنت أخي ووارثي»، قال: ما أرث منك يا رسول اللَّه؟ قال: «ما ورّث الأنبياء من قبلي»، قال: ما ورّث الأنبياء من قبلك؟ قال:

«كتاب ربّهم وسنّة نبيّهم»، وأنت معي في قصري في الجنّة، مع فاطمة ابنتي، وأنت أخي ورفيقي»، ثمّ تَلا رسول اللَّه قوله تعالي : «إِخْوانًا عَلي سُرُرٍ مُتَقابِلينَ».

ذكر هذا الحديث الحافظ جلال الدين السيوطي في [الدر المنثور] في تفسير قوله تعالي : «اللَّهُ يَصْطَفي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ» «1»

، ولاحظوا المناسبة بين هذا الحديث وبين الآية: «اللَّهُ يَصْطَفي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَميعٌ بَصيرٌ».

رواه الحافظ السيوطي في كتابه المذكور عن جماعة من الأئمة: عن البغوي، والباوردي، وابن قانع، والطبراني، وابن عساكر «2».

__________________________________________________

(1)

سورة الحج (22): 75.

(2) الدرّ المنثور 6/ 76- 77.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 298

وهو أيضاً: في مناقب علي لأحمد «1»، وفي الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشرة «2»، وفي كنز العمال أيضاً عن مناقب علي «3».

المورد الثاني: في حديث الدار ويوم الإنذار … ص: 298

ففي رواية بعض المصادر عن أبي إسحاق الثعلبي في [تفسيره ] الكبير ذكر هذا اللفظ: «فأيّكم يقوم فيبايعني علي أنّه أخي ووزيري ووصيّي ويكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه لا نبي بعدي؟».

المورد الثالث: في خطبة غدير خم … ص: 298

وقد تقدم في بحث حديث الغدير.

المورد الرابع: في قضية سد الأبواب … ص: 298

وقد أشرنا إليه، وفي رواية هناك يقول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم:

«وإنّ عليّاً منّي بمنزلة هارون من موسي »، رواه بهذا اللفظ: المحدّث الفقيه ابن المغازلي في كتاب [مناقب أمير المؤمنين ] «4».

المورد الخامس: … ص: 298

هو المورد الذي قرأناه عن عمر بن الخطّاب عن مصادر كثيرة قال عمر: كفّوا عن ذكر علي … إلي آخره.

__________________________________________________

(1)

فضائل الإمام علي عليه السّلام: 142 رقم 207.

(2) الرياض النضرة 3/ 182، قطعة منه.

(3) كنز العمّال 9/ 167 رقم 25554 و 13/ 105 رقم 36345.

(4) مناقب الإمام علي بن أبي طالب عليه السّلام: 255- 257.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 299

المورد السادس: في قضية ابنة حمزة سيّد الشهداء … ص: 299

وذلك أنّها لمّا أتت من مكة، ووصلت إلي المدينة المنورة، تخاصم فيها علي وجعفر وزيد، وفي هذه القضية تحاكموا إلي رسول اللَّه، فقال رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: «أمّا أنت يا علي، فأنت منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاالنبوّة».

روي هذا الخبر الحافظ ابن عساكر في [تاريخ دمشق ] «1»، وقد اخرج الخبر:

في مسند أحمد «2»، وفي سنن البيهقي «3»، وغير هما من المصادر، لكن بدل حديث المنزلة: «أنت منّي وأنا منك».

المورد السابع: في حديثٍ عن جابر … ص: 299

قال: جاء رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ونحن مضطجعون في المسجد، قال رسول اللَّه: «أترقدون بالمسجد! إنّه لا يرقد فيه»، فحينئذ خاطب عليّاً وكان علي فيهم قال: «تعال يا علي، إنّه يحلّ لك في المسجد ما يحلّ لي، أما ترضي أنْ تكون منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاالنبوّة».

وهذا أيضاً في [تاريخ دمشق ] «4».

المورد الثامن: … ص: 299

«يا أمّ سلمة، إنّ عليّاً لحمه من لحمي ودمه من دمي، وهو منّي بمنزلة هارون من موسي إلّاأنّه لا نبي بعدي».

__________________________________________________

(1)

ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 1/ 368 رقم 409.

(2) مسند أحمد 1/ 185 رقم 933.

(3) سنن البيهقي 8/ 6.

(4) ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 1/ 290 رقم 329.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 300

وهذا الحديث أيضاً في [تاريخ دمشق ] «1».

وهناك موارد أكثر، وقد تتبعت تلك الموارد وسجّلتها، ولكن أكتفي بهذا المقدار لغرض الإختصار.

واندفعت المناقشات كلّها، وتمّت دلالة حديث المنزلة علي خلافة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

خلاصة دلالة حديث المنزلة علي الخلافة … ص: 300

وتتلخص وجوه الدلالة علي الخلافة، أي علي كون الحديث نصّاً في الولاية والإمامة، بعد رسول اللَّه مباشرةً في:

أوّلًا: تمنّيات بعض أكابر الأصحاب.

ثانياً: تكرار النبي هذا الحديث.

ثالثاً: القرائن الداخلية في الحديث وفي ألفاظه المختلفة، وأقرأ لكم عدّةً من تلك القرائن:

منها: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في هذا الحديث: «لابدّ أنْ أُقيم أو تقيم»، ممّا يدلّ علي أنّه لا يمكن أن ينوب أحد مناب رسول اللَّه في أمر من الأمور غير علي، ولهذا نظائر كثيرة، منها إبلاغ سورة براءة إلي أهل مكة.

ومن القرائن الداخلية أيضاً: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «خلّفتك أنْ تكون خليفتي».

وهذا أيضاً قد تقدّم.

ومنها: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «أنت منّي بمنزلة هارون من موسي …

فإنّ المدينة لا تصلح إلّابي أو بك».

__________________________________________________

(1) ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 1/ 365 رقم 406.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 301

أخرجه الحاكم في [المستدرك ] وقال: صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

ومن القرائن أيضاً: قوله لعلي: «لك من الأجر مثل مالي ولك من المغنم مثل مالي».

رواه صاحب [الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة]

«1».

وفي حديثٍ أيضاً من أحاديث المنزلة يقول رسول اللَّه: «إنّه لا ينبغي أن أذهب إلّاوأنت خليفتي».

وهذا الحديث صحيح قطعاً، وهو موجود: في [مسند أحمد] «2»، وفي مسند أبي يعلي، وفي المستدرك «3»، وفي تاريخ دمشق «4»، وفي تاريخ ابن كثير «5»، وفي الإصابة لابن حجر «6»، وغيرها من المصادر.

ومن القرائن: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «أنت خليفتي في كلّ مؤمن بعدي، أنت منّي بمنزلة هارون من موسي وأنت خليفتي في كلّ مؤمن بعدي».

وهو أيضاً بسند صحيح في [السنن ] للنسائي «7».

وأمّا القرائن الخارجية فما أكثرها.

وإلي الآن انتهينا من البحث عن حديث المنزلة سنداً ودلالة، وظهر: إنّ حديث المنزلة نصّ في خلافة علي عن رسول اللَّه.

ومن يسعي وراء حمل الإمامة والخلافة بعد رسول اللَّه علي أن يكون في

__________________________________________________

(1) الرياض النضرة 3/ 119.

(2) مسند أحمد 1/ 545 رقم 3052.

(3) المستدرك علي الصحيحين 3/ 133- 134.

(4) ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 1/ 209 رقم 251.

(5) البداية والنهاية المجلد 4 الجزء 7/ 338.

(6) الإصابة 4/ 270.

(7) السنن الكبري: كتاب الخصائص، ذكر خصائص أميرالمؤمنين علي بن أبي طالب رضي اللَّه عنه، 5/ 113 رقم 8409.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 302

المرتبة الرابعة، عليه أنْ يثبت حقيّة خلافة المشايخ بالأدلة القطعية، حتّي يحمل هذا الحديث علي المرتبة الرابعة المتأخّرة عن عثمان، وإلّا فلا يتمّ هذا الحمل.

ويدلّ هذا الحديث أيضاً علي عصمة أمير المؤمنين.

ويدلّ أيضاً علي أفضليّة أمير المؤمنين من جهة الأعلميّة وغيرها.

قصة أروي مع معاوية … ص: 302

والآن يعجبني أنْ أقرأ عليكم هذا الخبر، وإن طال بنا البحث:

دخلت أروي بنت الحارث بن عبدالمطّلب بن هاشم علي معاوية، وهي عجوز كبيرة، فقال لها معاوية: مرحباً بك يا خالة، كيف أنت؟

فقالت: بخير يابن أُختي، لقد

كفرت النّعمة، وأسأت لابن عمّك الصحبة، وتسمّيت بغير اسمك، وأخذت غير حقّك، وكنّا أهل البيت أعظم الناس في هذا الدين بلاءاً، حتّي قبض اللَّه نبيّه مشكوراً سعيه، مرفوعاً منزلته، وَثَبت علينا بعده بنو تيم وعدي وأُميّة، فابتزّونا حقّنا، ولّيتم علينا تحتجّون بقرابتكم من رسول اللَّه، ونحن أقرب إليه منكم وأولي بهذا الأمر، وكنّا فيكم بمنزلة بني إسرائيل في آل فرعون، وكان علي بن أبي طالب بعد نبيّنا بمنزلة هارون من موسي .

فقال لها عمرو بن العاص: كفّي أيّتها العجوز الضالّة، وقصّري عن قولك مع ذهاب عقلك.

فقالت: وأنت يابن النابغة، تتكلّم وأُمّك كانت أشهر بغيّة بمكّة، وأرخصهنّ أُجرة، وادّعاك خمسة من قريش، فسألتْ امّك عنهم فقالت: كلّهم أتاني، فانظروا أشبههم به فألحقوه به، فغلب عليك شبه العاص بن وائل، فألحقوك به.

فقال مروان: كفّي أيّتها العجوز، واقصري لما جئتي له.

قالت: وأنت أيضاً يابن الزرقاء تتكلّم.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 303

ثمّ التفتت إلي معاوية فقالت: واللَّه ما جرّأهم عَلَيّ هؤلاء غيرك، فإنّ أُمّك القائلة في قتل حمزة:

نحن جزيناكُم بيومِ بدرِ والحربُ بعد الحربِ ذات سعرِ

ماكان لي في عتبة من صبرِ وشكرُ وحشيٍ عَلَيّ دهري

حتّي ترمّ أعظمي في قبري

فأجابتها بنت عمّي وهي تقول:

خزيتِ في بدرٍ وبعدَ بدر يابنة جبّارٍ عظيمِ الكفرِ

فقال معاوية: عفي اللَّه عمّا سلف يا خالة، هات حاجتك.

فقالت: مالي إليك حاجة، وخرجت عنه.

وفي رواية: قالت: أُريد ألفي دينار لأشتري بها عيناً فوّارة في أرض خرّارة، تكون لفقراء بني الحارث بن عبدالمطّلب، وألفي دينار أُخري أُزوّج بها فقراء بني الحارث، وألفي دينار أُخري أستعين بها علي شدّة الزمان.

فأمر لها معاوية بذلك.

فأروي هذه ابنة عمّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله، استشهدت بحديث المنزلة، واستدلّت علي إمامة أمير المؤمنين به، وشبّهت

عليّاً بهارون، وأيضاً شبّهت أهل البيت ببني إسرائيل في آل فرعون.

وهذا الخبر تجدونه مع اختلاف في بعض الألفاظ: في [العقد الفريد]، وفي [تاريخ أبي الفداء]، وفي [روضة المناظر] لابن الشحنة الحنفي، الذي هو أيضاً من التواريخ المعتبرة «1».

وهكذا، فقد تمّت الدلالة وسقطت المناقشات كلّها، والحمد للَّه.

__________________________________________________

(1) العقد الفريد 2/ 119، تاريخ أبي الفداء (المختصر في أحوال البشر) 1/ 188، روضة المناظر، حوادث سنة 60.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 304

ثانياً: المناقشات غير العلميّة … ص: 304

اشارة

وتصل النوية الآن إلي الطرق الأُخري والأساليب غير العلمية في ردّ حديث المنزلة، أذكرها باختصار وإنْ طال بنا المجلس، لئلّا يبقي شي ء من البحث إلي الليلة القادمة.

الطرق الأول: … ص: 304

الطريق الذي مشوا عليه بعد المناقشات الفاشلة، هو تحريف الحديث، فبعد أنْ عرفوا أن لا جدوي في المكابرة في أسانيد الحديث ودلالاته، رأي بعض النواصب أنْ لا مناص من تحريف الحديث، ولكنْ ما أشنع تحريفه وما أقبح صنيعه، إنّه حرّف الحديث تحريفاً لا يصدر من الكفّار.

لاحظوا: في ترجمة حريز بن عثمان من [تاريخ بغداد] للخطيب البغدادي، وأيضاً في كتاب [تهذيب التهذيب ] لابن حجر العسقلاني، يروون عن حريز قوله:

هذا الذي يرويه الناس عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أنّه قال لعلي:

«أنت منّي بمنزلة هارون من موسي »، هذا حق، ولكنْ أخطأ السامع، يقول الراوي:

قلت: ما هو؟ قال: إنّما هو: أنت منّي بمنزلة قارون من موسي ، قلت: عمّن ترويه؟

قال: سمعت الوليد بن عبدالملك يقوله وهو علي المنبر «1».

فماذا تقولون لهذا الرجل ولرواة هذا الخبر، ولكنّ الأسف كلّ الأسف أن يكون حَريز هذا من رجال البخاري، أن يكون من رجال الصحاح سوي مسلم، كلّهم يعتمدون عليه وينقلون عنه ويصحّحون خبره، وعن أحمد بن حنبل أنّه عندما سئل عن هذا الرجل قال: ثقة ثقة ثقة.

__________________________________________________

(1) تاريخ بغداد 8/ 268 رقم 4365، تهذيب التهذيب 2/ 209.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 305

والحال أنّهم يذكرون بترجمة هذا الرجل: إنّه كان يشتم عليّاً، ويتحامل عليه بشدّة، نصّوا علي أنّه كان ناصبيّاً، وأنّه كان يقول: لا أُحبّ عليّاً، قَتَل آبائي.

كان يقول لنا إمامنا يعني معاوية- ولكم إماكم- يعني عليّاً، وكان يلعن عليّاً بالغداة سبعين مرّة وبالعشيّ سبعين مرّة.

وقد نقلوا عنه أشياء أُخري غير هذه.

مع ذلك يصحّحون خبره،

وأحمد بن حنبل يكرّر توثيقه: ثقة ثقة ثقة! ويروي عنه البخاري وأصحاب الصحاح عدا مسلم.

ومن هنا يمكن للباحث الحرّ أنْ يعرف موازين هؤلاء ومعاييرهم في تصحيح الحديث وتوثيق الراوي، وأنّهم كيف يتعاملون مع علي وأهل البيت.

الطريق الثاني: … ص: 305

إنّه عَمَدَ بعضهم إلي وضع حديث المنزلة للشيخين، فروي عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إنّه قال: أبو بكر وعمر منّي بمنزلة هارون من موسي .

هذا الحديث يرويه الخطيب البغدادي، في [تاريخ بغداد] «1» وعنه المنّاوي في كتاب [كنوز الحقائق من حديث خير الخلائق ].

إلّا أن من حسن الحظ أنّ ابن الجوزي قد أورد هذا الحديث الموضوع لكن لا في الموضوعات، بل في [العلل المتناهية في الأحاديث الواهية] وقال: حديث لا يصح «2».

وأيضاً: يقول الذهبي في كتابه [ميزان الإعتدال ]: هذا حديث منكر «3».

__________________________________________________

(1)

تاريخ بغداد 11/ 385 رقم 6257، كنوز الحقائق من حديث خبر الخلائق- حرف الألف.

(2) العلل المتناهية في الأحاديث الواهية 1/ 199 رقم 312.

(3) ميزان الإعتدال 5/ 473 رقم 6900.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 306

ويعيد ذكره أيضاً مرّتين ويقول: خبر كذب «1».

وابن حجر العسقلاني أيضاً يكذّب هذا الحديث في [لسان الميزان ] «2».

وحينئذ، لا يبقي مجال لاستناد أحد إلي هذا الحديث الموضوع الذي ينصّون علي ضعفه أو وضعه وكذبه، مع عدم وجوده في شي ء من الصحاح والمسانيد والسنن.

الطريق الثالث: … ص: 306

وتبقي الطريقة الأخيرة، وهي ردّ حديث المنزلة وعدم قبول صحّة هذا الحديث، مع كونه في الصحيحين وغيرهما كما عرفتم.

وهذا الطريق مشي عليه كثير من علمائهم، ممّا يدلّ علي فشلهم في الطرق الأُخري ، بعد عدم تمكّنهم من إبطال هذا الحديث بمناقشات علمية.

يقول أبو الحسن سيف الدين الآمدي: إنّ هذا الحديث غير صحيح.

وابن حجر المكي ينقل كلامه في [الصواعق المحرقة] «3».

وتجدون الإعتماد أيضاً علي رأي الآمدي هذا في [شرح المواقف ] «4» للشريف الجرجاني.

ويقول القاضي الإيجي في الجواب عن حديث المنزلة: إنّه لا يصحّ الإستدلال به من جهة السند «5».

وهكذا غير هؤلاء الذين ذكرتهم، يردّون هذا الحديث بعدم صحّة سنده،

__________________________________________________

(1)

ميزان الإعتدال 5/ 207 رقم 6015.

(2) لسان الميزان 5/ 9 رقم 5828 وفيه أبو بكر فقط.

(3) الصواعق المحرقة: 73.

(4) شرح المواقف للجرجاني 8/ 362.

(5) المصدر.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 307

وغير واحد منهم يعتمد علي كلام الآمدي.

لكن الآمدي يذكره الذهبي في [ميزان الإعتدال ] ونصّ عبارته: قد نفي من دمشق لسوء اعتقاده، وصحّ عنه أنّه كان يترك الصلاة «1».

وأقول: إنْ كان ترك الصلاة عيباً مسقطاً للعدالة، وموجباً لسقوط الشخص وكلامه ورأيه في القضايا العلمية، فلماذا يعتمدون عليه وينقلون كلامه؟

ولكنْ عندي كثيرون من حفّاظ الحديث وكبار أئمّتهم الرواة للسنّة النبويّة، الأُمناء علي الدين، يذكرون بتراجمهم أنّهم كانوا يتركون الصلاة، ولو اتّسع الوقت لذكرت لكم بعضهم، وذكرت بعض عباراتهم في الثناء عليهم وتبجيلهم وتوثيقهم وتعظيمهم، ممّا يدلّ علي أنّ ترك الصلاة التي هي عمود الدين عند المسلمين ليس بطعن في شخص من هؤلاء.

__________________________________________________

(1) ميزان الإعتدال 3/ 358 رقم 3652.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 309

خاتمة المطاف … ص: 309

فهذه مناقشاتهم، وهذه محاولاتهم، وهؤلاء علماؤهم وحفّاظهم، والذين يعتمدون عليهم في عقائدهم، وفي أحكامم وفروعهم الفقهيّة، ولو أنّ اللَّه سبحانه وتعالي لم يقدّر لهذه الأُمّة خيرة علمائها- من هذه الطائفة المظلومة التي أصبح حالها- كما قالت أروي بنت الحارث حال بني إسرائيل في آل فرعون- لولا هؤلاء، لاندرس الدين وضاعت أثار سيّد المرسلين، ولكن اللَّه سبحانه وتعالي أتمّ الحجة بهؤلاء علي غيرهم. وعلي الباحثين المنصفين الذين يريدون أنْ يعرفوا الحق فيتّبعونه أين ما كان، أنْ يتوصّلوا إلي واقعيات القضايا والأحوال.

وإنّنا نسأل اللَّه تعالي أن يثبّتنا علي هذه العقيدة المستندة إلي الكتاب والسنّة المعتبرة المقبولة عند الكل، وأنْ يوفّقنا لأنْ نؤدّي واجباتنا وتكاليفنا في تبيين الحقائق وتوضيح الأُمور علي ما هي عليه، ونتمكّن من مساعدة أُولئك

الذين يريدون الحق، يريدون الوصول إلي الواقع، يريدون الحصول علي حقيقة الأمر، وما فيه رضي اللَّه ورسوله.

وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 313

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيّدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم من الأولين والآخرين.

يقول اللَّه سبحانه وتعالي : «أفَمَنْ يَهْدي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لايَهِدّي إِلّا أَنْ يُهْدي فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

الحق في اللغة بمعني الثبوت، «أَ فَمَنْ يَهْدي إِلَي الْحَقِّ» أي: أفمن يهدي إلي الأمور الثابتة القطعيّة اليقينية، هذا الذي يهدي إلي الواقع، «أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ» أم الذي لا يهتدي «إِلّا أَنْ يُهْدي فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ» «1».

هذا الذي يقوله اللَّه سبحانه وتعالي إرشاد إلي قاعدة عقلية قطعية عند جميع العقلاء من مسلمين وغير مسلمين، إنّهم إذا أرادوا الوصول إلي أمر واقع وإلي حقيقة من الحقائق، يهتدون بمن له علم بتلك الحقيقة ويهدي ويوصل الإنسان إلي تلك الحقيقة، يرجعون إلي هكذا شخص، أمّا الذي ليس بمهدي، ليس بعارف بالحقيقة، الذي لا يهتدي إلي الواقع، كيف يمكن أن يكون هادياً للآخرين إلي الواقع؟

ومن هنا قرّر العلماء من الفريقين علي أنّ العقائد يجب أن يتوصل إليها

__________________________________________________

(1) سورة يونس (10): 35.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 314

الإنسان بالقطع واليقين، ولا يكفي في العقيدة الظن والتقليد، ويقول اللَّه سبحانه وتعالي «إِنَّ الظَّنَّ لايُغْني مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا» «1»

، الظن لا يغني من الواقعيّات شيئاً، الواقعيّات والأمور الحقيقيّة، المطلوب فيها القطع واليقين، لا يكفي فيها الظن، ولا يكفي فيها الأخذ بأقوال الآخرين، وهذه قاعدة عقليّة، والقرآن الكريم يشير ويرشد إلي هذه القاعدة العقلية القطعية.

وحينئذ، إذا دار الأمر بين رجلين، أحدهما مهتدي ويمكنه هداية الآخرين إلي العقائد

الحقة والأُمور الواقعية، والشخص الآخر يحتاج إلي من يهديه، يحتاج إلي من يرشده ويأخذ بيده، كيف يمكن الحكم بالاهتداء وبأخذ الحقائق والواقعيات ممّن هو بنفسه يحتاج إلي من يهديه؟

أمّا نحن، فنعتقد بأنّ الإمامة أمر لا يكون إلّامن اللَّه سبحانه وتعالي ، الإمامة جعل ونصب من اللَّه سبحانه وتعالي، ولا فرق بين الإمامة والنبوّة من هذه الحيثيّة، وحينئذ، نحتاج في معرفة الإمام وتعيّنه إلي نصِّ قطعيّ، أو إلي أدلّة تقتضي أن يكون الشخص هو الإمام لكونه مهتدياً وهادياً.

وأيضاً، لو قام الدليل علي عصمة شخص أو أشخاص، فإنّ العصمة إنْ وجدت في شخص لا يجوّز العقل الإهتداء بغير هذا الشخص مع وجوده، ومع التمكن منه ولو بالواسطة، لذاجعلنا الإمامة إمّا بالنص وإمّا بالعقل، والنص إمّا من الكتاب وإمّا من السنّة القطعيّة.

وكان حديث المنزلة- وهو آخر الأدلّة اللفظية التي بحثنا عنها- دليلًا علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام من الجهات الثلاثة جميعاً، فلقد كان هذا الحديث نصّاً في إمامة أمير المؤمنين، ودليلًا علي عصمته، ودليلًا علي أفضليّته عليه السّلام

__________________________________________________

(1) سورة النجم (53): 28.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 315

من سائر الصحابة.

وقد بحثنا عن مدلول هذا الحديث وفقهه، وبيّنا اندفاع الشبهات التي طرحت في كتب الأُصول والكلام عليه وعلي الإستدلال به علي إمامة أمير المؤمنين، وكان عمدتها ثلاثة شبهات ذكرتها وبيّنت اندفاعها بوجوه قويّة وبأدلّة عديدة.

وموضوع بحثنا في هذه الليلة هو الاستدلال بما يحكم به العقل علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، أي الدليل العقلي علي الإمامة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 316

الدليل العقلي علي امامة علي عليه السلام … ص: 316

اشارة

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 317

الأوصاف المجمع عليها في الإمام … ص: 317

اشارة

لو راجعتم كتب العقائد والكلام عند أهل السنّة ككتاب: [المواقف في علم الكلام ] للقاضي الإيجي، و [شرح المواقف ] للشريف الجرجاني، و [شرح ] القوشچي علي التجريد، و [شرح المقاصد] لسعد الدين التفتازاني، و [شرح العقائد النسفية]، وغير هذه الكتب التي هي من أُمّهات كتب العقيدة والكلام عند أهل السنّة. لرأيتم أنّهم يذكرون في المباحث المتعلقة بالإمام فصولًا، منها:

إنّ نصب الإمام إنّما يكون بالإختيار، وليس بيد اللَّه سبحانه وتعالي ، خلافاً للإماميّة.

وإذا كان نصب الإمام عندهم بالإختيار، فإنّهم يذكرون- في فصل آخر- الشروط التي يجب توفّرها في الإمام حتّي يُختار للإمامة.

وإذا راجعتم ذلك الفصل الذي يذكرون فيه الشروط، يذكرون هناك أوصافاً ويقسّمونها إلي قسمين:

قسم قالوا بأنّها أوصاف مجمع عليها.

وقسم هي أوصاف وقع الخلاف فيها.

ونحن نتكلّم علي ضوء تلك الشروط التي ذكروها علي مسلكهم في تعيين الإمام وهو الإختيار، تلك الشروط المجمع عليها بينهم، الشروط التي ذكروها

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 318

وأوجبوا توفّرها في الإمام كي يختار إماماً علي المسلمين بعد رسول اللَّه.

نتكلّم معهم بغضّ النظر عن مسلكنا في تعيين الإمام، وهو أنّه بيد اللَّه سبحانه وتعالي .

فما هي تلك الشروط والأوصاف التي أجمعوا علي ضرورة وجودها في الإمام حتي يختار إماماً؟

تلك الشروط المجمع عليها بينهم:

الشرط الأول: العلم … ص: 318

بأن يكون عالماً بالأصول والفروع، بحيث يمكنه إقامة الحجج والبراهين علي حقيّة هذا الدين، ويمكنه دفع الشبهات الواردة من الآخرين، بأن يدافع عن هذا الدين من الناحية الفكرية، ويمكنه دفع الشبهات والإشكالات الواردة في أصول الدين وفروعه من المخالفين.

الشرط الثاني: العدالة … ص: 318

بأنْ يكون عادلًا في أحكامه، وفي سيرته وسلوكه مع الناس، وفي أحكامه عندما يتصدي لرفع نزاع بين المسلمين، أن يكون عادلًا عندما يريد أن يقسّم بينهم بيت المال، أن يكون عادلًا في تصرّفاته المختلفة المتعلّقة بالشؤون الشخصية والعامة.

الشرط الثالث: الشجاعة … ص: 318

بأن يكون شجاعاً، بحيث يمكنه تجهيز الجيوش، والوقوف أمام هجمات الأعداء، بحيث يمكنه الدفاع عن حوزة الدين وعن بيضة الإسلام والمسلمين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 319

هذه هي الشروط المتفق عليها عندهم، التي يجب توفرها في الشخص حتي يمكن اختياره للإمامة علي مسلكهم من أنّ الإمامة تكون بالإختيار.

ولابدّ وأنّكم تحبّون أنْ أقرأ لكم نصّاً من تلك الكتب التي أشرت إليها، لتكونوا علي يقين ممّا أنسبه إليهم، ومن حقّكم أن تطالبوا بقراءة نص من تلك النصوص:

جاء في كتاب [المواقف في علم الكلام ] وشرح المواقف «1» ما نصّه:

«المقصد الثاني: في شروط الإمامة:

الجمهور علي أنّ أهل الإمامة ومستحقّها من هو مجتهد في الأُصول والفروع ليقوم بأُمور الدين، متمكّناً من إقامة الحجج وحلّ الشبه في العقائد الدينية، مستقلًا بالفتوي في النوازل وأحكام الوقائع نصّاً واستنباطاً، لأنّ أهمّ مقاصد الإمامة حفظ العقائد وفصل الحكومات ورفع المخاصمات، ولن يتمّ ذلك بدون هذا الشرط».

إذن، الشرط الأول: أن يكون عالماً مجتهداً بتعبيره هو في الأصول والفروع، ليقوم بأمور الدين، وليكون متمكناً من إقامة الحجج والبراهين، ودفع الشبه المتوجهة إلي العقائد من قبل المخالفين.

الشرط الثاني: «ذو رأي وبصارة، بتدبير الحرب والسلم وترتيب الجيوش وحفظ الثغور، ليقوم بأُمور الملك، شجاع ليقوي علي الذب عن الحوزة والحفظ لبيضة الإسلام بالثبات في المعارك».

لاحظوا بدقة ولا تفوتنّكم الكلمات الموجودة في هذا النص، وكتاب المواقف وشرح المواقف من أهم كتب القوم في علم الكلام، فالشرط الثاني هو الشجاعة.

__________________________________________________

(1) شرح المواقف 8/ 349.

محاضرات

في الاعتقادات، ج 1، ص: 320

«وقيل في مقابل قول الجمهور: لا يشترط في الإمامة هذه الصفات، لأنّها لا توجد الآن مجتمعة».

وكتاب المواقف إنّما أُلّف في القرن السابع أو الثامن من الهجرة، وهذه الصفات غير مجتمعة في الحكّام في ذلك الوقت، إذن يجب عليهم أن يرفعوا اليد عن اعتبارها في الإمام، ويقولوا بإمامة من لم يكن بعالم أو لم يكن بشجاع وحتّي من يكون فاسقاً فاجراً، كما سنقرأ صفة العدالة أيضاً وهو الشرط الثالث:

يقول: «نعم يجب أن يكون عدلًا، لئلّا يجور، فإنّ الفاسق ربّما يصرف الأموال في أغراض نفسه فيضيع الحقوق».

«فهذه الصفات شروط معتبرة في الإمامة بالإجماع».

هذا نصّ عبارته.

ثم يقول: «وهاهنا صفات أُخري في اشتراطها خلاف».

إذن، نتكلّم معهم باعتبارنا عقلاء مثلهم، ونعتبر هذه الصفات الثلاث أيضاً في الإمام، ونفترض أنّ الإمامة تثبت بالإختيار، والإمامة مورد نزاع بيننا وبينهم، فنحن نقول بإمامة علي وهم يقولون بإمامة أبي بكر.

فلنلاحظ إذن، هل هذه الصفات المعتبرة بالإجماع في الإمام، المجوّز توفّرها فيه لانتخابه واختياره إماماً، هل هذه الصفات توفّرت في علي أو في أبي بكر، حتّي نختار عليّاً أو نختار أبا بكر؟ ومع غضّ النظر عن الكتاب والسنّة الدالّين علي إمامة علي بالنص أو غير ذلك؟

نحن والعقل الذي يقول بأنّ الرئيس للأُمّة والخليفة عن النبي صلّي اللَّه عليه وآله والقائم مقامه لإدارة امور المسلمين، يجب أن يكون واجداً لهذه الصفات المجمع عليها، ونحن تبع لهذا الإجماع الذي هم يدّعونه علي هذه الصفات.

وأيضاً: نحن نوافق علي هذا الإجماع، وإن كنّا نقول باعتبار العصمة التي هي

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 321

أعلي من العدالة، لكن مع ذلك نبحث عن هذه المسألة في هذه الليلة مع غضّ النظر عن مسلكنا في ثبوت الإمامة وتعيين الإمام.

إذن،

يتلخّص كلام القوم في الصفات اللازم وجودها في الإمام بالإجماع في ثلاثة صفات:

أنْ يكون متمكناً من إقامة الحجج وحلّ الشبه في العقائد الدينية، لأنّ أهم مقاصد الإمامة حفظ العقائد فصل الخصومات، فلابدّ وأن يكون عالماً في الدين بجميع جهاته من أُصوله وفروعه، ليتمكّن من الدفاع عن هذا الدين إذا ما جاءت شبهة أو توجّهت هجمة فكرية.

وأن يكون شجاعاً، ليقوي علي الذبّ عن الحوزة والحفظ لبيضة الإسلام بالثبات في المعارك، لأنّ الإمام إذا فرّ من المعركة فالمأمومون يفرون، إذا فرّ القائد فالجنود يفرّون تبعاً له، إذا انكسر الرئيس انكسر الجيش كلّه، وهذا واضح، إذن بنصّ عبارة هؤلاء يجب أن يكون من أهل الثبات في المعارك.

وأن يكون عدلًا غير ظالم ولا فاسق.

فإمّا تكون هذه الصفات مجتمعة في علي دون غيره، فيكون علي هو الإمام، وإمّا تكون مجتمعة في غير علي فيكون ذاك هو الإمام، وإمّا تكون مجتمعة في كليهما، فحينئذ ينظر إلي أنّ أيّهما الواجد لهذه الصفات في أعلي مراتبها، وإلّا فمن القبيح تقديم المفضول علي الفاضل عقلًا، والقرآن الكريم يقول: «أَ فَمَنْ يَهْدي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لايَهِدّي»، من يكون عادلًا أولي بأن يكون إماماً أو من يكون فاسقاً؟ العالم أولي أن يكون إماماً نقتدي به أو من يكون جاهلًا؟ وعلي فرض أن يكون كلاهما عالمين فالأعلم هو المتعيّن أولا؟ لابدّ من الرجوع إلي حكم العقل والعقلاء في المسألة، ونحن نتكلّم علي هذا الصعيد.

قالوا: هذه هي الصفات المعتبرة بالإجماع، أمّا أنْ يكون هاشميّاً ففيه خلاف،

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 322

أمّا أنْ يكون معصوماً ففيه خلاف، أمّا يكون حرّاً، ربّما يكون فيه خلاف، ربّما ينسبون إلي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله أنه أمر بطاعة

من وليّ علي المسلمين وإنْ كان عبداً. ربما ينسبون إليه هكذا حديث، لكن هذه قضايا مختلف فيها، فالعصمة تقول بها الشيعة، وغيرهم لا يقولون بها، وكذا سائر الصفات فهي مورد خلاف، مثل أن يكون هاشمياً، أن يكون قرشياً، أن يكون حرّاً، وغير ذلك من الصفات المطروحة في الكتب.

أمّا الصفات المتفق عليها بين الجميع فهي: العلم والعدالة والشجاعة، ونحن نبحث علي ضوء هذه الصفات.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 323

علي عليه السّلام والعلم … ص: 323

اشارة

العلم والتمكن من إقامة الحجج والبراهين علي حقيّة هذا الدين، والتمكن من دفع شبه المخالفين، من الصفات المتفق عليها.

لندرس سيرة علي وسيرة أبي بكر، لندرس ما ورد في هذا وهذا، لندرس ما قاله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وما قاله الصحابة، وما قاله سائر العلماء في علي، وما قيل في أبي بكر.

ولا نرجع إلي شي ء ممّا يروي عن كلّ واحد منهما في حقّ نفسه، فعلي عليه السّلام يقول: «علّمني رسول صلّي اللَّه عليه وآله ألف باب من العلم، يفتح لي من كلّ باب ألف باب» «1».

لا نرجع إلي هذا الخبر الثابت في المصادر، لأنّ المفروض أنّه في علي ومن علي، نرجع إلي غير هذه الروايات.

مثلًا يقول علي: «سلوني قبل أن تفقدوني» «2» هذا لم يرد عن أبي بكر، أبو بكر لم يقل في يوم من الأيام: سلوني قبل أن تفقدوني، لكن نضع مثل هذه

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 13/ 114 رقم 36372، 165 رقم 36500.

(2) أخرجه أحمد في فضائل الامام علي عليه السّلام وابن سعد وابن عبدالبر وغيرهم، الإستيعاب 3/ 1103، الرياض النضرة 2/ 198، الصواعق المحرقة: 76.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 324

الروايات الواردة عن علي علي جانب، وإنْ كنّا نستدلّ بها في مواضعها، وهي موجودة في

كتب أهل السنّة.

لكنّا نريد أن ندرس سيرة هذين الرجلين، أن ندرس سيرة أمير المؤمنين وأبي بكر علي ضوء ما ورد وما قيل فيهما عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم والصحابة والعلماء، لنكون علي بصيرة من أمرنا، عندما نريد أن نختار وننتخب أحدهما للإمامة بعد رسول صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي مسلك القوم.

أنا مدينة العلم وعلي بابها: … ص: 324

والآن نبحث عن الصفة الأولي وهي العلم، والتمكن من إقامة الحجج والبراهين، ورسول اللَّه يقول في علي: «أنا مدينة العلم وعلي بابها».

هذا الحديث موجود في كتبهم، يرويه:

1- عبدالرزاق بن همّام الصنعاني.

2- يحيي بن معين، الإمام في الجرح والتعديل، مع تصحيحه لهذا الحديث.

3- أحمد بن حنبل.

4- الترمذي.

5- البزّار.

6- ابن جرير الطبري.

7- الطبراني.

8- أبو الشيخ.

9- ابن السقا الواسطي.

10- ابن شاهين.

11- الحاكم النيسابوري.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 325

12- ابن مردويه.

13- أبو نعيم الإصبهاني.

14- الماوردي.

15- الخطيب البغدادي.

16- ابن عبدالبر.

17- السمعاني.

18- ابن عساكر.

19- ابن الأثير.

20- ابن النجّار.

21- السيوطي.

22- القسطاني.

23- ابن حجر المكي.

24- المتقي الهندي.

25- علي القاري.

26- المنّاوي.

27- الزرقاني.

28- الشاه ولي اللَّه الدهلوي.

وغيرهم، وكلّ هؤلاء شهدون بأنّ رسول اللَّه قال في علي: «أنا مدينة العلم وعلي بابها» «1».

__________________________________________________

(1) تهذيب الآثار «مسند الإمام علي عليه السّلام»: 105 رقم 173، صحيح الترمذي- كما في جامع الأصول 9/ 473، وتاريخ الخلفاء للسيوطي: 170 وغيرهما- المعجم الكبير 11/ 65 رقم 11061، تاريخ بغداد 4/ 348، 7/ 172، 11/ 204، الإستيعاب 3/ 1102، فردوس الأخبار 1/ 76، أُسد الغابة 4/ 22، الرياض النضرة 2/ 255، تهذيب الكمال 20/ 485، تاريخ جرجان: 24، تذكرة الحفّاظ 4/ 28، البداية والنهاية: 3587، مجمع الزوائد 9/ 114، عمدة القاري في شرح صحيح البخاري 7/ 631، اتحاف السادة المتقين 6/ 224، المستدرك علي الصحيحين: 1263 و

127، ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 2/ 465 رقم 984، جامع الأُصول 8/ 657 رقم 6501، الجامع الصغير للسيوطي 1/ 415 رقم 2705، الصواعق المحرقة: 189، كنز العمّال 11/ 614 رقم 32978 و 32979، فيض القدير: 3/ 46.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 326

وهل قال مثل هذا الكلام في غير علي؟

أنا دار الحكمة وعلي بابها: … ص: 326

ويقول رسول اللَّه في حق علي: «أنا دار الحكمة وعلي بابها»، وعندما نراجع الكتب نري هذا الحديث يرويه:

1- أحمد بن حنبل.

2- الترمذي.

3- محمّد بن جرير الطبري.

4- الحاكم النيسابوري.

5- ابن مردويه.

6- أبو نعيم.

7- الخطيب التبريزي.

8- العلائي.

9- الفيروز آبادي.

10- ابن الجزري.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 327

11- ابن حجر العسقلاني.

12- السيوطي.

13- القسطلاني.

14- الصالحي الدمشقي.

15- ابن حجر المكي.

16- المتقي الهندي.

17- المنّاوي.

18- الزرقاني.

19- ولي اللَّه الدهلوي.

وغيرهم.

وهؤلاء يشهدون بأنّ رسول اللَّه قال في علي: «أنا دار الحكمة وعلي بابها» «1».

فإذا كان رسول اللَّه يقول في حقّ علي هكذا، وهم يروون هذا الحديث، فهل علي المتمكن من إقامة الحجج والبراهين علي حقيّة هذا الدين ودفع الشبه، أو غيره الذي لم يرد مثل هذا الحديث في حقّه؟

__________________________________________________

(1) فضائل الإمام علي عليه السّلام: 138 رقم 203، سنن الترمذي 5/ 637، تهذيب الآثار «مسند علي عليه السّلام»: 104 رقم 8، حلية الأولياء 1/ 64، مشكاة المصابيح 2/ 504 رقم 6096، أسني المطالب: 70، الرياض النضرة 2/ 255، شرح المواهب اللدنّيّة 3/ 129، الجامع الصغير 1/ 415 رقم 2704، الصواعق المحرقة: 189، كنز العمّال 11/ 600 رقم 32889 و 13/ 147 رقم 36462، فيض القدير 3/ 46.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 328

أنت تبيّن لأُمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي: … ص: 328

والأظهر من هذا قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: «أنت تبيّن لأمّتي ما اختلفوا فيه من بعدي».

فقد نصب علياً للحكم بيننا في كلّ ما اختلفنا فيه، من أمور ديننا ودنيانا.

وهذا الحديث يرويه:

1- الحاكم النيسابوري، ويصحّحه.

2- ابن عساكر، في تاريخ دمشق.

3- الديلمي.

4- السيوطي.

5- المتقي الهندي.

6- المنّاوي.

وجماعة آخرون يروون هذا الحديث «1».

ولم يرد مثل هذا الحديث في حقّ غير علي.

عليّ هو الأُذن الواعية: … ص: 328

وأيضاً، لمّا نزل قوله تعالي : «وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» «2»

نري رسول اللَّه يصرّح بأنّ عليّاً هوالأُذن الواعية.

فيكون علي وعاءٌ لكلّ ما أنزل اللَّه سبحانه وتعالي ، يكون وعاء لجميع

__________________________________________________

(1) المستدرك علي الصحيحين 3/ 122، ترجمة الإمام علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 2/ 488 رقم 1008 و 1009، كنز العمّال 11/ 615 رقم 32983.

(2) سورة الحاقة (69): 12.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 329

الحقائق، يكون واعياً لجميع الأُمور.

وهذا الحديث تجدونه في:

1- تفسير الطبري.

2- تفسير الكشاف.

3- تفسير الرازي.

4- الدر المنثور، حيث يرويه السيوطي هناك عن: سعيد بن منصور، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وابن عساكر، والواحدي، وابن النجار.

وتجدونه أيضاً في:

5- حلية الأولياء.

6- مجمع الزوائد.

وفي غير هذه الكتب «1».

أقضاكم عليّ: … ص: 329

ويقول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «أقضاكم علي».

كنّا نحتاج إلي الإمام لرفع الخصومات والتنازعات والخلافات بين الناس كما ذكر صاحب شرح المواقف، ورسول اللَّه يقول: «علي أقضاكم».

ولم يرد مثل هذا الكلام في حق غير علي.

فما ذنبنا إن قلنا بأنّ عليّاً هو المتعيّن للإمامة؟ حتّي لو كان الأمر موكولًا إلي الأُمّة، حتّي لو كان الأمر مفوّضاً إلي اختيار الناس؟ كان عليهم أنْ يختاروا عليّاً، لأنّ

__________________________________________________

(1) تفسير الطبري 29/ 35- 36، تفسير الزمخشري 4/ 151، تفسير الرازي 30/ 107، الدرّ المنثور 8/ 267.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 330

هذه هي الضوابط التي قرّروها في علم الكلام، وقالوا: بأن هذه الصفات هي صفات مجمع علي اعتبارها في الإمام.

وحديث «أقضاكم علي» تجدونه في:

1- صحيح البخاري.

2- مسند أحمد.

3- المستدرك.

4- سنن ابن ماجه.

5- الطبقات الكبري .

6- الاستيعاب.

7- سنن البيهقي.

8- مجمع الزوائد.

9- حلية الأولياء.

10- أُسد الغابة.

11- الرياض النضرة.

وفي غيرها من الكتب.

هذا فيما يتعلّق- باختصار- بكلمات رسول اللَّه التي هم يروونها، وفيها شهادة رسول

اللَّه أو إخبار رسول اللَّه بمقامات علي، وبأنّه المتمكن من إقامة الحجج، وإقامة البراهين، ودفع الشبه.

إنّ عليّاً هو المرجع من قبل رسول اللَّه في رفع الخلافات، وهو المبيّن لما اختلف فيه المسلمون بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 331

كلمات الصحابة في المقام العلمي للإمام علي عليه السّلام: … ص: 331

وأمّا كلمات الصحابة فما أكثرها، وإنّي أنقل لكم نصّاً من أحد كبار الحفّاظ بترجمة أمير المؤمنين عليه السّلام، يشتمل هذا النص علي شهادات من كبار الصحابة والتابعين في حقّ علي عليه السّلام من حيث مقامه العلمي.

يقول الحافظ النووي في كتاب [تهذيب الأسماء واللغات ] حيث يترجم لعلي عليه السّلام:

أحد العلماء الربّانيين والشجعان المشهورين والزهاد المذكورين، وأحد السابقين إلي الإسلام …

إلي أن قال: أمّا علمه، فكان من العلوم في المحلّ العالي، روي عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم خمسمائة حديث وستّة وثمانين حديثاً، اتفق البخاري ومسلم منها علي عشرين، وانفرد البخاري بتسعة، ومسلم بخمسة عشر.

روي عنه بنوه الثلاثة الحسن والحسين ومحمّد بن الحنفية، وروي عنه:

ابن مسعود، وابن عمر، وابن عباس، وأبو موسي ، وعبداللَّه بن جعفر، وعبداللَّه بن الزبير، وأبو سعيد، وزيد بن أرقم، وجابر بن عبداللَّه، وروي عنه من التابعين خلائق مشهورون.

ونقلوا عن ابن مسعود قال: كنّا نتحدّث أن أقضي المدينة علي.

قال ابن المسيّب: ما كان أحد يقول: سلوني غير علي.

وقال ابن عباس: وإذا ثبت لنا الشي ء عن علي لم نعدل إلي غيره.

ثمّ يقول النووي:

وسؤال كبار الصحابة- متي قالوا كبار الصحابة فمقصودهم المشايخ الثلاثة وغيرهم من العشرة المبشرة، هذه الطبقة- ورجوعهم إلي فتاواه وأقواله في

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 332

المواطن الكثيرة والمسائل المعضلات، مشهور» «1».

فإذا كان كبار الصحابة يرجعون إلي علي في معضلاتهم، ويأخذون بقوله.

ولم نجد- ولا مورداً واحداً- رجع

فيه علي إلي واحد منهم، أو احتاج الأخذ عن أحدهم، فماذا يحكم عقلنا؟ وكيف تحكمون؟

جهل المشايخ وأعلام الصّحابة … ص: 332

لقد كان الإمام عليه السّلام هو المرجع الأعلي للمشايخ في المعضلات كما نصّ النووي، لكنّهم رجعوا كذلك إلي عدّةٍ من الصّحابة في موارد كثيرة- يذكرها ابن حزم الأندلسي في كلام له طويل- فيها جهل الصحابة وكبار الأصحاب بمسائل الدين، ورجوعهم إلي غيرهم.

يقول ابن حزم:

ووجدناهم- أي الصحابة- يقرّون ويعترفون بأنّهم لم يبلغهم كثير من السنن، وهكذا الحديث المشهور عن أبي هريرة- لاحظوا هذا الحديث المشهور عن أبي هريرة- يقول: إنّ إخواني من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإنّ إخواني من الأنصار كان يشغلهم القيام علي أموالهم».

وعلي ما شغله الصفق في الأسواق، ولم يشغله القيام بأمواله، وإنّما لازم رسول اللَّه ليلًا ونهاراً، ولذا لم يثبت رجوعه إلي غير رسول اللَّه ولا في موردٍ واحد.

يقول ابن حزم:

وهذا أبو بكر لم يعرف فرض ميراث الجدّة وعرّفه محمّد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة [فاحتاج مثل أبي بكر إلي المغيرة بن شعبة في حكم شرعي!!]

__________________________________________________

(1) تهذيب الأسماء واللغات 1/ 344- 346.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 333

وهذا أبو بكر سأل عائشة في كم كفّن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله».

وهكذا يذكر موارد أُخري عنه، حيث جهل القضايا ورجع إلي غيره.

ثمّ يقول:

وهذا عمر يقول في حديث الاستئذان: أُخفي عَلَيّ، ألهاني الصفق في الأسواق، وقد جهل أيضاً أمر إملاص المرأة وعرّفه غيره، وغضب علي عيينة بن حصن حتّي ذكّره الحر بن قيس، وخفي عليه أمر رسول اللَّه بإجلاء اليهود، وخفي علي أبي بكر قبله، وخفي علي عمر أمره بترك الإقدام علي الوباء وعرف ذلك عبدالرحمن بن عوف، وسأل عمر أبا واقد الليثي عمّا كان يقرأ به رسول اللَّه [وهذا طريف

جدّاً] في صلاتي الفطر والأضحي ، هذا وقد صلّاهما رسول اللَّه أعواماً كثيرة، وعمر جهل إنّ رسول اللَّه أيّ سورة كان يقرأ في هاتين الصلاتين وسأل أبا واقد الليثي!!

ثمّ يقول ابن حزم:

ولم يدر [أي عمر] ما يصنع بالمجوس حتّي ذكّره عبدالرحمن بأمر رسول اللَّه، ونسي قبوله الجزية من مجوس البحرين وهو أمر مشهور، ولعلّه قد أخذ من ذلك المال حظّاً كما أخذ غيره، ونسي أمره بتيمّم الجنب فقال: لا يتيمّم أبداً ولا يصلّي ما لم يجد الماء، وذكّره بذلك عمّار، وأراد قسمة مال الكعبة حتّي ذكّره بعض الصحابة.

ثمّ ينتقل ابن حزم إلي عثمان وغيره فيقول: وهذا عثمان …، وهذه عائشة …،

وهذه حفصة …، وهذا ابن عمر …، وهذا زيد بن ثابت …

هذا النص تجدونه في [الإحكام في أصول الأحكام ] «1».

__________________________________________________

(1) الإحكام في أصول الأحكام، المجلّد الأوّل الجزء 2/ 151- 153.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 334

لولا علي لهلك عمر: … ص: 334

وأمّا كلمة عمر بن الخطّاب: لولا علي لهلك عمر، فإن هذه الكلمة جرت مجري الأمثال، سمع بها الكل حتّي الأطفال.

وكذا قوله: لا أبقاني اللَّه لمعضلة لست لها يا أبا الحسن.

وروي كلمة: لولا علي لهلك عمر في واقعةٍ:

1- عبدالرزاق بن همّام.

2- عبد بن حميد.

3- ابن المنذر.

4- ابن أبي حاتم.

5- البيهقي.

6- ابن عبدالبر.

7- المحب الطبري.

8- المتقي الهندي في كنز العمال «1».

وفي مورد آخر أيضاً قال هذه الكلمة- لولا علي لهلك عمر- وذلك المورد قضية المرأة المجنونة التي زنت فهمّ عمر برجمها، وتلك القضية رواها:

1- عبدالرزاق.

2- البخاري.

3- الدارقطني.

وغيرهم من كبار الأئمّة «2».

__________________________________________________

(1) الإستيعاب 3/ 1103، الرياض النضرة 4/ 194.

(2) فيض القدير 4/ 357.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 335

وقد قالها في موارد أُخري، لا نطيل بذكرها.

ولا بأس بذكر كلمة المناوي بهذا الصدد، يقول المناوي في شرح

قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «علي مع القرآن والقرآن مع علي لن يفترقا حتّي يردا عَلَيّ الحوض»، وهذا حديث أيضاً وارد عن رسول اللَّه، يقول:

أخرج أحمد: إنّ عمر أمر برجم امرأة، فمرّ بها علي فانتزعها، فأُخبر عمر، فقال عمر: ما فعله إلّالشي ء، فأرسل إليه فسأله، فقال علي: أما سمعت رسول اللَّه يقول: «رفع القلم عن ثلاث … قال: نعم، فقال عمر: لولا علي لهلك عمر.

قال المناوي:

واتفق له مع أبي بكر نحوه- أي اتفق إنّ أبا بكر أيضاً همّ بمثل هذه القضية وعلي منعه واستسلم لقول علي- وربّما قال: لولا علي لهلك أبو بكر «1».

كما أنّا وجدنا في بعض المصادر مورداً عن عثمان قال فيه: لولا علي لهلك عثمان «2».

إذن، مَنِ المتمكن من إقامة الحجج والبراهين ودفع الشبه؟

نحن الآن في القرن الرابع عشر أو في القرن الخامس عشر، ومن أين نعرف حالات علي وأحوال أبي بكر، ونحن نريد أن نختار أحدهما للإمامة علي مسلك القوم؟

أليس طريقنا ينحصر بالإطلاع علي هذه القضايا لنعرف من الذي توفّر فيه الشرط الأول المتفق عليه، والمجمع عليه بين العلماء من المسلمين، فهذا علي وهذه قضاياه، وهذه هي الكلمات الواردة في حقّه، وهذا رجوع غيره إليه، وعدم رجوعه إلي غيره، أي إنّه كان مستغنياً عن الغير وكان الآخرون محتاجين إليه.

__________________________________________________

(1) فيض القدير 4/ 357.

(2) زين الفتي في شرح سورة هل أتي 1/ 317 رقم 225.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 336

انتشار العلوم الإسلامية بالبلاد بواسطة الإمام علي وتلامذته: … ص: 336

ولذا نري أنّ العلوم الإسلاميّة كلّها قد انتشرت بالبلاد الإسلاميّة بواسطة علي وتلامذته من كبار الصحابة، وهذا أمر قد حقّقناه في موضعه في بحث مفصل، لأنّ البلاد الإسلاميّة في ذلك العصر كانت: المدينة المنوّرة، ومكة المكرمة، والبصرة، والكوفة، واليمن، والشام.

وقد دقّقنا النظر وحقّقنا

في الأمر، ورأينا أنّ العلوم انتشرت في جميع هذه البلدان عن علي عليه السّلام.

أمّا في المدينة والكوفة، فقد عاش علي في هاتين المدينتين وأفاد فيهما الناس بعلومه.

أمّا الكوفة، فقبل مجي ء علي إليها كان فيها عبداللَّه بن مسعود.

والشام، فكان عالمها الأكبر أبو الدرداء، وأبو الدرداء تلميذ عبداللَّه بن مسعود، وعبداللَّه بن مسعود تلميذ علي عليه السّلام.

وأمّا البصرة ومكة المكرمة، فانتشرت العلوم في هاتين البلدتين أو هذين القطرين بواسطة عبداللَّه بن عباس، وعبداللَّه بن عباس تلميذ علي عليه الصلاة والسّلام.

وهنا نصوص سَجَّلتها فيما يتعلّق بهذا الموضوع من ذلك البحث الذي حقّقت فيه هذه القضية، ولكن لا أُريد أنْ أقرأ تلك النصوص لئلّا يطول بنا المجلس.

وأمّا اليمن، فقد سافر إليها علي عليه السّلام بنفسه أكثر من مرّة، وقبيلة همدان أسلمت عَلي يده.

فكان حديث مدينة العلم، وحديث أنا دار الحكمة، وغير هذين الحديثين،

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 337

وما ورد في تفسير قوله تعالي : «وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» وشهادات كبار الصحابة، وشهادات كبار العلماء في القرون المختلفة، وأيضاً انتشار العلوم بواسطة علي، كلّ هذه الأُمور كانت أدلّة علي أنّ المبرّز في هذا الميدان هو علي عليه السّلام، فالشرط الأول إنّما توفّر في علي دون غيره.

ولدلالة هذه الأُمور علي تقدّم علي علي غيره من الأصحاب، يضطر القوم إلي التحريف والتكذيب، فإنكم إذا راجعتم [صحيح الترمذي ] لا تجدون فيه حديث «أنا مدينة العلم وعلي بابها»، مع رواية غير واحدٍ من الحفاظ الأعلام كابن الأثير والسيوطي وابن حجر هذا الحديث عنه!

وهكذا يضطرّ ابن تيميّة أنْ يكذّب كلّ هذه الأُمور، حتّي أنّ كون ابن عباس تلميذاً لعلي يكذّبه ابن تيميّة، حتّي أخذ عبداللَّه بن مسعود عن علي يكذّبه، وحديث مدينة العلم يكذّبه، وهكذا الأحاديث الأُخري

التي ذكرت بعضها.

يقول بالنسبة إلي حديث: «هو الأُذُن الواعية» يقول: إنّه حديث موضوع باتفاق أهل العلم.

وحديث «أقضاكم علي» يكذّبه ابن تيميّة، حتّي يقول: هذا الحديث لم يثبت، وليس له إسناد تقوم به الحجة، لم يروه أحد في السنن المشهورة، ولا المسانيد المعروفة، لا بإسناد صحيح ولا ضعيف «1».

وقد ذكرنا أنّه في البخاري، وفي سنن النسائي، سنن ابن ماجة، وفي الطبقات لابن سعد، وفي مسند أحمد، وغيرها من الكتب.

وتكذيب ابن تيمية هوالآخر دليل علي ثبوت هذه القضايا، وعلي تقدم علي في هذا الشرط علي غيره.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 7/ 512.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 338

وتلخّص، أنّه إذا كان العلم بالأصول والفروع، وإذا كان التمكن من إقامة الحجج والبراهين ودفع الشبه، هو الشرط الأول المتفق عليه بين المسلمين في الإمام الذي يريد المسلمون أن يختاروه علي مسلك الإختيار، فهذا الشرط موجود في علي دون غيره.

فأيّ حديث يروونه في حقّ أبي بكر في مقابل هذه الأدلّة وغيرها؟

يروون حديثاً ينسبونه إلي رسول اللَّه «ما صبّ اللَّه في صدري شيئاً إلّا وصببته في صدر أبي بكر».

إن كان هذا الحديث صدقاً، فلماذا يقول ابن حزم جهل كذا فرجع إلي فلان، جهل كذا فرجع إلي فلان، جهل كذا فرجع إلي فلان.

لكنّ هذا الحديث أدرجه ابن الجوزي في كتاب الموضوعات ونصّ علي أنّه كذب «1».

ولا يوجد حديث آخر في باب العلم يروونه بحق أبي بكر سوي هذا الحديث الذي ذكرته.

قال اللَّه تعالي: «كَيْفَ تَحْكُمُونَ».

__________________________________________________

(1) كتاب الموضوعات لابن الجوزي 1/ 219، الأخبار الموضوعه: 454 للملّا علي القاري.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 339

علي عليه السّلام والعدالة … ص: 339

ننتقل الآن إلي الشرط الثاني، وهو العدالة.

وأيضاً: نجد الأحاديث الكثيرة المتفق عليها بين المسلمين بين الطرفين المتخاصمين في هذه المسألة، تلك الأحاديث شاهدة

علي أنّ عليّاً عليه السّلام كان أعدل القوم.

أذكر لكم حديثين فقط:

أحدهما: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «كفّي وكفّ علي في العدل سواء».

هذا الحديث يرويه:

1- ابن عساكر في تاريخ دمشق.

2- الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد.

3- المتقي الهندي في كنز العمّال.

4- صاحب الرياض النضرة في مناقب العشرة المبشّرة.

وغير هؤلاء «1».

__________________________________________________

(1) ترجمة علي عليه السّلام من تاريخ مدينة دمشق 2/ 438 رقم 945 و 946، تاريخ بغداد 8/ 77، وفيه «يدي ويد علي في العدل سواء»، كنز العمّال 11/ 604 رقم 32921، الرياض النضرة 2/ 120، وفيه «كفّي وكفّ علي في العدد سواء».

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 340

الثاني: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لعلي: «يا علي أخصمك بالنبوة ولا نبوة بعدي، وتخصم الناس بسبع ولا يخصمك فيها أحد من قريش: أنت أوّلهم إيماناً باللَّه، وأوفاهم بعهد اللَّه، وأقومهم بأمر اللَّه، وأقسمهم بالسويّة، وأعدلهم في الرعية، وأبصرهم بالقضية، وأعظمهم عند اللَّه مزيّة».

فهذا ما يقوله رسول اللَّه، ويرويه:

1- أبو نعيم في حلية الأولياء «1».

2- وصاحب الرياض النضرة.

3- ابن عساكر، حيث يرويه عن عمر بن الخطّاب نفسه حيث يقول: كفّوا عن ذكر علي …، ويذكر هذه القطعة من الحديث أيضاً.

وأنتم تعرفون قضيّة ما كان بين عقيل وعلي عليه السّلام، لعدالته، وتعرفون أيضاً قضايا أُخري كثيرة من عدله عليه السّلام في كتب الفريقين، ممّا لا نطيل بذكرها هذا البحث.

__________________________________________________

(1) حلية الأولياء 11/ 65.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 341

علي عليه السّلام والشجاعة … ص: 341

وأمّا الشرط الثالث الذي هو الشجاعة.

قال في [شرح المواقف ]: إنّما اعتبر هذا الشرط ليقوي علي الذب عن الحوزة والحفظ لبيضة الإسلام بالثبات في المعارك.

فراجعوا الأخبار والتواريخ وأنباء الحروب والغزوات، ليظهر لكم من كان الذابّ عن الحوزة والحافظ لبيضة الإسلام والثابت وذوالثبات في

المعارك؟ من كان؟

لقد علم الموافق والمخالف أنّ عليّاً عليه السّلام كان أشجع الناس، وأنّ بسيفه ثبتت قواعد الإسلام، وتشيّدت أركان الإيمان، وكانت الراية بيده في كافة الغزوات، وما انهزم عليه السّلام في موطن من المواطن قط.

هذه الأُمور أعتقد أنّها قد تجاوزت حدّ الرواية وبلغت إلي حدّ الدراية، فتلك مواقفه في بدر، وأُحد، وخيبر، وحنين، والخندق- الأحزاب- وغير ذلك من الحروب والغزوات، من ذا يشك في أشجعيّة علي ومواقفه مع رسول اللَّه؟

نعم، يشك في ذلك مثل ابن تيميّة، لاحظوا ماذا يقول؟ يقول في جواب العلّامة الحلّي الذي قال: إنّ عليّاً كان أشجع الناس، يقول: هذا كذب، فأشجع

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 342

الناس رسول اللَّه «1».

وهل كان البحث عن شجاعة رسول اللَّه؟ وهل كان من شك في أشجعيّة رسول اللَّه؟ إنّما الكلام بين علي وأبي بكر! كلامنا في الإمامة بعد رسول اللَّه، كلامنا في الخلافة بعد رسول اللَّه.

لاحظوا كيف يغالط؟ ولماذا يغالط؟ لأنّه ليس عنده جواب، يعلم ابن تيميّة- ويعلمون كلّهم- بأنّ الشيخين قد فرّا في أكثر من غزوة، وأنّهما لم يقتلا ولا واحداً في سبيل اللَّه.

يقول العلّامة الحلّي: إنّ عليّاً قتل بسيفه الكفّار.

فيقول في جوابه ابن تيميّة: قوله: إنّ عليّاً قتل كلّ الكفّار! فلا ريب أنّه لم يقتل إلّا بعض الكفّار.

وهل قال العلّامة الحلّي: إنّ عليّاً قتل كلّ الكفّار! فلا ريب أنّه لم يقتل إلّا بعض الكفّار.

يقول ابن تيميّة: وكذلك سائر المشهورين بالقتال من الصحابة، كعمر والزبير وحمزة والمقداد وأبي طلحة والبراء بن مالك وغيرهم.

يقول: ما منهم من أحدٍ إلّاقتل بسيفه طائفة من الكفّار.

فإذا سئل ابن تيميّة: أين تلك الطائفة من الكفّار الذين قتلهم عمر؟

يقول في الجواب: القتل قد يكون باليد كما فعل علي وقد يكون

بالدعاء …

القتال يكون بالدعاء كما يكون باليد.

هذا نصّ عبارته- واللَّه- راجعوا كتاب [منهاج السنة] فإنّه موجود «2».

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 8/ 76.

(2) المصدر 4/ 482.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 343

إذن، قَتَل عمر طائفة من الكفّار بالدعاء، ولا بأس!! وأيّ مانع من هذا!!

وإذا سألنا ابن تيميّة عن شجاعة أبي بكر- أليس الشرط الثالث: الشجاعة؟

يقول في الجواب بنصّ عبارته- بلا زيادة ونقيصة-: إذا كانت الشجاعة المطلوبة من الأئمّة شجاعة القلب، فلا ريب أنّ أبا بكر كان أشجع من عمر، وعمر أشجع من عثمان وعلي وطلحة والزبير، وكان يوم بدر مع النبي في العريش «1».

إذن، تكون شجاعة أبي بكر بقوّة القلب فقط، وقد جاهد وقاتل بقوّة القلب!

فالشجاعة علي قسمين أوْ لها معنيان: الشجاعة التي يفهمها كلّ عربي، ومعني آخر يفهمه ابن تيميّة من الشجاعة: قوّة القلب، وأبو بكر كان قوي القلب!!

وهكذا يجيب ابن تيميّة عن توفّر هذا الشرط في علي دون الشيخين، يجيب عن ذلك بجوابٍ لا تجدونه في أيّ كتابٍ من الكتب، فيجعل عمر مقاتلًا، لكن لا باليد بل بالدعاء، والقتال بالدّعاء كالقتال باليد، ويجعل أبا بكر شجاعاً، لكن شجاعة القلب وهي المطلوبة في الأئمّة!! وكأنّ عليّاً كانت عنده الشجاعة البدنية ولم تكن عنده شجاعة قلبيّة!!

وكلّ هذا من ابن تيميّة ينفعنا في يقيننا بصحة استدلالاتنا، وإلّا فأيّ معني لتفسير القتال والجهاد في سبيل اللَّه وقتل طائفة من الكفّار بالدعاء؟

ثمّ لو كانا واجدين لقوّة القلب- كما يقول ابن تيميّة- فلماذا فرّا؟

لا ريب في أنّهما قد فرّا في أُحد، وقد روي الخبر أئمّة القوم، منهم:

1- أبو داود الطيالسي.

2- ابن سعد صاحب الطبقات.

3- أبو بكر البزّار.

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 8/ 79.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 344

4- الطبراني.

5- ابن حبّان.

6- الدارقطني.

7- أبو نعيم.

8-

ابن عساكر.

9- الضياء المقدسي.

وغيرهم من الأئمّة الأعلام.

راجعوا [كنز العمال ] «1»، لأنّ القضايا حساسة، فأضطرّ إلي إعطاء المصدر.

أمّا في خيبر، فقد روي فرارهما:

1- أحمد.

2- ابن أبي شيبة.

3- ابن ماجة.

4- البزّار.

5- الطبري.

6- الطبراني.

7- الحاكم.

8- البيهقي.

9- الضياء المقدسي.

10- الهيثمي.

وجماعة غيرهم.

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 10/ 424.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 345

راجعوا أيضاً [كنز العمال ]، يروي عن كلّ هؤلاء «1».

وأمّا في حنين، فالذي صبر مع رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو علي فقط، كما في الحديث الصحيح عن ابن عباس، وهذا الحديث في [المستدرك ] «2».

أمّا في الخندق، فالكلّ يعلم كلمة رسول اللَّه: «لَضربة علي في يوم الخندق أفضل من عبادة الثقلين» «3»، أو «أفضل من عبادة الأمّة إلي يوم القيامة» «4».

__________________________________________________

(1) كنز العمّال 10/ 461.

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 111.

(3) شرح المواهب اللدنّيّة 8/ 371.

(4) المستدرك علي الصحيحين 3/ 32.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 347

خاتمة المطاف … ص: 347

اشارة

ففي من توفّرت هذه الشروط: العلم، العدالة، الشجاعة؟ هذه الشروط والصفات المتفق علي ضرورة وجودها في شخص حتّي يصلح ذلك الشخص لانتخاب الناس إيّاه واختياره للإمامة بعد رسول اللَّه علي مسلك الاختيار؟

هذه الشروط إنّما توفّرت في علي عليه السّلام، وليست بمتوفرة في غيره، وعلي فرض وجودها في غيره أيضاً، أعني أبا بكر وعمر، فقد أمكننا أن نعرف- علي ضوء الأدلّة الواردة في الكتب الموثوقة المعتمدة- الذي كانت تلك الصفات موجودة فيه علي الوجه الأتم الأفضل، وقد ثبت أنّ عليّاً عليه السّلام- علي فرض وجود هذه الصفات في غيره- هو الأولي ، فثبت أنّه الأفضل، وثبت أنّه الأحق، «أَ فَمَنْ يَهْدي إِلَي الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لايَهِدّي إِلّا أَنْ يُهْدي ».

إذا كان الرجل والرجلان كلاهما يجهلان المسائل، لا المسألة والمسألتين، ومسائل يحتاجها كلّ مسلم في الأحكام

الشرعية، ويجهل الرجل ماذا كان رسول اللَّه يقرأ في صلاتي الفطر والأضحي ، كيف نجعل هذا الشخص قائماً مقام رسول اللَّه، متمكّناً من إقامة الحجج والبراهين، والذب عن دين اللَّه وعن شريعة سيد المرسلين، متي ما جاءت شبهة أو توجّهت هجمة فكرية مِنْ خارج البلاد الإسلامية؟ فما لهم كيف يحكمون.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 348

مسألة تقدّم المفضول علي الفاضل: … ص: 348

نعم، لا مناص لمن يقول بقبح تقدّم المفضول علي الفاضل كابن تيميّة- ابن تيميّة ينصُّ في أكثر من موضع من [منهاج السنّة] علي قبح تقدم المفضول علي الفاضل- فحينئذ لابدّ وأنْ يلتزم بإمامة علي.

إلّا أنّه يضطر إلي تكذيب الثوابت، ولا مناص له من التكذيب، حتّي لو كان الحديث موجوداً في الصحيحين وفي غير الصحيحين من الصحاح والكتب المعتبرة بأسانيد صحيحة، لأن النصب والعداء لأمير المؤمنين عليه السّلام يمنعه من الاعتراف بالحق والالتزام به، إلّاأنا نوضّح هذه الحقائق ونستدل عليها، عسي أن يرجع بعض الناس عن تقليده واتّباعه، ولا أقل من إقامة الحجة، ليهلك من هلك عن بيّنة.

نعم، هناك من يعترف بصحة هذه الأحاديث، إلّاأنّه ينفي قبح تقدّم المفضول علي الفاضل.

فيدور الأمر عند القائلين بإمامة أبي بكر وعمر، بين نفي قبح تقدّم المفضول علي الفاضل وقبول الأحاديث والآثار والأخبار هذه لصحّتها، وبين قبول قبح تقدّم المفضول علي الفاضل وتكذيب هذه الأحاديث والآثار والقضايا الثابتة.

وقد مشي علي الطريق الثاني ابن تيميّة، وعلي الطريق الأول الفضل ابن روزبهان، وكلاهما في مقام الرد علي العلّامة الحلّي في استدلالاته علي إمامة أمير المؤمنين، فابن روزبهان يقول بعدم ضرورة كون الإمام أفضل من غيره وأنّه لا يقبح تقدّم المفضول علي الفاضل، وحَكَم علي خلاف حكم العقلاء من الأولين والآخرين، وابن تيميّة يوافق علي هذا الحكم العقلي، إلّاأنّه

يكذّب الأحاديث الصحيحة ويتصرّف في معني الشجاعة ومعني القتل ومعني الجهاد.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 349

وإذا ما رجعتم إلي كتاب المواقف، وشرح المواقف، وشرح المقاصد، وغير هذه الكتب، ترونهم مضطربين، لا يعلمون ما يقولون، لا يفهمون بما يحكمون، فما لهم كيف يحكمون؟

فتارة يوافقون علي قبح تقدّم المفضول علي الفاضل، وهذه الأحاديث صحيحة.

وتارة يتأمّلون وكأنّهم لا يعلمون أنّ تقديم المفضول علي الفاضل قبيح أو لا، ويتركون البحث علي حاله؟

وقد نقلت هنا عبارة كتاب [المواقف ] للقاضي الإيجي، الذي ذكر في هذه المسألة الخلاف في تقدّم المفضول وعدم تقدّم المفضول، وأنّه قبيح أوْ لا، وهو ساكت لا يختار أحد القولين، لأنّه لا يدري ماذا يقول؟ يبقي متحيّراً، يبقي مضطرباً، لأنّ الأمر يدور بين الأمرين كما ذكرت.

وإذا سألت القاضي الإيجي عن أنّ أبا بكر أفضل من علي أوْ لا، وتريد منه الكلام الصريح والفتوي الواضحة في هذه المسألة، والإفصاح عن رأيه؟

يقول: بأنّ الأفضلية لا يمكننا أنْ ندركها ونتوصّل إليها!

ثمّ إنّ الصحابة قدّموا أبا بكر وعمر وعثمان علي علي، وجعلوا أولئك أفضل من علي، وحسن الظنّ بهم- أي بالصحابة- يقتضي أن نقول بقولهم ونوكل الأمر إلي اللَّه سبحانه وتعالي .

وهكذا يريد الفرار من هذه المسألة، والخروج من عهدة هذه القضية، وإلقاء المسؤولية علي الصحابة.

فأقول للقاضي الأيجي: إذن لماذا أتعبت نفسك؟ لماذا بحثت عن هذه المسألة؟ ولماذا طرحت هذه القضية في كتابك الذي أصبح أهم متنٍ في الكتب

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 350

الكلامية؟ وكان عليك من الأول أنْ تقول: بأنّ الصحابة كذا فعلوا ونحن كذا نقول، وإنّا علي آثارهم مقتدون، وكذلك يفعلون.

وإنّا للَّه وإنّا إليه راجعون، وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون، وصلّي اللَّه علي سيّدنا محمّد وآله الطاهرين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص:

353

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا محمّد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

بعد أنْ انتهينا من الأدلة المنتخبة علي إمامة أمير المؤمنين من نصوص الكتاب والسنّة، وانتهينا أيضاً من الدليل العقلي علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام، علي ضوء ما أسّسه وقرّره علماء الكلام من أهل السنّة، في الشروط المعتبرة في الإمام عندهم، وأنّه لولا تلك الشروط لما جاز انتخاب ذلك الشخص واختياره إماماً بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، حيث أنّهم يقولون بأنّ الإمامة تكون بالاختيار والانتخاب، وعلي هذا الأساس يعيّنون له الأوصاف والشروط التي لابدّ من توفّرها فيه حتي يُنتخب، ونحن تكلّمنا معهم علي أساس تلك الشروط المعتبرة فيما بينهم بالإجماع وعلي ضوء كلمات كبار علمائهم.

البحث الآن في الأدلّة التي يقيمونها علي إمامة أبي بكر، ولولا التعرّض لهذه الأدلّة لبقي البحث ناقصاً، لأنّا قد أقمنا الأدلّة علي إمامة أمير المؤمنين، لكنّهم أيضاً يقيمون الأدلّة علي إمامة أبي بكر، فلابدّ من النظر في تلك الأدلّة أيضاً، لنري مدي تمامية تلك الأدلّة بحسب الموازين العلميّة.

وفي هذا الفصل من بحثنا أيضاً، سنكون ملتزمين بآداب البحث وبقواعد المناظرة، وسنري أنّهم يستدلّون بأحاديث أو بأدلّة تختص بهم أو يختصّون هم

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 354

وينفردون هم بالاستدلال بتلك الأدلّة، وبرواية تلك الأحاديث، وقد قلنا وقرّرنا وأسّسنا منذ الليلة الأُولي أنّ الأدلّة يجب أن تكون مورد قبول عند الطرفين، أو تكون الأدلّة التي يستدلّ بها كلّ طرفٍ مقبولة عند الطرف المقابل، ليتمّ لهذا الطرف الإلزام والإحتجاج بالأدلّة التي يرتضيها الطرف المقابل ويقول باعتبارها.

لكن الأدلّة التي يستدلّون بها علي إمامة أبي بكر أدلّة ينفردون هم بها، وإذا كانت روايات،

فإنّها ليست إلّافي كتبهم وعن طرقهم، ومع ذلك ننظر في تلك الروايات ونباحثهم فيها علي أساس كتبهم ورواياتهم وأقوال علمائهم.

وكما أشرتُ من قبل، نكون في هذا الفصل أيضاً ملتزمين بآداب البحث، ملتزمين بالمتانة في الكلام، ملتزمين بعدم التعصب، وكلّ استدلالاتنا ستكون علي ضوء رواياتهم وكتبهم، ليتّضح لهم عدم تماميّة أدلّتهم بحسب كلمات علمائهم، فكيف يلزمونا بمثل هذه الأدلّة التي هم لا يقبلون بها، وعلماؤهم لا يرتضون بصحّتها وجواز الاستدلال بها؟

وعندما نريد أنْ ننقل تلك الأدلّة، نعتمد علي أهم كتبهم وأشهرها في علم العقائد.

وأهم كتبهم: كتاب المواقف في علم الكلام وشرح المواقف وأيضاً شرح المقاصد، هذه أهم كتبهم الكلامية التي ألّفت في القرن الثامن والتاسع من الهجرة، وكانت هذه الكتب تدرس في حوزاتهم العلمية، ولأساتذتهم شروح وحواشي كثيرة علي هذه الكتب، فلو رجعتم إلي [كشف الظنون ] وقرأتم ما جاء فيه عن شرح المواقف وعن شرح المقاصد وعن المواقف «1» نفسها، لرأيتم كثرة الكتب والشروح والحواشي المؤلفة عليها، وإنّ هذه الكتب قد أصبحت المحور لتلك الكثرة من الكتب الكلاميّة عندهم، ولا خلاف بينهم في اعتباره هذه الكتب وأهميتها، وكونها المعتمد والمستند عندهم في مباحث العقائد.

__________________________________________________

(1)

كشف الظنون 2/ 1780، 1891.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 355

ابطال ما أستدل به لإمامة أبي بكر … ص: 355

أهمّ أدلّة القوم علي إمامة أبي بكر … ص: 355

إذن، لننظر في أهمّ أدلّتهم علي إمامة أبي بكر، ولننظر ماذا يقولون هم في هذه الأدلّة.

نصّ عبارة [شرح المواقف ] «1»:

المقصد الرابع: في الإمام الحق بعد رسول اللَّه، هو عندنا أبو بكر، وعند الشيعة علي … لنا وجهان- أي دليلان- الأول: إنّ طريقه- طريق الإمام- وتعيين الإمام، إمّا النص أو الإجماع … أمّا النصّ فلم يوجد «2»، وأمّا الإجماع، فلم يوجد علي غير أبي بكر إتفاقاً من الأُمّة … الإجماع منعقد علي حقيّة إمامة أحد

الثلاثة:

أبي بكر وعلي والعباس [أي: الشبهة محصورة بين هؤلاء الثلاثة] ثمّ إنّهما [إي علي والعباس ] لم ينازعا أبا بكر، ولو لم يكن علي الحق [أبو بكر] لنازعاه.

إذن، فإنّ الدليل علي إمامة أبي بكر هو عن طريق الإجماع، وقد اعترف بعدم وجود النص.

فالدليل الأول علي إمامة أبي بكر هو الإجماع.

__________________________________________________

(1) شرح المواقف 8/ 354.

(2) فيعترف وينصّ علي عدم وجود نص من اللَّه ورسوله علي أبي بكر، وإنْ كان يدّعي عدم وجود نص علي علي، لكن كلامنا الآن في أبي بكر.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 356

ويقول صاحب [شرح المقاصد] «1» في المبحث الثالث في طريق ثبوت الإمامة:

إنّ الطريق إمّا النص وإمّا الاختيار «2»، والنص منتفٍ في حقّ أبي بكر، مع كونه إماماً بالإجماع.

فظهر إلي الآن أنْ لا نصّ علي أبي بكر، وأنّ الدليل هو الإجماع.

يبقي طريق ثالث، هم أيضاً يتعرضون لذلك الطريق، وهو طريق الأفضلية، فكما بحثنا نحن يبحثون هم أيضاً عن الأفضلية، كما أشرنا بالأمس، ولكنّهم عندما يبحثون عن الأفضلية يختلفون في اشتراطها في الإمام، فمن أنكر اعتبار الأفضليّة فلا داعي له للإصرار علي أفضلية أبي بكر، كالفضل ابن روزبهان، وقد أشرنا أمس، وأمّا الذي يعتبر الأفضليّة في الإمام، فلابدّ وأن يصرّ علي أفضليّة أبي بكر، لأنّه قائل بإمامة أبي بكر، ومن هؤلاء القائلين بالأفضليّة ابن تيميّة، ولذا يصرّ علي أفضليّته، ويكذّب كلّما يستدلّ به الإماميّة علي أفضليّة علي عليه السّلام.

__________________________________________________

(1)

شرح المقاصد 5/ 255.

(2) لاحظوا: شارح المواقف يقول: الإجماع، شارح المقاصد يقول: الإختيار، وفرقٌ بين الإجماع والإختيار، وكلّ هذا سيتّضح في محلّه بالتفصيل.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 357

أدلّة القوم علي أفضلية أبي بكر … ص: 357

اشارة

حينئذ نرجع إلي بحث الأفضليّة في كتاب المواقف وشرح المواقف «1» يقول:

المقصد الخامس: في أفضل الناس بعد رسول اللَّه،

هو عندنا وأكثر قدماء المعتزلة أبو بكر، وعند الشيعة وعند أكثر متأخّري المعتزلة علي.

فيظهر إلي هنا: أنّ الدليل عندهم علي إمامة أبي بكر: الإجماع والأفضليّة، بناء علي اعتبار الأفضليّة في الإمام، والنصّ عندهم مفقود.

أمّا نحن، فقد أقمنا الأدلّة الثلاثة كلّها علي إمامة أمير المؤمنين عليه الصلاة والسلام.

هم يقولون بعدم النصّ علي أبي بكر ويعترفون بهذا، فتبقي دعوي الأفضليّة، ثمّ دعوي الإجماع علي إمامة أبي بكر.

فلننظر إلي أدلّتهم علي الأفضليّة:

الدليل الأول: … ص: 357

قوله تعالي «وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَي* الَّذي يُؤْتي مالَهُ يَتَزَكَّي* وَما لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ

__________________________________________________

(1) شرح المواقف 8/ 365.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 358

نِعْمَةٍ تُجْزي » «1».

يقول في [شرح المواقف ]: قال أكثر المفسّرين، وقد اعتمد عليه العلماء: إنّها نزلت في أبي بكر، فهو أتقي ، ومن هو أتقي فهو أكرم عند اللَّه تعالي ، لقوله عزّوجلّ: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ» «2»

، فيكون أبو بكر هو الأفضل عند اللَّه سبحانه وتعالي .

ولا ريب أنّ من كان الأفضل والأكرم عند اللَّه، هو المتعيّن للإمامة والخلافة بعد رسول اللَّه، وهذا لا إشكال فيه، وأبو بكر هو الأفضل، الأفضل من الأُمّة كلّها بعد رسول اللَّه، فهو المتعيّن للخلافة بعده صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

الدليل الثاني: … ص: 358

قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «إقتدوا باللَّذين من بعدي أبي بكر وعمر».

فإنّ «اقتدوا» أمر، والخطاب لعموم المسلمين، وهذا الخطاب العام يشمل عليّاً، فعلي أيضاً مأمور بالاقتداء بالشيخين، فيجب علي علي أنْ يكون مقتدياً بالشيخين، والمقتدي هو الإمام.

وهذا حديث نبوي يروونه في كتبهم، فحينئذ، يكون دليلًا علي إمامة أبي بكر، وخلافة عمر فرع خلافة أبي بكر، فإذا ثبتت خلافة أبي بكر ثبتت خلافة عمر، وليس البحث الآن في خلافة عمر بن الخطّاب.

الدليل الثالث: … ص: 358

إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال لأبي الدرداء: «واللَّه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين علي رجل أفضل من أبي بكر».

__________________________________________________

(1) شرح المواقف 8/ 365.

(2) سورة الحجرات (49): 13.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 359

وهذا في الحقيقة يصلح لأنْ يكون نصّاً علي إمامة أبي بكر، فإذا كان النبي يُقسم علي أنه ما طلعت شمس ولا غربت بعد النبيين والمرسلين علي رجل أفضل من أبي بكر، كان أبو بكر أفضل من علي، وتقديم المفضول علي الفاضل أو تقديم الفاضل علي الأفضل قبيح، فيكون أبو بكر هو المتعين للخلافة والإمامة بعد رسول اللَّه.

الدليل الرابع: … ص: 359

قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لأبي بكر وعمر: «هما سيّدا كهول أهل الجنّة ما خلا النبيين والمرسلين».

ومن كان سيّد القوم، كبير القوم، فهو الإمام لهم، هو المقتدي بينهم، هو المتّبع، وعلي أيضاً من الناس، فيكون علي من جملة من عليه أن يتّبع الشيخين، وهما سيّدا كهول أهل الجنّة.

الدليل الخامس: … ص: 359

قوله عليه السّلام: «ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره».

إذن، غير أبي بكر لا يجوز أنْ يتقدّم علي أبي بكر، وهذا يشمل عليّاً أيضاً، فعلي لا يجوز له أنْ يتقدّم علي أبي بكر، ولا يجوز لأحدٍ أن يدّعي التقدم لعليّ علي أبي بكر، لأنّه سيخالف قول رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

الدليل السادس: … ص: 359

تقديمه- أي تقديم النبي أبا بكر- في الصلاة مع أنّها أفضل العبادات، فأبو بكر صلّي في مكان النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في مرض النبي، وكانت صلاته تلك علي ما يروون بأمرٍ من النبي، والصلاة أفضل العبادات، فإذا صلّي أحد في

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 360

مكان النبي وأمّ المسلمين بأمر من النبي، فيكون هذا الشخص صالحاً لأنْ يكون إماماً للمسلمين بعد النبي.

الدليل السابع: … ص: 360

قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «خير أُمّتي أبو بكر ثمّ عمر».

وهذا أيضاً حديث يروونه في كتبهم.

الدليل الثامن: … ص: 360

قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «لو كنت متّخذاً خليلًا دون ربي لاتّخذت أبا بكر خليلًا».

الدليل التاسع: … ص: 360

قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وقد ذكر عنده أبو بكر: «وأين مثل أبي بكر، كذّبني الناس وصدّقني، وآمن بي وزوّجني ابنته، وجهّزني بماله، وواساني بنفسه، وجاهد معي ساعة الخوف».

الدليل العاشر: … ص: 360

قول علي عليه السّلام: «خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ اللَّه أعلم».

هذه هي عمدة أدلّتهم علي أفضليّة أبي بكر، تجدون هذه الأدلّة في: كتب الفخر الرازي، وفي الصواعق المحرقة، وفي شرح المواقف، وفي شرح المقاصد، وفي عامة كتبهم من المتقدّمين والمتأخرين، وحتي المعتزلة، فإنّهم أيضاً يشاركون الأشاعرة في الاستدلال بمثل هذه الأدلّة علي إمامة أبي بكر، إلّاالمعتزلة المتأخرين الذين لا يقولون بأفضليّة أبي بكر، وإنّما يقولون بأفضليّة علي، لكن يقولون بأنّ المصلحة اقتضت أن يتقدّم أبو بكر علي علي في الإمامة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 361

مناقشة أدلّة القوم عَلي أفضلية أبي بكر … ص: 361

اشارة

ذكرنا عامّة أدلّتهم، ولو سألتني عن أهمّ تلك الأدلّة لذكرت لك: قضيّة الصّلاة أوّلًا، وحديث «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر»، فهما أهم هذه الأدلّة العشرة.

لكنّا نبحث عن كلّ هذه الأدلّة واحداً واحداً، علي ضوء كتبهم، وعلي أساس رواياتهم، وأقوال علمائهم.

الدليل الأول: … ص: 361

قوله تعالي : «وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَي* الَّذي يُؤْتي مالَهُ يَتَزَكَّي* وَما لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزي ».

هذه آية قرآنية، وكما ذكرنا في مباحثنا حول الآيات المستدلّ بها علي إمامة أمير المؤمنين عليه السّلام: إنّ دلالة الآية علي إمامة علي تتوقّف علي ثبوت نزولها في علي وبدليل معتبر، وإلّا فالآية من القرآن، وليس فيها اسم علي ولا اسم غير علي.

وقوله تعالي : «وَسَيُجَنَّبُهَا اْلأَتْقَي» يتوقّف الاستدلال به علي مقدّمات، حتّي تتمّ دلالة الآية علي إمامة أبي بكر …

أوّلًا: الاستدلال بهذه الآية علي إمامة أبي بكر يتوقّف علي سقوط جميع

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 362

الأدلّة التي أقامها الإمامية علي عصمة علي عليه السّلام، وإلّا فالمعصوم أكرم عند اللَّه سبحانه وتعالي ممّن يؤتي ماله يتزكّي ، فإذن، يتوقّف الاستدلال بهذه الآية علي إمامة أبي بكر- لو كانت نازلةً فيه- علي عدم تماميّة تلك الأدلّة التي أقامها الإمامية علي عصمة علي عليه السّلام، وإلّا فلو تمّ شي ء من تلك الأدلّة، لكان علي أكرم عند اللَّه سبحانه وتعالي ، وحينئذ، يبطل هذا الاستدلال.

وثانياً: يتوقف الاستدلال بهذه الآية المباركة لأكرميّة أبي بكر، علي أنْ لا يتمّ ما استُدلّ به لأفضليّة علي عليه السّلام، وإلّا لتعارضا بناء علي صحة هذا الاستدلال وحجيّة الحديث الوارد في ذيل هذه الآية المباركة، ويكون الدليلان حجّتين متعارضين، ويتساقطان، فلا تبقي في الآية هذه دلالة علي إمامته.

ولكنّ ممّا لا يحتاج إلي أدلّة إثباتٍ هو: أنّ عليّاً عليه السّلام لم يسجد لصنم

قط، وأبو بكر سجد، ولذا يقولون- إذا ذكروا عليّاً-: كرّم اللَّه وجهه، وهذا يقتضي أن يكون علي أكرم عند اللَّه سبحانه وتعالي .

ثالثاً: يتوقف الاستدلال بهذه الآية المباركة علي نزول الآية في أبي بكر، والحال أنّهم مختلفون في تفسيرها علي ثلاثة أقوال:

القول الأول: إنّ الآية عامّة للمؤمنين ولا اختصاص لها بأحد منهم.

القول الثاني: إنّ الآية نازلة في قصّة أبي الدحداح وصاحب النخلة، راجعوا [الدر المنثور في التفسير بالمأثور] «1»، يذكر لكم القصة في ذيل هذه الآية، وإنّ الآية بناء علي هذا القول نازلة بتلك القصة ولا علاقة لها بأبي بكر.

القول الثالث: إنّ الآية نازلة في أبي بكر.

فالقول بنزول الآية المباركة هو أحد ثلاثة أقوال عندهم.

__________________________________________________

(1)

الدرّ المنثور 8/ 532.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 363

لكن هذا القول- أي القول بنزول الآية في أبي بكر- يتوقف علي صحة سند الخبر به، وإذا لم يتمّ الخبر الدال علي نزول الآية في أبي بكر يبطل هذا القول.

وإليكم المصدر الذي ذُكر فيه خبر نزول الآية في أبي بكر، وتصريحه بضعف سند هذه الرواية:

الرواية يرويها الطبراني، ويرويها عنه الحافظ الهيثمي في [مجمع الزوائد]، ثمّ يقول: فيه مصعب بن ثابت، وفيه ضعف «1».

فالقول الثالث الذي هو أحد الأقوال في المسألة، يستند إلي هذه الرواية، والرواية ضعيفة.

ومصعب بن ثابت حفيد عبداللَّه بن الزبير، فهو مصعب بن ثابت بن عبداللَّه بن الزبير، وآل الزبير منحرفون عن أهل البيت كما هو مذكور في الكتب المفصّلة المطوّلة، ومصعب بن ثابت: ضعّفه يحيي بن معين وأحمد بن حنبل، وقال أبو حاتم: لا يحتجّ به، وقال النسائي: ليس بالقوي، وهكذا قال غير هؤلاء «2».

فكيف يستدلّ بالآية المباركة علي أكرميّة أبي بكر وأفضليّته، وفي المسألة ثلاثة أقوال، والقول بنزولها في أبي بكر

يستند إلي رواية واحدة، وتلك الرواية ضعيفة؟

مضافاً: إلي أنّ هذا الاستدلال موقوف علي عدم تماميّة أدلّة الإماميّة علي أفضليّة أمير المؤمنين وإمامته … كما ذكرنا.

الدليل الثاني: … ص: 363

الحديث: «إقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر».

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 50.

(2) تهذيب التهذيب 10/ 144.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 364

هذا الحديث من أحسن أدلّتهم علي إمامة الشيخين …، يستدلون بهذا الحديث في كتب الكلام، وفي كتب الأُصول أيضاً، واستناداً إلي هذا الحديث يجعلون اتفاق الشيخين حجة، ويعتبرون سنّة الشيخين إستناداً إلي هذا الحديث حجة، فالحديث مهمّ جدّاً، لاسيّما وأنّه في مسند [أحمد بن حنبل ] «1»، وأيضاً في [صحيح الترمذي ] «2»، وأيضاً في [مستدرك الحاكم ] «3»، فهو حديث موجود في كتب معتبرة مشهورة، ويستدلّون به في بحوث مختلفة.

ولكن بإمكانكم أن ترجعوا إلي أسانيد هذا الحديث، وتدقّقوا النظر في حال تلك الأسانيد، علي ضوء أقوال علمائهم في الجرح والتعديل، ولو فعلتم هذا ودقّقتم النظر وتتبعتم في الكتب، لرأيتم جميع أسانيده ضعيفة، وكبار علمائهم ينصّون علي كثير من رجال هذا الحديث بالضعف، ويجرحونهم بشتّي أنواع الجرح.

لكنّكم لابدّ وأنْ تطلبون منّي أن أذكر لكم خلاصة ما يقولونه في هذا المقام، وأُقرّب لكم الطريق فلا تحتاجون إلي مراجعة الكتب، فأقول:

قال المنّاوي في شرح هذا الحديث في [فيض القدير في شرح الجامع الصغير] «4»: أعلّه أبو حاتم وقال البزّار كابن حزم لا يصح «5».

فهؤلاء ثلاثة من أئمّتهم يردّون هذا الحديث: أبو حاتم، أبو بكر البزّار، وابن حزم الأندلسي.

__________________________________________________

(1)

مسند أحمد 5/ 382، 385.

(2) صحيح الترمذي 6/ 45 رقم 3663، و 137 رقم 3805.

(3) المستدرك علي الصحيحين 3/ 75.

(4) فيض القدير 2/ 56.

(5) المصدر 2/ 56.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 365

والترمذي حيث أورد هذا الحديث في كتابه

بأحسن طرقه، يضعّفه بصراحة، فراجعوا كتاب [الترمذي ] وهو موجود «1».

وإذا ما رجعتم إلي كتاب [الضعفاء الكبير] لأبي جعفر العُقيلي، لرأيتموه يقول منكر لا أصل له «2».

وإذا رجعتم إلي [ميزان الإعتدال ] يقول نقلًا عن أبي بكر النقّاش: وهذا الحديث واهٍ «3».

ويقول الدارقطني- وهو أمير المؤمنين في الحديث عندهم في القرن الرابع الهجري-: هذا الحديث لا يثبت «4».

وإذا رجعتم إلي كتاب العلّامة العبري الفرغاني المتوفّي سنة 743 ه، يقول في [شرحه علي منهاج البيضاوي ]: إنّ هذا الحديث موضوع «5».

ولو رجعتم إلي [ميزان الاعتدال ] لرأيتم الحافظ الذهبي يذكر هذا الحديث في مواضع عديدة من هذا الكتاب، وهناك يردّ هذا الحديث ويكذّبه ويبطله، فراجعوا «6» إن شئتم.

وإذا رجعتم إلي [تلخيص المستدرك ] ترونه يتعقّب الحاكم ويقول: سنده واه جدّاً «7».

__________________________________________________

(1) صحيح الترمذي 6/ 138.

(2) الضعفاء الكبير 4/ 95.

(3) ميزان الإعتدال 1/ 142.

(4) لسان الميزان 5/ 237.

(5) شرح المنهاج: مخطوط.

(6) ميزان الإعتدال 1/ 105، 141 و 43/ 610.

(7) تلخيص المستدرك 3/ 75- 76.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 366

وإذا رجعتم إلي [مجمع الزوائد] للهيثمي حيث يروي هذا الحديث عن طريق الطبراني يقول: وفيه من لم أعرفهم «1».

وإذا رجعتم إلي [لسان الميزان ] «2» لابن حجر العسقلاني الحافظ شيخ الإسلام، لرأيتموه يذكر هذا الحديث في أكثر من موضع، وينصّ علي سقوطه.

وإذا رجعتم إلي أحد أعلام القرن العاشر من الهجرة، وهو شيخ الإسلام الهروي، له كتاب [الدر النضيد من مجموعة الحفيد]- وهذا الكتاب مطبوع موجود- يقول: هذا الحديث موضوع «3».

وابن درويش الحوت، يورده في كتابه [أسني المطالب في أحاديث مختلفة المراتب ]، ويذكر الأقوال في ضعف هذا الحديث وسقوطه وبطلانه «4» «5».

فهذا الحديث- إذن- لا يليق لأنْ يستدلّ به علي مبحث الإمامة، سواء كان يستدلّ به

الشيعة الإمامية أو السنّة، حتّي لو أردنا أن نستدلّ عليهم بمثل هذا الحديث لإمامة علي عليه السّلام، وهو حديث تبطله هذه الكثرة من الأئمّة، فلا يمكن الإحتجاج به علي القوم لإثبات الإمامة أصلًا، ولا يمكن الإستدلال به في مورد من الموارد.

ولذا نري بعضهم لمّا يري سقوط هذا الحديث سنداً، ومن ناحية أُخري يراه

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 53.

(2) لسان الميزان 1/ 188، 272 و 5/ 237.

(3) الدرّ النضيد من مجموعة الحفيد: 97.

(4) أسني المطالب في أحاديث مختلفة المراتب: 48.

(5) هذا، وللحافظ ابن حزم الأندلسي في الاستدلال بهذا الحديث كلمة مهمة جدّاً، إنّه يقول ما هذا نصّه: ولو أننا نستجيز التدليس والأمر الذي لو ظفر به خصومنا طاروا به فرحاً أو أبلسوا أسفاً لاحتججنا بما روي: اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر، ولكنّه لم يصح ويعيذنا اللَّه من الاحتجاج بما لا يصح» الفصل في الملل والنحل 4/ 88.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 367

حديثاً مفيداً لإثبات إمامة أبي بكر دلالة ومعنيً، يضطر إلي أن ينسبه إلي الشيخين والصحيحين كذباً.

فالقاري- مثلًا- ينسب هذا الحديث في كتابه [شرح الفقه الأكبر] إلي صحيحي البخاري ومسلم، وليس الحديث موجوداً في الصحيحين، ممّا يدلّ علي أنّهم يعترفون بسقوط هذا الحديث سنداً، لكنّهم غافلون عن أنّ الناس سينظرون في كتبهم وسيراجعونها، وسيحقّقون في المطالب التي يذكرونها.

ثمّ كيف يأمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بالإقتداء بالشيخين، مع أنّ الشيخين اختلفا في كثير من الموارد، فبمن يقتدي المسلمون؟ وكيف يأمر رسول اللَّه بالإقتداء بالشيخين، مع أنّ الصحابة خالفوا الشيخين في كثير ممّا قالا وفعلا؟ وهل بإمكانهم أن يفسّقوا أولئك الصحابة الذين خالفوا الشيخين في أقوالهما وأفعالهما، وتلك الموارد كثيرة جدّاً؟!

الدليل الثالث: … ص: 367

قول رسول اللَّه

لأبي الدرداء: «ما طلعت شمس ولا غربت … » إلي آخره.

هذا الحديث ضعيف للغاية عندهم، فقد رواه الطبراني في [الأوسط] بسند قال الهيثمي: فيه إسماعيل بن يحيي التيمي، وهو كذّاب.

وفي مجمع الزوائد بسند آخر يرويه عن الطبراني ويقول: فيه بقيّة [بقيّة بن الوليد] وهو مدلّس وهو ضعيف «1».

وهو ساقط عند علماء الرجال.

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 44.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 368

الدليل الرابع: … ص: 368

«هما سيّدا كهول أهل الجنّة».

هذا الحديث يرويه البزّار، والطبراني، كلاهما عن أبي سعيد.

قال الهيثمي حيث رواه عنهما في [مجمع الزوائد]: فيه علي بن عابس، وهو ضعيف.

ويرويه الهيثمي عن البزّار عن عبيداللَّه بن عمر ويقول في راويه عبدالرحمن بن ملك: هو متروك «1».

ليس لهذا الحديث سند غير هذين السندين.

الدليل الخامس: … ص: 368

«ما ينبغي لقوم فيهم أبو بكر أنْ يتقدّم عليه غيره».

ومن حسن الحظ: أنّ الحافظ ابن الجوزي أورد هذا الحديث في كتاب [الموضوعات ] وقال: هذا حديث موضوع علي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم «2».

وإذا كانت فتاوي ابن الجوزي معتبرة عند ابن تيميّة وأمثاله، فليكنْ قوله وفتواه في هذا المورد أيضاً حجة.

الدليل السادس: … ص: 368

وأمّا صلاة أبي بكر، وهي مسألة مهمة جدّاً لسببين:

السبب الأوّل: إنّ خبر صلاة أبي بكر وارد في الصحيحين، لا بسند بل أكثر،

__________________________________________________

(1) مجمع الزوائد 9/ 53.

(2) كتاب الموضوعات 1/ 318، 2/ 100.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 369

ووارد في المسانيد والسنن، وفي أكثر كتبهم المعتبرة المشهورة «1».

وثانيا: الصّلاة أفضل العبادات، وإذا كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد أرسل أبا بكر ليصلّي في مكانه في حال مرضه ودنوّ أجله، فإنّه سيكون دليلًا علي أنّه يريد أنْ يرشّحه للخلافة من بعده، فيكون حديث صلاة أبي بكر في مكان رسول اللَّه، من أحسن الأدلّة علي إمامة أبي بكر.

ولو راجعتم الكتب، لرأيتم اهتمامهم بهذا الحديث، واستدلالهم به وجعله علي رأس جميع الأدلّه، وفي أوّل ما يحتجّون به لإمامة أبي بكر.

رووا هذا الحديث عن عدّة من الصحابة، يروون هذا الخبر مرسلًا، أو يسمعون الخبر من عائشة وتكون هي الواسطة في نقله، وحينئذ تنتهي جميع أسانيد هذا الخبر إلي عائشة، وعائشة متّهمة في نقل مثل هذه القضايا لسببين:

الأوّل: مخالفتها لعلي.

الثاني: كونهابنت أبي بكر.

ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الناحية، لو نظرنا إلي ملابسات هذه القضية والقرائن الداخلية في ألفاظ الخبر، وكذلك القرائن الخارجية التي لها علاقة لهذا الموضوع، لرأيتم أن إرسال أبي بكر إلي الصلاة كان بإيعاز من عائشة نفسها، ولم يكن من رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه

وآله وسلّم.

فمن جملة القرائن المهمة التي لها الأثر البالغ في فهم هذه القضية: قضيّة أمر رسول اللَّه بخروج القوم مع أُسامة، قضية بعث أُسامة، وتأكيده صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم علي هذا البعث إلي آخر لحظة من حياته المباركة.

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 356، 6/ 34، صحيح البخاري 1/ 162 و 165 كتاب الأذان، صحيح مسلم 2/ 23، سنن ابن ماجة 1/ 389، سنن النسائي 2/ 304.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 370

أمّا أنّ النبي كان يؤكّد علي بعث أُسامة، وإلي آخر لحظة من حياته، فلم يخالف فيه أحد، ولا خلاف فيه أبداً، وهو مذكور في كتبنا وفي كتبهم.

وأمّا أنّ كبار الصّحابة وعلي رأسهم أبو بكر وعمر كانا في هذا البعث، فهذا أيضاً ثابت بالكتب المعتبرة التي نقلت هذا الخبر، فكيف يأمر رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بخروج أبي بكر في بعث أُسامة، ويؤكّد علي خروجه إلي أخر لحظة من حياته، ومع ذلك يأمر أبا بكر أنْ يصلّي في مكانه؟

وهنا يضطرّ مثل ابن تيميّة لأن ينكر وجود أبي بكر في بعث أُسامة، ويقول:

هذا كذب «1»، لأنّه يعلم بأنّ وجود أبي بكر في بعث أُسامة، يعني كذب خبر إرسال أبي بكر إلي الصلاة، ولكنّ مسألة الصلاة من أهمّ أدلّتهم علي إمامة أبي بكر، إذن، لابدّ من الإنكار، والحال أنّ وجود أبي بكر بعث أُسامة لا يقبل الإنكار أبداً.

أنقل لكم عبارة واحدة فقط، يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني في كتاب [فتح الباري بشرح البخاري ]:

قد روي ذلك- أي كون أبي بكر في بعث أُسامة- الواقدي وابن سعد، وابن إسحاق، وابن الجوزي، وابن عساكر، وغيرهم «2». أي: وغيرهم من علماء المغازي والحديث.

ولذا لمّا توفّي رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله

وسلّم كان أُسامة بجيشه في خارج المدينة، ولمّا ولّي أبو بكر اعترض أُسامة ولم يبايع أبا بكر، قال: أنا أمير علي أبي بكر وكيف أُبايعه؟ ولذا لمّا سيّر أبو بكر أُسامة بما أمره رسول اللَّه به، استأذن منه إبقاء عمر في المدينة المنورة، ليكون معه في تطبيق الخطط المدبرة.

__________________________________________________

(1)

منهاج السنّة 4/ 276.

(2) فتح الباري 8/ 124.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 371

إنّ القرائن الداخلية والخارجية تقتضي كذب هذا الخبر، أي خبر: أنّ النبي أرسل أبا بكر إلي الصّلاة.

ولكن لا نكتفي بهذا القدر، ونضيف أنّ عليّاً عليه السّلام كان يعتقد، وكذا أهل البيت كانوا يعتقدون، بأنّ خروج أبي بكر إلي الصلاة كان بأمر من عائشة لا من رسول اللَّه.

قال ابن أبي الحديد: سألت الشيخ- أي شيخه وأُستاذه في كلام له في هذه القضية- أفتقول أنت أنّ عائشة عيّنت أباها للصلاة ورسول اللَّه لم يعيّنه؟ فقال: أمّا أنا فلا أقول ذلك، لكن عليّاً كان يقوله، وتكليفي غير تكليفه، كان حاضراً ولم أكن حاضراً «1».

ولا نكتفي بهذا القدر، فنقول:

سلّمنا بأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو الذي أمر أبا بكر بهذه الصلاة، فكم من صحابي أمره رسول اللَّه بأن يصلّي في مكانه في مسجده وفي محرابه، ولم يدّع أحد ثبوت الإمامة بتلك الصلاة لذلك الصحابي.

لكنْ لكم أن تقولوا: بأنّ الصلاة في أُخريات حياته تختلف عن الصلاة في الأوقات السابقة، هذه الصلاة بهذه الخصوصية حيث كانت في أواخر حياته فيها إشعار بالنصب، بنصب أبي بكر للإمامة من بعده.

فاسمع لواقع القضية، واستمع لما يأتي:

إنّه لو كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم هو الآمر، فقد ذكرت تلك الأخبار أنّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم خرج بنفسه الشريفة- معتمداً علي رجلين

ورجلاه تخطّان علي الأرض- ونحّي أبا بكر عن المحراب، وصلّي تلك

__________________________________________________

(1) شرح نهج البلاغة 9/ 198.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 372

الصلاة بنفسه.

لكنّهم يعودون فيقولون: بأنّ صلاة أبي بكر كانت أيّاماً عديدة، وهذا الذي وقع من رسول اللَّه وقع مرّة واحدةً فقط.

قلت:

أوّلًا: لم تكن الصّلاة أيّاماً، بل هي صلاة واحدة، وهي صلاة الصبح من يوم الإثنين، فكانت صلاة واحدة.

وثانياً: علي فرض أنّه قد صلّي أيّاماً وصلوات عديدة، ففعل رسول اللَّه ذلك في آخر يوم من حياته، وخروجه بهذا الشكل معتمداً علي رجلين ورجلاه تخطّان علي الأرض، دليل علي أنّه عزله بعد أن نصبه لو صحّ هذا النصب.

فلو سلّمنا أنّ الآمر بهذه الصّلاة هو رسول اللَّه، لو سلّمنا هذا، فرسول اللَّه ملتفت إلي أنّهم سيستدلّون بهذه الصلاة علي إمامته من بعده، ويجعلون هذا الفعل إشعاراً بالإمامة والخلافة العامة من بعده صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، فخرج بهذا الشكل ليرفع هذا التوهّم وليزيل هذا الإشعار، وهذا موجود في نفس الروايات التي اشتملت في أوّلها علي أنّ رسول اللَّه هوالآمر بهذه الصلاة بزعمهم.

وهنا نكات:

النكتة الأولي : قالت الروايات: إنّه خرج معتمداً علي رجلين، والراوي عائشة بنت أبي بكر- كما ذكرنا، الأخبار كلّها تنتهي إليها- خرج رسول اللَّه معتمداً علي رجلين ورجلاه تخطّان الأرض، وتنحّي أبو بكر عن المحراب، وصلّي تلك الصلاة بنفسه الشريفة.

وخروجه بهذه الصّورة، دليل علي العزل لو كان هناك نصّ.

وعائشة ذكرت أحد الرجلين اللذين اعتمد عليهما رسول اللَّه لدي خروجه، ولم تذكر اسم الرجل الثاني، وقد كان الرجل الثاني علي عليه السّلام، ممّا يدلّ

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 373

علي انزعاجها من هذا الفعل.

يقول ابن عباس للراوي: أسمّتْ لك الرجل الثاني؟ قال: لا.

قال: هو علي، ولكنّها لا تطيب نفساً

بأن تذكره بخير «1».

النكتة الثانية: إنّه لمّا رأي بعض القوم أنّ خروج النبي بهذه الصورة وصلاته بنفسه وعزل أبي بكر، سيهدم أساس استدلالهم بهذه الصّلاة علي إمامة أبي بكر بعد رسول اللَّه، وضع حديثاً في أنّ رسول اللَّه لم يعزل أبا بكر، وإنّما جاء إلي الصلاة معتمداً علي رجلين، وصلّي خلف أبي بكر «2»، فثبتت القضية وقويت.

وبعبارة أُخري : رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم ينصب أبا بكر عملًا، مضافاً إلي إرساله إلي الصلاة لفظاً وقولًا، إذ يأتي معتمداً علي رجلين حينئذ ورجلاه تخّطان الأرض ويصلّي خلف أبي بكر.

ومن الذي يمكنه حينئذ من أنْ يناقش في إمامة أبي بكر وكونه خليفة لرسول اللَّه، مع اقتداء رسول اللَّه به في الصلاة، ألا يكفي هذا لأن يكون دليلًا علي إمامة أبي بكر لمن عدا رسول اللَّه؟

نعم، وضعوا هذا الحديث للدلالة علي أنّ رسول اللَّه اقتدي بأبي بكر.

لكن الشيخين لم يرويا هذا الحديث، أي هذه القطعة من الحديث غير موجودة في الصحيحين، إن المخرج في الكتابين: إنّ رسول اللَّه نحّاه أو تنحّي أو تأخّر أبو بكر، وصلّي رسول اللَّه بنفسه تلك الصلاة.

أمّا هذا الحديث، فموجود في مسند أحمد، وهو حديث كذب قطعاً، وكذّبه غير واحد من كبار الأئمّة من حفّاظ أهل السنّة، وحتّي أنّ بعضهم كالحافظ

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 6/ 34 و 38، سنن ابن ماجة 1/ 517.

(2) مسند أحمد 1/ 209.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 374

أبي الفرج ابن الجوزي ألّف رسالة خاصة في بطلان حديث اقتداء النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بأبي بكر، وهل من المعقول أن يقتدي النبي بأحد أفراد أُمّته، فيكون ذلك الفرد إماماً للنبي؟ هذا غير معقول أصلًا.

رسالة ابن الجوزي مطبوعة منذ ثلاثين سنة تقريباً

لأوّل مرّة، نشرتها أنا بتحقيق منّي والحمد للَّه «1».

النكتة الثالثة: إنّ النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم بعد أن خرج إلي الصّلاة وصلّي بنفسه الشريفة، ونحّي أبا بكر، لم يكتف بهذا المقدار، وإنّما جلس علي المنبر بعد تلك الصّلاة، وخطب، وذكّر بالقرآن والعترة، وأمر الناس باتّباعهما والاقتداء بهما، فأكّد رسول اللَّه بخطبته هذه ما دلّ عليه فعله، أي حضوره للصلاة وعزله لأبي بكر عن المحراب، ثمّ أضاف في هذه الخطبة بعد الصلاة أنّ علي جميع المسلمين أن يخرجوا مع أُسامة، وأكّد علي وجوب هذا البعث وعلي الإسراع فيه.

وبعد هذا كلّه، لا يبقي مجال للاستدلال بحديث تقديمه في الصلاة.

الدليل السابع: … ص: 374

قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «خير أمّتي أبو بكر وعمر».

هذا الحديث بهذا المقدار ذكره القاضي الإيجي «2» وشارحه وغيرهما أيضاً.

لكن الحديث ليس هكذا، للحديث ذيل، وهم أسقطوا الذيل ليتمّ لهم

__________________________________________________

(1) هذه الرّسالة ألّفها الحافظ أبو الفرج ابن الجوزي الحنبلي، المتوفّي سنة 597، ردّاً علي معاصره الحافظ عبدالمغيث الحنبلي، ولذا أسماها ب [آفة أصحاب الحديث في الردّ علي عبدالمغيث ]، طبعت لأوّل مرّة بتحقيقنا سنة 1399.

(2) المواقف 3/ 624 و 631.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 375

الاستدلال، فاسمعوا الحديث كاملًا:

عن عائشة، قلت: يا رسول اللَّه، من خير الناس بعدك؟ قال: «أبو بكر»، قلت:

ثمّ مَن؟ قال: «عمر».

هذا المقدار الذي استدلّ به هؤلاء.

لكن بالمجلس فاطمة سلام اللَّه عليها، قالت فاطمة: يا رسول اللَّه، لم تقل في علي شيئاً!

قال: «يا فاطمة، علي نفسي، فمن رأيتيه يقول في نفسه شيئاً؟».

فيستدلّون بصدر الحديث بقدر ما يتعلّق بالشيخين، ويجعلونه دليلًا علي إمامة الشيخين، ويسقطون ذيله، وكأنّهم لا يعلمون بأنّ هناك من يرجع إلي مصادر الحديث ويقرؤه بلفظه الكامل.

لكن الحديث- مع ذلك- ضعيف سنداً، فراجعوا كتاب [تنزيه

الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة] «1».

الدليل الثامن: … ص: 375

قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «لو كنت متّخذاً خليلًا دون ربّي لاتّخذت أبا بكر» «2».

ويكفي في الجواب عن هذا الحديث أن نقول: إذا كان رسول اللَّه قال في حقّ أبي بكر: «لو كنت متّخذاً خليلًا لاتّخذت أبا بكر»، فقد جاءت الرواية عندهم في حقّ عثمان: إنّه اتّخذه خليلًا!

فبالنسبة إلي أبي بكر يقول «لو» أمّا في حقّ عثمان يقول: «اتّخذته خليلًا»،

__________________________________________________

(1) تنزيه الشريعة المرفوعة عن الأحاديث الشنيعة الموضوعة 1/ 367.

(2) مسند أحمد 1/ 377 و 409 و 433 و 439 و 455 و 463.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 376

يقول: «إنّ لكلّ نبيّ خليلًا من أُمّته، وإنّ خليلي عثمان بن عفّان» «1».

فيكون أفضل من أبي بكر.

وأنا أيضاً- كما ذكرت هذا مرّة في بعض الليالي الماضية- اعتقادي علي ضوء رواياتهم في مناقب المشايخ أري أنّ عثمان أفضل من أبي بكر وعمر، لمناقبه الموجودة في كتبهم، ومن جملتها هذا الحديث، لكنه حديث باطل مثله «2».

الدليل التاسع: … ص: 376

قوله صلّي اللَّه عليه وآله: وأين مثل أبي بكر.

وهذا الحديث:

أمّا سنداً، فقد أدرجه الحافظ السيوطي في كتابه [اللآلي المصنوعة بالأحاديث الموضوعة] «3»، وأيضاً أدرجه الحافظ ابن عرّاق صاحب [كتاب تنزيه الشريعة] «4» في كتابه هذا المؤلف في خصوص الروايات الموضوعة.

أمّا دلالة، فإنّه يدلّ علي أنّ أبا بكر كان يعطي من ماله رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وكان يصرف من أمواله الشخصية عليه وأنه قد كان رسول اللَّه بحاجة إلي مال أبي بكر وإنفاقه عليه، وهذا من القضايا الكاذبة، وقد وصل كذب هذا الخبر إلي حدٍّ التجأ مثل ابن تيميّة إلي التصريح بكذبه، مثل ابن تيميّة يصرّح بأنّ هذا غير صحيح «5».

وهكذا يضع الواضعون الفضائل والمناقب، حتي إذا كانت مستلزمة للطعن

__________________________________________________

(1) الجامع

الصغير 2/ 416 رقم 7331، كنز العمّال 11/ 587 رقم 32708.

(2) تنزيه الشريعة 1/ 392.

(3) اللآلي المصنوعة في الأحاديث الموضوعة 1/ 295.

(4) تنزيه الشريعة 1/ 344.

(5) منهاج السنّة 4/ 448.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 377

في رسول اللَّه.

فهذا الحديث كذب سنداً ودلالة.

الدليل العاشر: … ص: 377

ما رووه عن علي عليه السّلام في فضل الشيخين، منها الرواية التي ذكرها هؤلاء أنّه قال: خير الناس بعد النبيين أبو بكر ثمّ عمر ثمّ عمر ثمّ اللَّه أعلم «1».

ليس هذا اللفظ وحده، بل لهم أحاديث أُخري ، وألفاظ أُخري أيضاً ينقلونها عن علي في فضل الشيخين، لكن:

أوّلًا: أبو بكر نفسه يعترف بأنّه لم يكن خير الناس، ألم يقل: ولّيتكم ولست بخيركم؟

وهذا موجود في [الطبقات ] لابن سعد «2».

أو: أقيلوني فلست بخيركم، كما في المصادر الكثيرة «3».

وثانياً: ذكر صاحب [الإستيعاب ] بترجمة أمير المؤمنين «4» سلام اللَّه عليه، وكذا ذكر ابن حزم في كتاب [الفصل ] «5»، وذكر غيرهما من كبار الحفّاظ: إنّ جماعة كبيرة من الصحابة كانوا يفضّلون عليّاً علي أبي بكر.

فإذا كان علي بنفسه يعترف بأفضليّة الشيخين منه، كيف كان أولئك يفضّلون عليّاً عليهما؟

لقد ذكروا أسماء عدّة من الصحابة كانوا يقولون بأفضليّة علي، منهم: أبو ذر،

__________________________________________________

(1) المصنّف للصنعاني 3/ 448، كنز العمّال 13/ 8 رقم 36098.

(2) طبقات ابن سعد 3/ 182.

(3) مجمع الزوائد 5/ 183، شرح نهج البلاغة 1/ 168، 17/ 155، تاريخ الخلفاء: 54.

(4) الإستيعاب 3/ 1090.

(5) الفصل في الملل والنحل 3/ 32 و 70.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 378

وسلمان، والمقداد وعمّار، و …، وعلي يعترف بأفضليّة الشيخين منه!!

هذه أخبار مكذوبة علي أمير المؤمنين عليه السّلام.

إذن، لم نجد دليلًا من أدلّة القوم سالماً من الطعن والجرح والإشكال، إمّا سنداً ودلالة، وإمّا سنداً، علي ضوء كتبهم

وكلمات علمائهم.

فتلك الأحاديث من الأحاديث الموضوعة التي لا أساس لها، باعترافهم، لا سيّما حديث «اقتدوا باللذين من بعدي».

والمهم: قضيّة الصلاة، فصلاة أبي بكر في حياة رسول اللَّه قد تشعر بإمامته بعده، لكن رسول اللَّه عزله عن المحراب، وصلّي تلك الصلاة بنفسه، إن صحّ خبر إرساله أبا بكر إلي الصلاة.

مضافاً: إلي أنّ إمامة الشيخين يجب أن تبحث من ناحية أُخري ، وهي: أنّ هناك موانع، أنّ هناك قضايا تمنع من أن يكونا إمامين للمسلمين، تلك القضايا كثيرة ومذكورة في الكتب، ولم يكن من منهجنا التعرض لتلك القضايا.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 379

مناقشة الاجماع علي خلافة أبي بكر … ص: 379

ويبقي الإجماع، إجماع الصّحابة علي خلافة أبي بكر، وأنتم أعرف بحاله، ولا أحبّ الدخول في هذا البحث، لأنّه سيجرّنا إلي قضايا قد لا يقتضي ذكرها في الوقت الحاضر.

وأيّ إجماع هذا الذي يدّعونه علي إمامة أبي بكر؟! وتلك قضايا السقيفة وملابسات بيعة أبي بكر وإمامته التي يقولون، ولربّما نتعرّض لبعض النقاط المتعلّقة بهذا الأمر في بحثنا عن الشوري التي خصّصنا لها ليلة.

ولكن الذي يكفي أن أقوله هنا هو: أنّ صاحب [شرح المقاصد] «1» وغيره من كبار علماء الكلام يقولون: بأنّا عندما ندّعي الإجماع، لا ندّعي وقوع الإجماع حقيقةً، عندما نقول قام الإجماع علي خلافة أبي بكر، ليس بمعني أنّ القوم كلّهم كانوا مجمعين وموافقين علي إمامته، بل إنّ إمامته قد وقعت في الحقيقة ببيعة عمر فقط وفي السقيفة، بعد النزاع بين الحاضرين من المهاجرين والأنصار، وإلقاء النزاع بين الأنصار الأوس والخزرج، يكفي أنْ أُشير إلي هذا المطلب.

لكن مع ذلك، عندما نراجع هذه الكتب يقولون بأنّ الأولي أنْ نسكت عن مثل هذه القضايا ولا نتكلّم عنها، فإنّ رسول اللَّه قد أمر بالسكوت عمّا سيقع بين

__________________________________________________

(1) شرح المقاصد

5/ 254.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 380

أصحابه، فلا داعي لطرح مثل هذه القضايا وللتعرض لمثل هذه الأُمور.

وإنّي أري من المناسب أنْ أقرأ لكم نصّ عبارة السعد التفتازاني في [شرح المقاصد]، لتروا كيف يضطربون، وإنّهم إلي أين يلتجئون، يقول السعد:

إنّ جمهور علماء الملّة وعلماء الأُمة أطبقوا علي ذلك- أي علي إمامة أبي بكر- وحسن الظن بهم يقتضي بأنّهم لو لم يعرفوه بدلائل وإمارات لما أطبقوا عليه.

قلت: إذا كان كذلك، إذا كنّا مقلّدين للصحابة من باب حسن الظن بهم، فلماذا أتعبنا أنفسنا؟ ولماذا اجتهدنا فنظرنا في الأدلّة وجئنا بالآية والحديث، كنّا من الأوّل نقول: بأنّا في هذه المسألة مقلّدون للصحابة، فعلوا كذا ونحن نقول كذا، لاحظوا، ثمّ يقول التفتازاني:

يجب تعظيم الصحابة والكفّ عن مطاعنهم، وحمل ما يوجب بظاهره الطّعن فيهم علي محامل وتأويلات، سيّما المهاجرين والأنصار.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 381

خاتمة المطاف … ص: 381

وعندما ينقل السّعد عن الإماميّه قولهم: إنّ بعد رسول اللَّه إماماً، وليس غير علي، لانتفاء الشرائط من العصمة والنصّ والأفضليّة عن غيره- وقد رأيتم كيف كان هذا الإنتفاء في بحوثنا السابقة- يتهجّم ويشتم الشيخ المحقق نصير الدين الطوسي وسائر علماء الإماميّة، فلاحظوا كلامه، سأنقل نصّ عبارته، لتقفوا علي مقدار فهم هؤلاء، وعلي حدّ أدبهم، ثم تقارنوا بين كلام الإماميّة وكلام هؤلاء القوم، يقول:

احتجّت الشيعة بوجوه لهم في إثبات إمامة علي بعد النبي من العقل والنقل، والقدح فيما عداه من أصحاب رسول اللَّه الذين قاموا بالأمر، ويدّعون في كثير من الأخبار الواردة في هذا الباب التواتر، بناء علي شهرته فيما بينهم، وكثرة دورانه علي ألسنتهم، وجريانه في أنديتهم، وموافقته لطباعهم، ومقارعته لأسماعهم، ولا يتأمّلون كيف خفي علي الكبار من الأنصار والمهاجرين، والثقات من الرواة والمحدّثين، ولم يحتجّ البعض

علي البعض، ولم يبرموا عليه الإبرام والنقض، ولم يظهر إلّابعد انقضاء دور الإمامة وطول العهد بأمْر الرسالة، وظهور التعصّبات الباردة، والتعسّفات الفاسدة وإفضاء أمر الدين إلي علماء السوء، والملك إلي أُمراء الجور، ومن العجائب أنّ بعض المتأخرين من المتشغّبين، الذين لم يروا أحداً من

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 382

المحدّثين ولا رووا حديثاً في أمر الدين، ملؤوا كتبهم من أمثال هذه الأخبار والمطاعن في الصحابة الأخيار، وإن شئت فانظر في كتاب التجريد المنسوب إلي الحكيم نصير الدين الطوسي، كيف نصر الأباطيل وقرّر الأكاذيب … «1».

قلت: أمّا نصير الدين الطوسي، فإنّا نشكر التفتازاني علي قناعته بهذا المقدار من الشتم والسبّ له! نشكره علي اكتفائه بهذا المقدار!

فإنّ ابن تيميّة ذكر في الشيخ نصير الدين الطوسي بسبب تأليفه كتاب التجريد واستدلاله في هذا الكتاب علي إمامة علي من كتب أهل السنّة، ذكره بما لا يمكن أن يتفوّه به مسلم في حقّ أدني الناس، ذكره بما لا يقال، ونسب إليه الكبائر والعثرات التي لا تقال، وقد خصّصنا ليلةً للتحقيق حول هذا الموضوع، وسنتعرض لكلامه بعون اللَّه.

هذا فيما يتعلق بالشيخ نصير الدين الطوسي.

وأمّا أصل المطلب، فإنّا قد أقمنا الأدلّة علي إمامة علي من نفس كتبهم، وبيّنا صحّة تلك الأدلّة من نفس كتبهم، وقد ذكرنا احتجاجاتنا بكلّ أدب ومتانة ووقار، لم نتعرض لأحد منهم بسبّ أو شتم، فأثبتنا إمامة أمير المؤمنين بالنص، وأثبتنا إمامته بالعصمة، وأثبتنا إمامته بالأفضليّة، كلّ ذلك من كتبهم، كلّ ذلك بناء علي أقوال علمائهم، واستشهدنا بأفضل الطرق والأسانيد، واستندنا إلي أشهر الكتب والمؤلّفات، لم يكن منّا سبّ ولا شتم ولا تعصّب ولا تعسّف.

ثمّ نظرنا إلي أدلّتهم في إمامة أبي بكر، أمّا النص فقالوا هم: بعدم وجوده، وأمّا الإجماع،

فلا إجماع حتّي اضطرّوا إلي الإعتراف بعدم انعقاده، وربما نتعرّض لذلك في ليلة خاصة، وأمّا الأفضليّة فتلك أفضل أدلّتهم، وقد نظرنا إليها واحداً

__________________________________________________

(1) شرح المقاصد 5/ 267.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 383

واحداً علي ضوء كتبهم، فما ذنبنا إنْ لم يتم دليل علي إمامة أبي بكر؟ وتمّ الدليل من كتبهم علي إمامة علي.

لماذا لا يريدون البحث عن الحقيقة؟ لماذا تكون الحقيقة مرّة؟ لماذا يلجؤون إلي السبّ والشتم؟ ولماذا هذا التهجّم؟ ألا يكفي ما واجهه علماؤنا منذ العصور الأولي إلي يومنا هذا، من سبّ وشتم وقتل وسجن وطرد وتشريد؟ إلي متي ؟ ولماذا هذا؟ نحن نريد البحث عن أمر حقيقي واقعي يتعلّق بمن يحكم علينا من قبل اللَّه ونريد أن نقتدي به بعد رسول اللَّه، نريد أن نتعلّم منه، أن يكون واسطة بيننا وبين ربّنا، في أُمورنا الإعتقادية وفي أُمورنا العملية، أي في الأُصول والفروع وفي جميع الجهات، نريد أن نبحث عن الحقيقة ونتوصّل إليها، فإذا وصلنا إلي الحقيقة وعثرنا علي الحق حينئذ نقول لربّنا: إنّا قد نظرنا في الأدلّة وبحثنا عن الحقيقة، فكان هذا ما توصّلنا إليه، وهذا إمامنا، وهذا منهجنا ومسلكنا، ليكون لنا عذراً عند اللَّه سبحانه وتعالي ، وكلّ هذا البحث لهذا الهدف، وليس لحبّ أو بغض، ليس لدينا أيّ غرض، وما الداعي إلي الشتم؟ وإلي متي تكون الحقيقة مرّة؟

وإلي متي لا يريدون استماع الحق وأخذه وقبوله؟ والشتم لماذا؟ وهل يتفوّه به إلّا السوقه؟ إلّاالجهلة؟

نسأل اللَّه سبحانه وتعالي أن يوفّقنا لما يرضيه، نسأله تعالي أن يهدينا إلي فهم الحقائق وأخذها، وإلي العمل بالحق واتباعه، نسأله سبحانه وتعالي أن يبيّض وجوهنا عندما نرد عليه ونلقاه، وعندما نواجه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

وصلّي اللَّه علي محمّد وآله

الطاهرين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 387

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصّلاة والسّلام علي سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

قال اللَّه عزّوجلّ: «وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا» «1».

موضوع بحثنا في هذه الليلة إمامة بقيّة الأئمّة عليهم السّلام.

بعد أن فرغنا من بيان الأدلّة بنحو الإختصار والإيجاز من الكتاب والسنّة والعقل علي إمامة أمير المؤمنين سلام اللَّه عليه، وبحثنا أيضاً عن أدلّة القوم علي إمامة أبي بكر، كان لابدّ من التعرض للبحث عن إمامة بقية الأئمّة سلام اللَّه عليهم.

القول بإمامة الحسن المجتبي بعد أمير المؤمنين، والحسين سلام اللَّه عليه بعد الحسن، وعلي بن الحسين السجاد، ومحمّد بن علي الباقر، وجعفر بن محمّد الصادق، وموسي بن جعفر الكاظم، وعلي بن موسي الرضا، ومحمّد بن علي الجواد، وعلي بن محمّد الهادي، والحسن بن علي العسكري، والإمام المهدي صلوات اللَّه عليهم أجمعين.

القول بإمامة هؤلاء الأئمّة هو من ضرورات مذهب الشيعة الإماميّة الإثني عشرية، فلو أنّ أحداً يشككّ في إمامة أحدهم أو يشك، يكون بذلك خارجاً عن هذا المذهب، فالقول بإمامة الأئمة من ضروريات هذا المذهب، وهذه الطائفة تسمّي

__________________________________________________

(1) سورة السجدة (32): 34.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 388

بالطائفة الاثني عشرية بهذه المناسبة، وبعد أن كان هذا الإعتقاد من ضروريات هذا المذهب لا تبقي حاجة للبحث عن أدلة هذا الإعتقاد في داخل المذهب.

ومع ذلك، فهناك كتب كثيرة ألّفها علماء الطائفة في إثبات إمامة هؤلاء الأئمّة سلام اللَّه عليهم، عن طريق النص، وعن طريق العصمة، وعن طريق الأفضليّة.

وقد ذكرنا منذ اليوم الأوّل: أنّ طريق إثبات الإمامة لإمامٍ، إمّا يكون بالأفضليّة، وإمّا بالنص، وإمّا بالعصمة.

والحق: اجتماع الأدلّة الثلاثة في إمامة أمير المؤمنين وسائر الأئمّة

الطاهرين، ولا سيّما علي صعيد النصوص الواردة في إمامة الأئمة سلام اللَّه عليهم، فقد ثبت نصّ الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام علي الحسن عليه السّلام وهكذا علي الحسين عليه السّلام إلي أخر الأئمّة، وثبت نصّ رسول اللَّه علي إمامة كلّ هؤلاء.

والكتب المؤلّفة في خصوص النصوص كثيرة، بإمكانكم الرجوع إلي كتاب [كفاية الأثر في النص علي الأئمّة الإثني عشر]، وهكذا كتاب [الإنصاف في النصّ علي الأئمّة الأشراف ]، كتاب [إثبات الهداة بالنصوص والمعجرات ]، وغير هذه الكتب المؤلّفة في هذا الباب.

وهل بالإمكان إثبات إمامة بقية الأئمّة علي ضوء أدلّة أهل السنّة؟ وهل يمكن أن نستند إلي كتب أهل السنّة المشهورة ورواياتهم في إثبات إمامة بقيّة الأئمّة عليهم الصلاة والسلام أوْ لا؟

التحقيق أنّنا يمكننا إثبات إمامة بقيّة الأئمّة أيضاً علي ضوء كتب أهل السنّة فقط، وعن طريق النصّ والعصمة والأفضليّة كلّها، وقد تتعجّبون وتستغربون من هذا الذي أدّعيه الآن، ولكن لا تستعجلوا، وسترون أنّ أيّ باحث محقّق حرّ منصف يستمع إلي ما أقوله في هذه الليلة، لا يمكنه أن يناقش في شي ء ممّا أذكره، اللهمّ إلّا أنْ يتعصّب، وليس لنا مع التعصّب والمتعصّب بحث.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 389

إمامة بقية الأئمة … ص: 389

الأئمّة اثنا عشر … ص: 389

اشارة

إنّنا نسأل أهل السنّة ونراجع كتبهم، ونفحص في رواياتهم، عمّا إذا كان عندهم شي ء عن رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في الإمامة، وعدد الأئمة بعد رسول اللَّه، هل هناك دليل علي حصر الأئمّة بعد رسول اللَّه في عدد معيّن أو لا يوجد دليل؟ وإذا كان يوجد دليل فما هو ذلك العدد؟ ومن هم أُولئك الأئمّة الذين دلّت عليهم وعلي إمامتهم تلك الأدلّة؟

الجواب واضح تماماً، فحديث الأئمّة إثنا عشر أو الخلفاء من بعدي إثنا عشر، هذا الحديث مقطوع الصدور،

اتفق عليه الشيخان وغيرهما من أئمّة الحديث، وأخرجوه بطرق وأسانيد معتبرة، ورووه عن عدة من الصحابة، أقرأ لكم نصوصاً من هذا الحديث، وأرجو الدقّة في ألفاظ هذه النصوص، والتأمّل فيما تختلف فيه هذه الألفاظ، والتوصل إلي نتيجة قطعية علي ضوء الدقّة في هذه النصوص.

نصوص من حديث الأئمّة اثنا عشر: … ص: 389

أخرج أحمد في [المسند] عن جابر بن سمرة قال: سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول: «يكون لهذه الأُمّة اثنا عشر خليفة» «1».

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 5/ 16.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 390

أخرج أحمد أيضاً عن مسروق قال: كنّا جلوساً عند عبداللَّه ابن مسعود وهو يقرؤنا القرآن، فقال له رجل: يا أبا عبدالرحمن، هل سألتم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كم تملك هذه الأُمّة من خليفة؟ فقال: ما سألني عنها أحد منذ قدمت العراق قبلك، ثمّ قال: نعم، ولقد سألنا رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فقال: «إثنا عشر كعدّة نقباء بني إسرائيل» «1».

في هذا اللفظ توجد هذه الإضافة: «كعدّة نقباء بني إسرائيل».

وأخرج أحمد عن عامر بن سعد بن أبي وقّاص قال: كتبت إلي جابر بن سمرة مع غلامي: أخبرني بشي ء سمعته من رسول اللَّه، قال: فكتب إليّ: سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يوم جمعة عشية رجم الأسلمي- يعطي علامة أنّه في ذلك اليوم المعين الذي رجم فيه فلان- سمعته يقول: «لا يزال الدين قائماً حتّي تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة، كلّهم من قريش» «2».

لاحظوا الإضافات في هذا اللفظ عن نفس جابر الراوي لهذا الحديث.

وأخرج مسلم في صحيحه عن جابر بن سمرة، نفس هذا الشخص قال:

دخلت مع أبي علي النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فسمعته يقول: «إنّ هذا الأمر لا ينقضي

حتّي يمضي فيهم اثنا عشر خليفة»، ثمّ تكلّم بكلام خفي عَلَيّ، فقلت لأبي: ما قال؟ قال: قال: «كلّهم من قريش» «3».

في هذا اللفظ إضافة، والتفتوا إلي هذه الفوارق.

وأمّا البخاري فيروي في [صحيحه ] عن جابر نفسه: سمعت النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول: «إثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه يقول:

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 1/ 398.

(2) المصدر 5/ 86.

(3) صحيح مسلم 6/ 3- 4.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 391

«كلّهم من قريش» «1».

وأخرج [الترمذي ] عن جابر نفسه قال: قال رسول اللَّه: «يكون من بعدي اثنا عشر أميراً»، ثمّ تكلّم بشي ء لم أفهما فسألت الذي يليني فقال: قال «كلّهم من قريش»، قال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، وقد روي من غير وجه عن جابر بن سمرة، وفي الباب عن ابن مسعود وعبداللَّه بن عمرو «2».

وأمّا في [صحيح أبي داود] يقول جابر،- الرواية عن جابر نفسه-: سمعت رسول اللَّه يقول: «لا يزال هذا الدين عزيزاً إلي اثني عشر خليفة»، قال: فكبّر الناس وضجّوا، ثمّ قال كلمة خفيت، قلت لأبي: يا أبه، ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش» «3».

يقول الحافظ ابن حجر العسقلاني: أصل هذا الحديث في [صحيح مسلم ] بدون كلمة: فكبّر الناس وضجّوا «4».

وقد قرأنا عبارته، لم تكن فيه هذه الجملة: فكبّر الناس وضجّوا، لكنّها موجودة في [صحيح أبي داود].

وللطبراني لفظ آخر، يقول الطبراني عن جابر بن سمرة: «يكون لهذه الأُمّة اثنا عشر قيّماً» - لم يقل خليفة، ولم يقل أميراً- «لا يضرّهم من خذلهم، كلّهم من قريش» «5».

قال ابن حجر في [فتح الباري في شرح البخاري ]: ووقع عند الطبراني من وجه آخر هذا الحديث في آخره يقول جابر هذا الراوي يقول: فالتفتُ فإذا أنا

__________________________________________________

(1) صحيح

البخاري 9/ 101.

(2) سنن الترمذي 4/ 80 رقم 2223.

(3) سنن أبي داود 2/ 3094 رقم 4280.

(4) فتح الباري 13/ 180.

(5) المعجم الكبير 2/ 196 رقم 1794.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 392

بعمر بن الخطّاب وأبي في أُناس، فأثبتوا إليّ الحديث «1».

هذه هي الألفاظ التي انتخبتها، واكتفيت بها لإلقائها في هذه الجلسة.

ولاحظوا أوّلًا ألفاظ الحديث إلي الآن، ففي بعض الألفاظ: «إثنا عشر خليفة»، وفي بعض الألفاظ: «إثنا عشر أميراً»، وفي بعض الألفاظ: «إثنا عشر قيّماً»، وبين الكلمات فرق كبير.

ثمّ، في بعض الألفاظ: «لا يزال هذا الدين عزيزاً»، وفي بعض الألفاظ توجد جملة: «لا يزال الدين قائماً حتي تقوم الساعة … »، وفي بعض الألفاظ: «لا يضرّهم من خذلهم».

فلماذا نقل بعض الرواة هذه الألفاظ دون البعض الآخر؟ لماذا لم تكن جملة «فكبّر الناس وضجّوا» في صحيح مسلم، والحال أنّ الحديث نفس الحديث كما ينصّ الحافظ ابن حجر؟ فلماذا غير مسلم يأتي بهذه الجملة دون مسلم؟! أمّا البخاري فلم ينقل من هذه النقاط الإضافيّة المهمة شيئاً!

تارة: المتكلم يتكلّم ثمّ يخفض صوته فلا يسمع كلامه، وتارة: المتكلم لا يخفض صوته، وإنّما الصياح في أطرافه والضجّة من حوله تمنع من وصول كلامه وبلوغ لفظه، وفي أكثر الألفاظ يقول جابر: إنّه قال كلمة لم أسمعها، قال كلمة لم أفهمها، قال كلمة خفيت عَلَيّ.

ولسائل أن يسأل: ما هو السبب في خفاء هذه الكلمة أو غيرها من الكلمات علي جابر؟ جابر الذي ينقل الحديث من رسول اللَّه ويقول: سمعته.. فلمّا وصل إلي هنا خفّض رسول اللَّه صوته أو كانت هناك أسباب وعوامل خارجية؟ فهذه العوامل الخارجية مَن الذي أحدثها وأوجدها؟ لماذا قال رسول اللَّه بعض الحديث

__________________________________________________

(1) فتح الباري 13/ 180.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص:

393

وسُمع كلامه وبعض الحديث خفي ولم يُسمَع؟ وماذا قال؟ وهل كان لعمر بن الخطّاب وأصحابه دور في خفاء صوته وعدم بلوغ لفظه إلي الحاضرين؟ أو لم يكن؟

لسائل أن يسأل عن هذه الأُمور، والمحقق لا يترك مثل هذه القضايا علي حالها، المحقق لا يتجاوز هذه الأشياء بلا حساب، تارةً يراد منّا أنْ نقرأ ونسكت، وتارة يراد منّا أن نسمع ونسلّم، وتارة يراد منّا أن نحقق ونفهم.

لقد وجدنا أنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لمّا أمر بالإتيان بدواةٍ وقرطاس إليه، كثر اللغطُ من حوله، وجعل الحاضرون يتصايحون، لئلّا يسمع كلامه، ولئلّا يلبّ طلبه! وحينئذ قال عمر كلمته المشهورة في تلك القضية!! أتستبعدون أن يكون رسول اللَّه قد قال هنا كلمات ومنعوا الحاضرين من سماع تلك الكلمات لئلّا ينقلوها إلي من بعدهم، عن طريق إحداث الضجّة من حوله والتكبير؟ وماذا قال رسول اللَّه حتّي يكبّروا كما جاء في الحديث: فكبّر الناس وضجّوا؟ لما ذا؟ وأيّ مناسبة بين قوله صلّي اللَّه عليه وآله: «يكون بعدي خلفاء … »

وبين التكبير، وبين الضجّة؟ ولماذا؟

وعندما بحثت عن ألفاظ الحديث، وجدت في عمدة المصادر لا يلتفتون إلي هذه الحقيقة، أوْ لا ينبّهون علي هذه النقطة، حتّي عثرت علي اسم عمر بن الخطّاب في أحد ألفاظه، هذا المقدار الذي بحثت عنه، وقارنت بين القضيّة هذه وبين قضية الدواة والقرطاس.

وإن أردتم مزيداً من التأكيد والتوضيح، فراجعوا بعض مؤلفات أهل السنّة من المتأخرين، حتي تجدوا الحديث عن نفس جابر وبنفس السند الذي في صحيح البخاري، كانت تلك الكلمة التي خفيت علي جابر: «كلّهم من

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 394

بني هاشم» «1» وليس «كلّهم من قريش» فماذا حدث؟ وماذا فعل القوم؟ وكيف انقلبت ألفاظ رسول

اللَّه، تغيّرت من لفظ إلي لفظ علي أثر الضجّة؟ منعوا من سماع الكلمة وحالوا دون وصول كلامه، فإذا سُئِلوا ماذا قال؟ أجابوا بغير ما قال رسول اللَّه؟ قال: «كلّهم من قريش».

لكن عبدالملك بن عمير، يروي الخبر عن جابر نفسه أنّه قال: «كلّهم من بني هاشم»، وعبدالملك بن عمير نفس الراوي عن جابر في [صحيح البخاري ] «2»، فراجعوا.

نحن وإنْ كنّا لا نوافق علي وثاقة عبدالملك بن عمير، هذا الرجل عندنا مطعون ومجروح، لأنّه كان قاضي الكوفة، وعندما أرسل الحسين عليه السّلام إلي الكوفة رسولًا من قبله، وقبض عليه في الطريق وأمر عبيداللَّه بن زياد بأن يأخذوه إلي سطح قصر دار الأمارة وإلقائه من أعلي القصر إلي الأرض، فسقط علي الأرض وبه رمق، جاء عبدالملك بن عمير، وذبح هذا الرجل في الشارع، فلمّا اعتُرض عليه قال: أردت أنْ أُريحه.

هذا الشخص- عبدالملك- ليس عندنا بثقة، لكنّه من رجال الصحاح الستّة.

عبدالملك بن عمير يروي الحديث عن جابر وفيه بدل «كلّهم من قريش» جملة «كلّهم من بني هاشم».

وأيضاً، فقد وافق عبدالملك بن عمير في رواية الحديث عن جابر بلفظ «كلّهم من بني هاشم»: سماك بن حرب، وسماك بن حرب من رجال مسلم، ومن رجال البخاري في تعليقاته، ومن رجال الصحاح الأربعة الأُخري .

__________________________________________________

(1)

ينابيع المودّة 2/ 315 رقم 908، 3/ 290 رقم 4.

(2) صحيح البخاري 9/ 101.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 395

فعبدالملك وسماك كلاهما يرويان عن جابر هذا الحديث نفسه بلفظ «كلّهم من بني هاشم».

وإذا ما رجعتم إلي كتب أصحابنا وجدتموهم يروون هذا الحديث بأسانيدهم إلي جابر نفسه، وتجدون الحديث مشتملًا علي ألفاظ وخصوصيات أُخري ، وسأقرأ لكم تلك الخصوصيات عندما أُريد أنْ أستدلّ بهذا الحديث علي إمامة الأئمّة عليهم السّلام.

وإلي الآن عرفنا

من هذه الأحاديث:

أوّلًا: عدد الأئمّة علي وجه التحديد، عدد الخلفاء، أو القوّام علي هذا الدين علي وجه التحديد: اثنا عشر.

ثانياً: يقول رسول اللَّه بأنّ هؤلاء باقون إلي قيام الساعة.

ثالثاً: يقول رسول اللَّه بأنّ عزّ الإسلام منوط بوجود هؤلاء، بإمامة هؤلاء، بخلافة هؤلاء.

رابعاً: هؤلاء أئمّة قوّام للدين، وإن خُذِلوا وإن خولفوا.

يقول أصحابنا: بأنّ المراد من هذا العدد وهؤلاء الذين ذكرهم رسول اللَّه أو أشار إليهم، هم أئمّتنا الاثنا عشر سلام اللَّه عليهم.

ومن العجيب: أنّ إمامة أئمّتنا بنفس العدد والنص موجود في الكتب السماوية السابقة، وثابت عند أهل الكتاب وأهل الأديان السالفة، ولذا لو أنّ أحداً من أهل الكتاب أسلم، صار شيعيّاً، وهذا ما ينصّ عليه ابن تيميّة أيضاً، كما في كتابه المسمّي [منهاج السنّة] «1».

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4/ 326- 327.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 397

المراد من الاثني عشر عند أهل السنة … ص: 397

فإذا كان المراد بنظر أصحابنا من هذا الحديث أئمّتنا الأطهار الإثنا عشر، فلنرجع إلي أئمّة أهل السنّة ومحدّثيهم الحفّاظ الكبار، لنلاحظ ماذا يقولون في معني هذا الحديث، ومَن المراد من هؤلاء الأئمّة في هذا الحديث الثابت؟ فهنا أُمور:

الأمر الأوّل: هذا الحديث لا يمكنهم ردّه، لصحّته ووجوده في الصحيحين وغيرهما من الكتب.

الأمر الثاني: إنّهم لا يريدون أن يعترفوا بما تقوله الشيعة الإمامية.

الأمر الثالث: إنّ الذين تولّوا الأمر بعد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله عددهم أكثر من هذا العدد بكثير.

ومع الإلتفات إلي هذه الأُمور الثلاثة، لاحظوا ما يقولون في شرح هذا، وانظروا كيف يضطربون وتتضارب أفكارهم وآراؤهم وأقوالهم في شرحه وبيان معناه، ولو أردتُ أنْ أذكر لكم كلّ ما حصلت عليه من كلماتهم لطال بنا المجلس، وعندنا بحوث لاحقة أيضاً فلا يبقي لها مجال.

أقول: لقد اضطربوا في معني هذا الحديث اضطراباً كبيراً،

فابن حجر العسقلاني في [فتح الباري ] يذكر آراء ابن الجوزي والقاضي عياض، ويباحثهم

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 398

فيما قالا، وابن كثير الدمشقي يذكر في كتابه [البداية والنهاية]- حيث يعنون هذا الحديث- آراء البيهقي وغيره ويناقشهم، ولا بأس أنْ أقرأ لكم رأي ابن كثير فقط، وبه أكتفي لئلّا يطول بنا البحث.

يقول ابن كثير بعد أنْ يذكر رأي البيهقي وغيره: وفيه نظر، وبيان ذلك إنّ الخلفاء إلي زمن الوليد بن يزيد أكثر من اثني عشر علي كلّ تقدير، وبرهانه إنّ الخلفاء الأربعة أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، خلافتهم محققة بنص حديث سفينة: «الخلافة بعدي ثلاثون سنة»، ثمّ بعدهم الحسن بن علي كما وقع- لأنّ عليّاً أوصي إليه، وبايعه أهل العراق وركب وركبوا معه لقتال أهل الشام- ثمّ معاوية، ثمّ ابنه يزيد بن معاوية، ثمّ ابنه معاوية بن يزيد، ثمّ مروان بن الحكم، ثمّ عبدالملك بن مروان، ثمّ ابنه الوليد بن عبدالملك، ثمّ سليمان بن عبدالملك، فهؤلاء خمسة عشر، فزادوا ثلاثة، وعلي كلّ تقدير فهم اثنا عشر قبل عمر بن عبدالعزيز، فهذا الذي سلكه أي البيهقي علي هذا التقدير يدخل في الإثني عشر يزيد بن معاوية، ويخرج منهم عمر بن عبدالعزيز، الذي أطبق الأئمّة علي شكره وعلي مدحه، وعدّوه من الخلفاء الراشدين، وأجمع الناس قاطبة علي عدله، وأنّ أيّامه كانت من أعدل الأيّام، حتّي الرافضة يعترفون بذلك «1».

فإن قال: - يعني البيهقي- أنا لا أعتبر إلّامن اجتمعت الأُمّة عليه، لزمه علي هذا القول أنْ لا يعدّ علي بن أبي طالب ولا ابنه، لأنّ الناس لم يجتمعوا عليهما، وذلك لأنّ أهل الشام بكاملهم لم يبايعوهما، وعدّ حينئذ معاوية وابنه يزيد و ابن ابنه معاوية بن يزيد، ولم يعتد بأيّام مروان

ولا ابن الزبير، لأنّ الأُمّة لم تجتمع علي

__________________________________________________

(1) إذن، يظهر: إنّ الملاك في الأئمّة أن يكونوا عدولًا، حتّي يُعَدوا في الإثني عشر الذين أرادهم رسول اللَّه، فيعترض علي القوم لماذا أدخلتم يزيد بن معاوية وأخرجتم عمر بن عبدالعزيز والحال أنّ عمر بن عبدالعزيز معروف بالعدل؟

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 399

واحد منهما، ولكن هذا لا يمكن أن يسلك، لأنّه يلزم منه إخراج علي وابنه الحسن من هؤلاء الإثني عشر، وهو خلاف ما نصّ عليه أئمّة السنّة بل الشيعة «1».

فهذا قول من أقوالهم، وهو من البيهقي، ثمّ هذا قول ابن كثير باعتراضه علي البيهقي حيث يقول بأنّ لازم كلامكم إخراج علي والحسن من الاثني عشر.

ولو أردتم التفصيل، فراجعوا: [شرح النووي ] علي صحيح مسلم، وراجعوا [فتح الباري في شرح صحيح البخاري ]، وراجعوا تفصيل كلام ابن كثير في [تاريخه ]، فقد ذكروا في هذه الكتب أن بعضهم أخرج الإمام عليّاً عليه السّلام والحسن من الأئمّة الاثني عشر، وأدخلوا في مقابلهما ومكانهما معاوية ويزيد بن معاوية وأمثالهما «2».

لكن ممّا يهوّن الخطب، أنّهم بعد أنْ شرّقوا وغرّبوا، اضطرّوا إلي الإعتراف بعدم فهمهم للحديث، وكما ذكرنا في الأُمور الثلاثة، فإنّ الحقيقة هي أنّهم يريدون

__________________________________________________

(1) البداية والنهاية 6/ 249- 250.

(2) لنا بحث طويلٌ حول هذا الحديث، يقع في جهتين:

الأولي: في تحقيق الوجوه التي ذكرها القوم في معناه، ونقدها واحداً واحداً.

والثانية: في بيان معناه علي ضوء الأدلّة المتقنة من الكتاب والسنّة، لا سيّما سائر الأحاديث الصحيحة الواردة في الموضوع، لأنّ الحديث يفسّر بعضه بعضاً.

وبعبارة أُخري: يتكوّن البحث في معني هذا الحديث من فصلين:

أحدهما: في الموانع عن انطباق الحديث علي الأشخاص الذين ذكرهم القوم.

والثاني: في مصاديقه الذين قصدهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

وكلّ ذلك

بالنظر إلي الأحاديث الصحيحة وأخبار أولئك الأشخاص المدوّنة في كتب السير والتواريخ.

هذا، وقد توافق القوم علي ذكر جملةٍ من ملوك بني أُميّة في عداد الخلفاء الإثني عشر، وذلك باطلٌ بالنظر إلي أن الحديث في «الخلفاء» لا «الملوك» وبالنظر إلي ما ورد في كتب الفريقين في ذمّ بني أُميّة، لا سيّما الحديث المعتبر بتفسير قوله تعالي : « … وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ» [سورة الاسراء (17): 60] من أنّ المراد بنو أُميّة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 400

أن يعترفوا بما تقوله الشيعة، ورغم جميع محاولاتهم، وعلي مختلف آرائهم، فإنّ الحديث لا ينطبق علي شي ء منها.

يقول الحافظ ابن العربي المالكي كما في [شرح الترمذي ] «1»: لم أعلم للحديث معني.

وفي [فتح الباري ] عن ابن البطال إنّه حكي عن المهلب قوله- وهي عبارة مهمة-: لم ألق أحداً في هذا الحديث بشي ء معيّن «2».

وعن ابن الجوزي: قد أطلت البحث عن معني هذا الحديث وتطلّبت مظانّه وسألت عنه، فلم أقع علي المقصود «3».

أقول: إنّ المقصود معلوم والنبيّ صلّي اللَّه عليه وآله ما أبهم الكلام، لكنّ المقصود يقع عليه من كان عنده إنصاف ولم يكن عنده تعصّب.

والملاحظ أنّهم يحاولون قدر الإمكان تطبيق الحديث علي زمن حكومة بني أُميّة، مع أنّهم يروون عن النبي أن الخلافة بعده ثلاثون سنة، ثم يكون الملك، وقلّ ما رأيت منهم من يشارك حكّام بني العباس في معني هذا الحديث، نعم، وجدته في كلام الفضل ابن روزبهان، فلاحظوا من يري ابن روزبهان أنّهم الأئمّة الإثنا عشر، يقول: إنّ عدد صلحاء الخلفاء من قريش اثنا عشر [و كأنّ الرسول صلّي اللَّه عليه وآله قيّد هذا الحديث بالصلحاء، والحال أنّه لا يوجد في لفظ الحديث كلمة:

الصلحاء، أو ما يؤدّي معني كلمة الصلحاء]

وهم: الخلفاء الراشدون، وهم خمسة- يعني منهم الحسن عليه السّلام- ثمّ عبداللَّه بن الزبير وعمر بن عبدالعزيز، فهؤلاء

__________________________________________________

(1) عارضة الأحوذي في شرح الترمذي 9/ 69.

(2) فتح الباري 13/ 180.

(3) المصدر 13/ 181.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 401

سبعة، وخمسة من بني العباس «1».

أمّا مَن هؤلاء الخمسة من بني العباس؟ لا يذكرهم، فمن يصلح لأنْ يذكر؟

يذكر هارون؟ يذكر المتوكل؟ يذكر المنصور الدوانيقي؟ أيّهم يستحقّ أن يطلق عليه اسم خليفة رسول اللَّه والإمام من بعده؟ فهو لا يذكر أحداً، وإنّما يقول خمسة، وكأن تقسيم هذا الأمر قد فُوّض إلي الفضل ابن روزبهان، فجعل من هؤلاء سبعة ومن هؤلاء خمسة.

وعلي كلّ حال، ليس لهم رأي يستقرّون عليه، ثمّ يعترفون بعدم فهمهم للحديث، وفي الحقيقة ليس بعدم فهم، وإنّما عدم اعتراف بالواقع والحقيقة.

__________________________________________________

(1) أنظر: شرح احقاق الحق 7/ 478.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 403

حقيقة الاثني عشر … ص: 403

اشارة

إذن، ما هي الحقيقة؟

النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أراد أن يعرّف الأئمّة من بعده ويعيّن عددهم علي وجه التحديد، وقد فعل هذا، لكن اللغط والصياح والضجّة من حوله، كلّ ذلك منع من سماع الحاضرين صوته ونقلهم ما سمعوا من رسول اللَّه، فكان السبب في خفاء صوته في الحقيقة هذه الضجّة من حوله، لا أنّ صوته ضعف، أو حصل مثلًا انخفاض في صوته، ورسول اللَّه- كما جاء في بعض ألفاظ هذا الحديث- قد قال: «كلّهم من بني هاشم».

يقول جابر بن سمرة: كنت مع أبي عند النبي، فسمعته يقول: «بعدي اثنا عشر خليفة»، ثمّ أُخفي صوته، [لاحظوا: ثمّ أُخفي صوته ] فقلت لأبي: ما الذي أخفي صوته؟ قال: قال: «كلّهم من بني هاشم»، وعن سماك بن حرب أيضاً مثل ذلك.

ثمّ نلاحظ القرائن الموجودة في لفظ الحديث، والقرائن ذكرتها

في خلال البحث، أُكرّرها مرّةً أُخري بسرعة:

«لا يزال الدين قائماً حتّي تقوم الساعة أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة».

«يكون لهذه الأُمّة اثنا عشر قيّماً لا يضرّهم من خذلهم»، يظهر: إنّ هناك من الأمّة خذلاناً للخلفاء والأئمة الاثني عشر، فمن الذي خذل معاوية؟ ومتي خذل

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 404

يزيد؟ ومتي خذل مروان وغير أُولئك؟ أهل البيت هم الذين خُذلوا، وهم الذين خولفوا.

ويظهر من كلمة «القيّم» أنّ المراد هو الإمامة بالمعني الحقيقي، أي الإمامة الشرعية، وليس المراد هو الحكومة وبسط اليد ونفوذ الكلمة والسيطرة علي السلطة الإجرائية.

وإذا رجعنا إلي أحاديثنا وأسانيدنا المتصلة إلي جابر بن سمرة وغيره، وجدنا أشياء أُخري، فلاحظوا الرواية:

عن سلمان: «الأئمّة بعدي اثنا عشر»، ثمّ قال: «كلّهم من قريش، ثمّ يخرج المهدي- عجّل اللَّه تعالي فرجه- فيشفي صدور قوم مؤمنين، ألا إنّهم أعلم منكم فلا تعلّموهم، ألا إنّهم عترتي ولحمي ودمي، ما بال أقوام يؤذونني فيهم، لا أنالهم اللَّه شفاعتي» «1».

فهذا لفظ من ألفاظ الحديث.

ومن ألفاظ الحديث عن أبي هريرة: «أهل بيتي، الأئمّة بعدي اثنا عشر، أهل بيتي عترتي من لحمي ودمي، هم الأئمّة بعدي، عدد نقباء بني إسرائيل» «2».

عن حذيفة بن أسيد: «الأئمّة بعدي عدد نقباء بني إسرائيل، تسعة من صلب الحسين، ومنّا مهدي هذه الأُمّة، ألا إنّهم مع الحق والحق معهم، فانظروا كيف تخلفوني فيهم» «3».

وهذه من ألفاظ حديث الأئمّة إثنا عشر، والألفاظ هذه موجودة في كتاب [كفاية الأثر في النص علي الأئمّة الإثني عشر].

__________________________________________________

(1) كفاية الأثر في النص علي الأئمة الاثني عشر: 44.

(2) المصدر: 89.

(3) المصدر: 130.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 405

وإذا كان رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد أخبر بعدد الأئمّة من بعده وعيّنهم بهذه الأوصاف، وأنّهم من

العترة، وأنّهم أعلم، وأنّهم كذا، وأنّهم كذا، ثمّ قال: «فانظروا كيف تخلفوني فيهما»، فيكون قد أشار صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم إلي حديث الثقلين، والحديث يفسّر بعضه بعضاً، فقد كان هذا من مداليل حديث الثقلين.

حديث الثقلين يفسّر الاثني عشر: … ص: 405

وحينئذ، ننتقل إلي مفاد حديث الثقلين، لنفهم معني حديث الثقلين بما يتعلّق ببحثنا هذه الليلة، وليكون حديث الثقلين مفسّراً لحديث الأئمّة الإثني عشر:

لاحظوا، رسول اللَّه عندما يقول: «إنّهما لن يفترقا حتّي يردا عَلَيّ الحوض»، معني ذلك: إنّ الأئمّة من العترة باقون ما بقي القرآن، لا يفترقان ولا يتفرّقان، والحديث- كما قرأنا في تلك الليلة التي خصّصناها للبحث عن هذا الحديث- حديث صحيح مقطوع صدوره ومقبول عند الطرفين، فعندما يقول رسول اللَّه:

«إنّي تارك فيكم الثَقَلين أو الثقْلين»، فقد قرن رسول اللَّه الأئمّة من العترة بالقرآن فمادام موجوداً فالعترة موجودة، إي إلي آخر الدنيا، فالعترة موجودة إلي آخر الدنيا، لذا قال في حديث الإثني عشر: «حتّي تقوم السّاعة».

وإن كنتم في شك ممّا قلته في معني حديث الثقلين، فلاحظوا نصوص عبارات القوم في شرح حديث الثقلين من هذه الناحية:

يقول المنّاوي في [فيض القدير] في شرح حديث الثقلين: تنبيه: قال الشريف- يعني السمهودي الحافظ الكبير- هذا الخبر يُفهم وجود من يكون أهلًا للتمسّك به من أهل البيت والعترة الطاهرة في كلّ زمان إلي قيام الساعة، حتّي يتوجّه الحث المذكور إلي التمسّك به، كما أنّ الكتاب كذلك، فلذلك كانوا أماناً

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 406

لأهل الأرض، فإذا ذهبوا ذهب أهل الأرض «1».

ومثلها عبارة ابن حجر المكي في [الصواعق ]: وفي حديث الحثّ علي التمسّك بأهل البيت إشارة إلي عدم انقطاع مستأهل منهم للتمسّك به إلي يوم القيامة، كما أنّ الكتاب العزيز كذلك «2».

وقال الزرقاني المالكي في [شرح

المواهب اللّدنيّة]: قال القرطبي: وهذه الوصيّة وهذا التأكيد العظيم، يقتضي وجوب احترام آله وبرّهم وتوقيرهم ومحبّتهم، ووجوب الفرائض التي لا عذر لأحدٍ في التخلّف عنها، هذا مع ما علم من خصوصيّتهم به صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم، وبأنّهم جزء منه، كما قال: «فاطمة بضعة منّي»، ومع ذلك فقابل بنو أُميّة عظيم هذه الحقوق بالمخالفة والعقوق، فسفكوا من أهل البيت دماءهم، وسبوا نساءهم، وأسروا صغارهم، وخرّبوا ديارهم، وجحدوا شرفهم وفضلهم، واستباحوا سبّهم ولعنهم، فخالفوا وصيّته وقابلوه بنقيض قصده، فواخجلتهم إذا وقفوا بين يديه، ويا فضيحتهم يوم يعرضون عليه، فالوصيّة بالبرّ بآل البيت علي الإطلاق، وأمّا الاقتداء فإنّما يكون بالعلماء العاملين منهم، إذ هم الذين لا يفارقون القرآن. قال الشريف السمهودي:

هذا الخبر يفهم وجود من يكون أهلًا للتمسّك به من عترته في كلّ زمان إلي قيام الساعة «3».

فيكون حديث «إنّي تارك فيكم الثقلين» دليلًا علي إمامة أئمّتنا، وعددهم في حديث الأئمّة بعدي إثنا عشر، وفي ذلك الحديث أيضاً تصريح بأنّهم موجودون إلي قيام الساعة.

__________________________________________________

(1) فيض القدير 3/ 15.

(2) الصواعق المحرقة: 232.

(3) شرح المواهب اللدنّيّة 7/ 7- 8.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 407

هذا بنحو الاختصار، وقد تركت بعض القضايا الاخري التي كنت قد سجّلتها هنا فيما يتعلّق بالنص علي الأئمّة الإثني عشر.

فكان دليلنا علي إمامة الأئمّة الإثني عشر من النصوص: حديث الأئمّة بعدي إثنا عشر، وحديث الثقلين.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 409

العصمة والأفضلية … ص: 409

وأمّا العصمة: … ص: 409

فحديث «إنّي تارك فيكم الثقلين» يدلّ علي عصمة الأئمّة من العترة النبويّة بكلّ وضوح، كما سنذكر ذلك في بحث العصمة أيضاً إنْ شاء اللَّه تعالي .

وأمّا الأفضليّة: … ص: 409

أي: أفضليّة أئمّتنا سلام اللَّه عليهم، فإنّه يدلّ علي أفضليّتهم حديث الثقلين من جهات عديدة، لأنّ حديث الثقلين دلّ علي تقدّمهم في العلم وغير العلم، وهذه جهات تقتضي الأفضليّة بلا شك، وإن كنتم في شك فأقرأ لكم بعض العبارات:

قال التفتازاني في [شرح المقاصد]- وأرجو الملاحظة بدقة-: وفضّل العترة الطاهرة، لكونهم أعلام الهداية وأشياع الرسالة، علي ما يشير إليه ضمّهم- أي ضمّ العترة إلي كتاب اللَّه- في إنقاذ المتمسّك بهما عن الضلالة «1».

ولو راجعتم شرّاح حديث الثقلين، وحتي اللغويين- لو تراجعونهم في معني ثِقْل أو ثَقَل حيث يتعرضون لحديث الثقلين- يقولون: إنّما سمّاهما- أي الكتاب

__________________________________________________

(1) شرح المقاصد 5/ 303.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 410

والعترة- بالثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما.

وقد نصّ شرّاح الحديث، كالمنّاوي في [فيض القدير]، والقاري في [المرقاة في شرح المشكاة]، والزرقاني المالكي في [شرح المواهب اللدنية]، وغير هؤلاء:

علي أنّ حديث الثقلين يدلّ علي أفضليّة العترة.

ولاحظوا كلام نظام الدين النيشابوري في [تفسيره ] المعروف، يقول بتفسير قوله تعالي : «وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلي عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفيكُمْ رَسُولُهُ» «1»:

«وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ» استفهام بطريق الإنكار والتعجب، والمعني من أين يتطرّق إليكم الكفر والحال أنّ آيات اللَّه تتلي عليكم علي لسان الرسول غضّة، في كلّ واقعة، وبين أظهركم رسول اللَّه يبيّن لكم كلّ شبهة، ويزيح عنكم كلّ علّة [فرسول اللَّه إنّما يكون بين الأُمّة ويبعثه اللَّه إلي الناس لهذه الغاية وهي: يبيّن لكم كلّ شبهة ويزيح عنكم كلّ علّة] قلت: أمّا الكتاب فإنّه باق علي وجه الدهر، وأمّا النبي، فإنّه وإن كان قد مضي إلي رحمة اللَّه

في الظاهر، ولكن نور سرّه باق بين المؤمنين، فكأنّه باق، علي أنّ عترته ورثته يقومون مقامه بحسب الظاهر أيضاً، فيكونون- أي العترة- يبيّنون كلّ شبهة ويزيحون كلّ علّة، ولهذا قال: «إنّي تارك فيكم الثقلين» «2».

فمسألة الأفضليّة أيضاً واضحة علي ضوء أحاديث القوم وكلمات علمائهم.

وأمّا حديث السفينة، فذاك دليل آخر علي أفضليّتهم وعلي عصمتهم أيضاً، ولربّما نتعرّض للبحث عن حديث السفينة في مباحث العصمة إن شاء اللَّه تعالي .

__________________________________________________

(1) سورة آل عمران (3): 101.

(2) تفسير النيسابوري (غرائب القرآن ورغائب الفرقان) 2/ 221.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 411

أفضلية الأئمة واحداً واحداً: … ص: 411

وأمّا أفضليّتهم واحداً واحداً، أي من الحسن والحسين إلي آخرهم عليهم السّلام، فأقرأ لكم حول كلّ إمامٍ بعض الكلمات وبسرعة:

الحسنان سلام اللَّه عليهما: … ص: 411

ثبتت أفضليّتهما بآية المباهلة وآية التطهير وغيرهما، وبالأحاديث المتّفق عليها الواردة في حقّهما، كقوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «الحسن والحسين سيّدا شباب أهل الجنّة»، رواه أحمد في [المسند]، والترمذي والنسائي في [صحيحيهما] والحاكم في [المستدرك ]، وهو أيضاً في [الإصابة] وغير هذه الكتب «1»، وحتّي أنّ المناوي يقول عن السيوطي: إنّ هذا الحديث متواتر «2».

الإمام السجّاد عليه السّلام: … ص: 411

وصفه النبي صلّي اللَّه عليه وآله بزين العابدين، والحديث متّفق عليه، ومن رواته صاحب [الصّواعق ] «3»، وعن يحيي بن سعيد إنّه قال: هو أفضل هاشمي رأيته في المدينة «4» وقصيدة الفرزدق في حقّه معروفة ومشهورة «5».

__________________________________________________

(1) مسند أحمد 3/ 3، 62، 64، 82، سنن الترمذي 6/ 313 رقم 3767 و 3768، سنن النسائي 5/ 50 رقم 8169، و 81 رقم 8298، و 95 رقم 8365، و 145 رقم 8514 … وغيرها، المستدرك علي الصحيحين 3/ 167، الإصابة 1/ 330، صحيح ابن حبّان 15/ 411، المصنّف لابن أبي شيبة 7/ 512 رقم 2 و 3 و 5.

(2) فيض القدير 3/ 415.

(3) الصواعق المحرقة: 305.

(4) الجرح والتعديل 6/ 179، التاريخ الكبير 6/ 267.

(5) ديوان الفرزدق 2/ 178.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 412

الإمام الباقر عليه السّلام: … ص: 412

أعلم الناس وأفضلهم في عهده، ولذا لقّبه النبي بالباقر «1»، لأنّه بقر العلم، وكان من الآخذين عنه أبو حنيفة وابن جريج والأوزاعي والزهري وغيرهم، وهؤلاء أئمّة أهل السنّة في ذلك العصر.

الإمام الصادق عليه السّلام: … ص: 412

قال أبو حنيفة: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمّد «2»، وقد حضر عنده هو ومالك بن أنس وغيرهما من أئمّة أهل السنّة، وفي [مختصر التحفة الإثنا عشرية] عن أبي حنيفة إنّه قال: لولا السنتان لهلك النعمان «3»، يعني السنتين اللتين حضر فيهما عند الإمام الصادق عليه السّلام، وقال ابن حبّان: من سادات أهل البيت فقهاً وعلماً وفضلًا.

الإمام الكاظم عليه السّلام: … ص: 412

لقّبوه بالعبد الصالح كما في [تهذيب الكمال ] وغيره من المصادر «4»، وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني: مناقبه كثيره «5»، وقال ابن حجر المكي في [الصواعق ]: كان أعبد أهل زمانه وأعلمهم وأسخاهم «6»، قالوا: وكان معروفاً عند

__________________________________________________

(1) تاريخ اليعقوبي 2/ 320.

(2) سير أعلام النبلاء 6/ 257.

(3) مختصر التحفة الإثنا عشرية: 8.

(4) تهذيب الكمال 29/ 44، تاريخ بغداد 13/ 27.

(5) تهذيب التهذيب 10/ 303.

(6) الصواعق المحرقة: 307.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 413

أهل العراق بباب قضاء الحوائج عند اللَّه «1» - أي في حياته وبعد حياته- وقد ذكروا له كرامات عجيبة، كقضيّته مع شقيق البلخي التي ذكرها ابن الجوزي في [صفة الصفوة] «2».

الإمام الرضا عليه السّلام: … ص: 413

ذكروا: إنّه كان يجلس في المسجد النبوي ويفتي الناس وهو ابن اثنتين وعشرين سنة، لاحظوا هذه الكلمة في [تهذيب التهذيب ] وفي [المنتظم ] لابن الجوزي وغيرهما من الكتب «3»، وقد رووا أنّ من تلامذته: أحمد بن حنبل كما في [سير أعلام النبلاء] «4»، وقال الذهبي عن الإمام الرضا عليه السّلام: كان سيّد بني هاشم في زمانه وأجلّهم وأنبلهم وكان المأمون يعظّمه ويخضع له «5»، وقال ابن حجر: قال الحاكم- رجاءٌ لاحظوا هذه القضية-: سمعت أبا بكر بن المؤمّل بن الحسن بن عيسي يقول: خرجنا مع إمام أهل الحديث أبي بكر بن خزيمة وعديله أبي علي الثقفي مع جماعة من مشايخنا، وهم إذ ذاك متوافرون، خرجنا إلي زيارة قبر علي بن موسي الرضا بطوس، فرأيت من تعظيمه- أي تعظيم ابن خزيمة- لتلك البقعة وتواضعه لها وتضرّعه عندها ما تحيّرنا «6».

فليسمع من يحرّم زيارة القبور والتضرّع عند القبور في المشاهد المشرفة.

__________________________________________________

(1) الصواعق المحرقة: 307.

(2) صفة الصفوة 2/ 185.

(3) تهذيب التهذيب 7/ 339، المنتظم في تاريخ الأم والملوك 10/ 119- 120

رقم 1114.

(4) سير أعلام النبلاء 9/ 388.

(5) تاريخ الإسلام (201- 210): 270.

(6) تهذيب التهذيب 7/ 339.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 414

الإمام الجواد عليه السّلام: … ص: 414

قال الذهبي بترجمته: من سادات أهل بيت النبوّة، وكذا قال الصفدي «1»، وفي [تاريخ الخطيب ] ما يفيد أنّه كان يرجع إليه- أي إلي الإمام الجواد- في معاني الأخبار وحقائق الأحكام «2».

الإمام الهادي عليه السّلام: … ص: 414

قال الخطيب: أشخصه جعفر المتوكل من مدينة رسول اللَّه إلي بغداد، ثمّ إلي سرّ من رأي، فقدِمها وأقام فيها عشرين سنة وتسعة أشهر، ولذا عرف بالعسكري «3»، وقال الذهبي: كان المتوكل فيه نصب وانحراف «4».

وقد شهد أعلام أهل السنّة بفقه الإمام الهادي وعبادته وزهده، قال اليافعي:

كان الإمام علي الهادي متعبّداً فقيهاً إماماً «5»، وقال ابن كثير: كان عابداً زاهداً «6».

وكان سلام اللَّه عليه أعلم علماء عصره، وقد ظهرت منزلته العلميّة في قضيّة اتّفقت للمتوكل عجز العلماء عن إعطاء الرأي الصحيح فيها، وكان الرأي في تلك القضية للإمام عليه السّلام، ذكر القضيّة الخطيب البغدادي في [تاريخ بغداد] «7».

__________________________________________________

(1) تاريخ الإسلام (211- 220): 385، وفيه «كان من سَرَوات آل بيت النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

(2) تاريخ بغداد 3/ 54.

(3) المصدر 12/ 56.

(4) سير أعلام النبلاء 12/ 35، الكامل في التاريخ 7/ 55.

(5) مرآة الجنان 2/ 119.

(6) البداية والنهاية 11/ 15.

(7) تاريخ بغداد 12/ 56- 57.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 415

الإمام العسكري عليه السّلام: … ص: 415

كان أكثر عمره تحت النظر، وكان الناس ممنوعين من الالتقاء به، والاستفادة منه، وحال الحكام دون أن تظهر علوم هذا الإمام عليه السّلام للأُمّة، ومع ذلك، فقد ظهرت منه فوائد، وظهرت منه كرامات، ونقلت عنه روايات كثيرة، وبإمكانكم المراجعة إلي كتاب [حلية الأولياء] وإلي [لسان الميزان ] «1»، وإلي [الفصول المهمّة في معرفة الأئمّة] «2» وإلي [الصواعق المحرقة] «3»، وإلي [نور الأبصار] «4» وإلي [روض الرياحين لليافعي ] «5» وإلي [جامع كرامات الأولياء] للنبهاني «6»، وغير هذه الكتب.

الإمام المهدي عجّل اللَّه فرجه: … ص: 415

سنبحث عنه وعمّا يتعلّق به في ليلة خاصّة، إن شاء اللَّه تعالي .

وإن أردتم أن تعرفوا ابن تيميّة ورأيه في هؤلاء الأئمّة وحقده وتعصّبه ونصبه، فراجعوا كتاب [منهاج السنّة]، ولربّما نخصص ليلة للتحقيق عمّا جاء في منهاج السنّة في حقّ الأئمّة والشيعة والتشيّع.

ونسأل اللَّه التوفيق لنا ولكم وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

__________________________________________________

(1)

لسان الميزان 1/ 209.

(2) الفصول المهمّة في معرفة الأئمة: 284- 290.

(3) الصواعق المحرقة: 313- 314.

(4) نور الأبصار: 183- 185.

(5) روض الرياحين، وعنه جواهر العقدين ق 2 ج 2/ 431.

(6) جامع كرامات الأولياء 2/ 18.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 419

بسم اللَّه الرحمن الرحيم

الحمد للَّه رب العالمين، والصلاة والسلام علي سيدنا محمد وآله الطيبين الطاهرين، ولعنة اللَّه علي أعدائهم أجمعين من الأولين والآخرين.

بحثنا في هذه الليلة عن الإمام المهدي عجّل اللَّه تعالي فرجه.

الإمام المهدي في عقيدتنا- نحن الشيعة الإمامية الإثني عشرية- هو الإمام الثاني عشر من أئمّة أهل البيت عليهم السّلام.

نعتقد بأنّه ابن الحسن العسكري سلام اللَّه عليه، ومن أولاد الإمام الحسين من أهل البيت سلام اللَّه عليهم.

ونعتقد بأنّه مولود حي موجود، إلّاأنّه غائب عن الأبصار.

عقيدتنا هذه من ضروريّات مذهبنا، والتشكيك في هذه العقيدة من أبناء هذا المذهب خروج عن

المذهب.

ولو أردنا أن نتكلّم مع أبناء غير هذا المذهب وندعو الآخرين إلي هذه العقيدة، لا بدّ وأنْ نستدلّ بأدلّة عندهم، إمّا عندهم فقط، وإمّا عند الطرفين.

بحثنا حول المهدي سلام اللَّه عليه يكون في ثلاثة فصول:

الفصل الأوّل: فيما يتعلّق بأصل الاعتقاد، وما عليه الشيعة الإماميّة الإثنا عشريّة.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 420

الفصل الثاني: في بحوث تتعلّق بمسألة المهدي علي ضوء روايات أو أقوال موجودة في كتب السنّة تخالف ما عليه الشيعة الإماميّة.

الفصل الثالث: في سؤالات قد تختلج في أذهان أبناء الطائفة أيضاً، وقد تطرح في الكتب، ولربّما يشنّع بها من قبل الكتّاب من أهل السنّة علي عقيدة هذه الطائفة وما تذهب إليه الإماميّة في هذا الموضوع.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 421

الامام المهدي … ص: 421

الفصل الأوّل … ص: 421

وفي هذا الفصل نحاول أنْ نستدلّ بأدلّةٍ مشتركة بين عموم المسلمين، وأقصد من عموم المسلمين الشيعة الإماميّة الإثني عشريّة وأهل السنّة بجميع مذاهبهم.

في هذا الفصل نقاط وهي نقاط الاشتراك بين الجميع:

النقطة الأولي: لا خلاف بين المسلمين في أنّ لهذه الأُمّة مهديّاً، وأنّ رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قد أخبر به وبشّر به وذكر له أسماء وصفات وألقاباً وغير ذلك، والروايات الواردة في كتب الفريقين حول هذا الموضوع أكثر وأكثر من حدّ التواتر، ولذا لا يبقي خلاف بين المسلمين في هذا الاعتقاد، ومن اطّلع علي هذه الأحاديث وحقّقها وعرفها، ثمّ كذّب أصل هذا الموضوع مع الالتفات إلي هذه الناحية، فقد كذّب رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم فيما أخبر به.

الروايات الواردة من طرق الفريقين وبأسانيد الفريقين موجودة في الكتب وفي الصحاح والسنن والمسانيد، وقد أُلّفت لهذه الروايات كتب خاصة دوّن فيها العلماء من الفريقين تلك الروايات في تلك الكتب، وهناك آيات كثيرة من

القرآن الكريم مأوّلة بالمهدي سلام اللَّه عليه.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 422

وحينئذ، لا يُعبأ ولا يعتني بقول شاذٍ من مثل ابن خلدون المؤرّخ «1»، حتّي أنّ بعض علماء السنّة كتبوا ردوداً علي رأيه في هذه المسألة.

ومن أشهر المؤلّفين والمدوّنين لأحاديث المهدي سلام اللَّه عليه من أهل السنّة في مختلف القرون:

أبو بكر ابن أبي خيثمة، المتوفي سنة 279.

نعيم بن حمّاد المروزي، المتوفي سنة 288.

الحسين ابن منادي، المتوفي سنة 336.

أبو نعيم الإصفهاني، المتوفي سنة 430.

أبو العلاء العطّار الهمداني، المتوفي سنة 569.

عبدالغني المقدسي، المتوفي سنة 600.

ابن عربي الأندلسي، المتوفي سنة 638.

سعد الدين الحموي، المتوفي سنة 650.

أبو عبداللَّه الكنجي الشافعي، المتوفي سنة 658.

يوسف بن يحيي المقدسي، المتوفي سنة 658.

ابن قيّم الجوزية، المتوفي سنة 685.

ابن كثير الدمشقي، المتوفي سنة 774.

جلال الدين السيوطي، المتوفي سنة 911.

شهاب الدين ابن حجر المكّي، المتوفي سنة 974.

علي بن حسام الدين المتقي الهندي، المتوفي سنة 975.

نور الدين علي القاري الهروي، المتوفي سنة 1014.

__________________________________________________

(1)

تاريخ ابن خلدون 1/ 311، الفصل الثاني والخمسون.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 423

محمّد بن علي الشوكاني القاضي، المتوفي سنة 1250.

أحمد بن صدّيق الغماري، المتوفي سنة 1380.

وهؤلاء أشهر المؤلّفين في أخبار المهدي منذ قديم الأيام، وفي عصرنا أيضاً كتب مؤلِّفة من قبل كتّاب هذا الزمان، لا حاجة إلي ذكر أسماء تلك الكتب.

وهناك جماعة كبيرة من علماء أهل السنّة يصرّحون بتواتر حديث المهدي والأخبار الواردة حوله، أو بصحة تلك الأحاديث علي الأقل، ومنهم:

الترمذي، صاحب الصحيح.

محمّد بن حسين الآبري، المتوفي سنة 363.

الحاكم النيسابوري، صاحب المستدرك.

أبو بكر البيهقي، صاحب السنن الكبري .

الفرّاء البغوي محيي السنة.

ابن الأثير الجزري.

جمال الدين المزّي.

شمس الدين الذهبي.

نور الدين الهيثمي.

ابن حجر العسقلاني.

وجلال الدين السيوطي.

إذن، لا يبقي مجال للمناقشة في أصل مسألة المهدي في هذه الأُمّة.

النقطة الثانية:

إنّه لا بدّ في كلّ زمان من إمامٍ يعتقد به الناس أي المسلمون، ويقتدون به، ويجعلونه حجة بينهم وبين ربهم، وذلك «لِئَلّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَي اللَّهِ حُجَّةٌ» «1»

__________________________________________________

(1) سورة النساء (4): 165.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 424

و «لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيي مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ» «1»

و «قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ» «2».

ويقول أمير المؤمنين عليه السّلام كما في [نهج البلاغة]: «اللهمّ بلي لا تخلو الأرض من قائم للَّه بحجّة إمّا ظاهراً مشهوراً وإمّا خائفاً مغمورا، لئلّا تبطل حجج اللَّه وبيّناته» «3».

والروايات الواردة في هذا الباب أيضاً كثيرة، ولا أظنّ أحداً يجرأ علي المناقشة في أسانيد هذه الروايات ومداليلها، إنّها روايات واردة في الصحيحين، وفي المسانيد، وفي السنن، وفي المعاجم، وفي جميع كتب الحديث، والروايات هذه مقبولة عند الفريقين.

فقد اتفق المسلمون علي رواية: «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهليّة».

هذا الحديث بهذا اللفظ موجود في بعض المصادر، وقد أرسله سعد الدين التفتازاني إرسال المسلّم، وبني عليه بحوثه في كتابه [شرح المقاصد] «4».

ولهذا الحديث ألفاظ أُخري قد تختلف بعض الشي ء مع معني هذا الحديث، إلّا أنّي أعتقد بأنّ جميع تلك الألفاظ لابدّ وأن ترجع إلي معني واحد، ولابدّ أن تنتهي إلي مقصد واحد يقصده رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

فمثلًا في [مسند أحمد]: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية» «5»، وكذا في

__________________________________________________

(1) سورة الأنفال (8): 42.

(2) سورة الأنعام (6): 149.

(3) نهج البلاغة: 497 رقم 147.

(4) شرح المقاصد 5/ 239 وما بعدها.

(5) مسند أحمد 4/ 96، حديث معاوية بن أبي سفيان.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 425

عدّة من المصادر: كمسند أبي داود الطيالسي «1»، وصحيح ابن حبّان «2»، والمعجم الكبير للطبراني «3»، وغيرها.

وعن بعض الكتب

إضافة بلفظ: «من مات ولم يعرف إمام زمانه فليمتْ إن شاء يهودياً وإن شاء نصرانياً»، وقد نقله بهذا اللفظ بعض العلماء عن كتاب [المسائل الخمسون ] للفخر الرازي.

وله أيضاً ألفاظ أُخري موجودة في السنن، وفي الصحاح، وفي المسانيد أيضاً، نكتفي بهذا القدر، ونشير إلي بعض الخصوصيات الموجودة في لفظ الحديث:

«من مات ولم يعرف»، لابدّ وأنْ تكون المعرفة هذه بمعني الاعتقاد أو مقدمة للاعتقاد، «من مات ولم يعرف» أي: من مات ولم يعتقد بإمام زمانه، لا مطلق إمام الزمان، بإمام زمانه الحق، بإمام زمانه الشرعي، بإمام زمانه المنصوب من قبل اللَّه سبحانه وتعالي .

«من مات ولم يعرف إمام زمانه» بهذه القيود «مات ميتة جاهلية»، وإلّا لو كان المراد من إمام الزمان أيّ حاكم سيطر علي شؤون المسلمين وتغلَّب علي أُمور المؤمنين، لا تكون معرفة هكذا شخص واجبة، ولا يكون عدم معرفته موجباً للدخول في النار، ولا يكون موته موت جاهلية، هذا واضح.

إذن، لابدّ من أن يكون الإمام الذي تجب معرفته إمام حق، وإماماً شرعياً، فحينئذٍ، علي الإنسان أن يعتقد بإمامة هذا الشخص، ويجعله حجةً بينه وبين ربّه،

__________________________________________________

(1) مسند أبي داود الطيالسي: 259.

(2) صحيح ابن حبّان 10/ 434 رقم 4573، وفيه: «من مات وليس له إمام».

(3) المعجم الكبير للطبراني 19/ 388 رقم 910.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 426

وهذا واجب، بحيث لو أنّه لم يعتقد بإمامته ومات، يكون موته موت جاهلية، وبعبارة أُخري : «فليمت إنْ شاء يهودياً وإنْ شاء نصرانياً».

وذكر المورخون: أنّ عبداللَّه بن عمر، الذي امتنع من بيعة أمير المؤمنين سلام اللَّه عليه، طرق علي الحجّاج بابه ليلًا ليبايعه لعبدالملك، كي لا يبيت تلك الليلة بلا إمام، وكان قصده من ذلك هو العمل بهذا الحديث كما قال، فقد طرق

باب الحجّاج ودخل عليه في تلك الليلة وطلب منه أن يبايعه قائلًا: سمعت رسول اللَّه يقول: «من مات ولا إمام له مات ميتة جاهلية»، لكن الحجّاج احتقر عبداللَّه بن عمر، ومدّ رجله وقال: بايع رجلي، فبايع عبداللَّه بن عمر الحجّاج بهذه الطريقة.

وطبيعي أنّ من يأبي عن البيعة لمثل أمير المؤمنين عليه السّلام يبتلي في يوم من الأيّام بالبيعة لمثل الحجّاج وبهذا الشكل.

وكتبوا بترجمة عبداللَّه بن عمر، وفي قضايا الحَرّة بالذات، تلك الواقعة التي أباح فيها يزيد بن معاوية المدينة المنورة ثلاثة أيام، أباحها لجيوشه يفعلون ما يشاؤون، وأنتم تعلمون بما كان وما حدث في تلك الواقعة، حيث قتل عشرات الآلاف من الناس، والمئات من الصحابة والتابعين، وافتضت الأبكار، وولدت النساء بالمئات من غير زوج.

في هذه الواقعة أتي عبداللَّه بن عمر إلي عبداللَّه بن مطيع، فقال عبداللَّه ابن مطيع: إطرحوا لأبي عبدالرحمن وسادة، فقال: إنّي لم آتك لكي أجلس، أتيتك لأُحدّثك حديثاً، سمعت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم يقول: «من خلع يداً من طاعة لقي اللَّه يوم القيامة لا حجّة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية»، [أخرجه مسلم ] «1».

__________________________________________________

(1) صحيح مسلم 3/ 1478 رقم 1851.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 427

فقضية وجوب معرفة الإمام في كلّ زمان والاعتقاد بإمامته والالتزام ببيعته، أمر مفروغ منه ومسلّم، وتدلّ عليه الأحاديث، وسيرة الصحابة، وسائر الناس، ومنها ما ذكرت لكم من أحوال عبداللَّه بن عمر الذي يجعلونه قدوة لهم.

إلّا أنّ عبداللَّه بن عمر ذكروا أنّه كان يتأسّف علي عدم بيعته لأمير المؤمنين عليه السّلام، وعدم مشاركته معه في قتال الفئة الباغية، وهذا موجود في المصادر، فراجعوا [الطبقات ] لابن سعد «1» و [المستدرك ] للحاكم «2» وغيرها

من الكتب.

وعلي كلّ حال لسنا بصدد الكلام عن عبداللَّه بن عمر أو غيره، وإنّما أردت أن أذكر لكم نماذج من الكتاب والسنة وسيرة الصحابة علي أنّ هذه المسألة- مسألة أنّ في كلّ زمان ولكلّ زمان إمام لابدّ وأنْ يعتقد المسلمون بإمامته ويجعلونه حجةً بينهم وبين ربهم- من ضروريات عقائد الإسلام.

النقطة الثالثة: إنّ المهدي من الأئمّة الإثني عشر المشار اليهم في حديث الأئمّة بعدي إثنا عشر، ولا ريب ولا خلاف في هذه الناحية، فإنّ القيود التي ذُكرت في رواية الأئمّة إثنا عشر، تلك القيود كلّها منطبقة علي المهدي سلام اللَّه عليه، لأنّ هذا الإمام عندما يظهر، يجتمع الناس علي القول بإمامته، وأنّ اللَّه سبحانه وتعالي سيعزّ الإسلام بدولته، وأنّه سيظهر دينه علي الدين كلّه، وجميع تلك القيود والمواصفات التي وردت في أحاديث الأئمّة اثنا عشر كلّها منطبقة علي المهدي سلام اللَّه عليه.

__________________________________________________

(1) طبقات ابن سعد 4/ 185 و 187، وفيه: «ما أجدني آسي علي شي ء من أمر الدنيا إلّاأنّي لم أُقاتل الفئة الباغية، ما آسي عن الدنيا إلّاعلي ثلاث: ظمأ الهواجر ومكابدة الليل وألّا أكون قاتلت الفئة هذه الفئة التي حلّت بنا».

(2) المستدرك علي الصحيحين 3/ 115، لكن في الصفحة 558 سطر 8 العبارة في المتن هكذا: «ما آسي علي شي ء» فلم يذكر بقية الخبر، وفي الهامش: بياض في الأصل!!

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 428

وببالي أنّي رأيت في بعض الكتب التي حاولوا فيها ذكر الخلفاء بعد رسول اللَّه من بني أُميّة وغيرهم، يعدّون المهدي أيضاً من أُولئك الخلفاء الإثني عشر، الذين أخبر عنهم رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في الأحاديث التي درسناها في الليلة الماضية.

وإلي الآن عرفنا الاتفاق علي ثلاثة نقاط:

النقطة الأُولي : أنّ في

هذه الأُمّة مهدياً.

النقطة الثانية: أنّ لكلّ زمان إماماً يجب علي كلّ مسلمٍ معرفته والإيمان به والالتزام بطاعته والانقياد له.

النقطة الثالثة: أنّ المهدي عليه السّلام الذي أخبر عنه رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم في تلك الأحاديث الكثيرة، نفس المهدي الذي يكون الإمام الثاني عشر من الأئمّة، الذين أخبر عن إمامتهم من بعده في أحاديث الأئمّة إثنا عشر.

وإلي الآن عرفنا المشتركات بين المسلمين، فإنّه إلي هنا لا خلاف بين طوائف المسلمين، ويكون المهدي حينئذ أمراً مفروغاً منه ومسلّماً في هذه الأُمّة، والمهدي هو الثاني عشر من الأئمّة الإثني عشر، فهو الإمام الحق الذي يجب معرفته والاعتقاد به، وأنّ من مات ولم يعرف المهدي مات ميتة جاهلية.

وهنا قالت الشيعة الإمامية الإثنا عشرية: إنّ الذي عرفناه مصداقاً لهذه النقاط هو ابن الحسن العسكري، ابن الإمام الهادي، ابن الإمام الجواد، ابن الإمام الرضا، ابن الإمام الكاظم، ابن الإمام الصادق، ابن الإمام الباقر، ابن الإمام السجاد، ابن الحسين الشهيد، ابن علي بن أبي طالب، سلام اللَّه عليهم أجمعين.

فهذه عقيدة الشيعة، فهم يطبّقون تلك النقاط الثلاثة المتفق عليها علي هذا المصداق.

فهل هناك حديث عند الجمهور يوافق الشيعة الإماميّة، ويدلّ علي ما تذهب

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 429

إليه الشيعة الإماميّة في هذا التطبيق؟

هل هناك حديث أو أحاديث من طرق أهل السنّة توافق هذا التطبيق وتؤيّده؟

من هنا يشرع البحث بين الشيعة وغيرهم، فهذه عقيدة الشيعة ولهم عليها أدلّتهم من الكتاب والسنّة وغير ذلك، وما بلغهم وما وصلهم عن أئمّة أهل البيت الصادقين سلام اللَّه عليهم.

لكن هل هناك ما يدلّ علي هذا الاعتقاد في كتب أهل السنّة أيضاً، لتكون هذه العقيدة مؤيَّدة ومدعمة من قبل روايات السنّة، ويمكن للشيعة الإماميّة أنْ تلزم أولئك

بما رووا في كتبهم أو لا؟

نعم، وردت روايات في كتب القوم مطابقة لهذا الاعتقاد، إذن، يكون هذا الاعتقاد متفقاً عليه حسب الروايات، وإن لم يكن القوم يعتقدون بهذا الاعتقاد بحسب الأقوال، إلّاأنّا نبحث أوّلًا عن العقيدة علي ضوء الأدلّة، ثمّ علي ضوء الأقوال والآراء، فلنقرأ بعض تلك الروايات:

الرواية الأُولي : قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «لو لم يبق من الدنيا إلّايوم واحد لطوّل اللَّه عزّوجلّ ذلك اليوم حتّي يبعث فيه رجلًا من ولدي، اسمه اسمي، فقام سلمان الفارسي فقال: يا رسول اللَّه، من أيّ ولدك؟ قال: من وَلَدي هذا.

وضرب بيده علي الحسين».

هذه الرواية في المصادر عن أبي القاسم الطبراني «1»، ومحب الدين الطبري «2»، وأبي نعيم الإصفهاني «3»، وابن قيّم الجوزية «4»، ويوسف بن يحيي

__________________________________________________

(1) المعجم الكبير 10/ 166 رقم 10222 باختلاف.

(2) ذخائر العقبي في مناقب ذوي القربي : 136 باب ما جاء ان المهدي من ولد الحسين.

(3) الأربعون حديثاً في المهدي، وقد رواه عنه العلماء بالأسانيد.

(4) المنار المنيف في الصحيح والضعيف: 148.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 430

المقدسي «1»، وشيخ الإسلام الجويني «2»، وابن حجر المكي صاحب [الصواعق ] «3».

الحديث الثاني: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم لبضعته الزهراء سلام اللَّه عليها وهو في مرض وفاته: «ما يبكيك يا فاطمة، أما علمت أنّ اللَّه اطّلع إلي الأرض إطّلاعة أو اطْلاعة فاختار منها أباك فبعثه نبيّاً، ثمّ اطّلع ثانية فاختار بعلك، فأوحي إليّ فأنكحته إيّاك واتّخذته وصيّاً، أما علمت أنّكِ بكرامة اللَّه إيّاك زوّجك أعلمهم علماً، وأكثرهم حلماً، وأقدمهم سلماً، فضحكت واستبشرت، فأراد رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم أن يزيدها مزيد الخير، فقال لها: ومنّا مهدي الأُمّة الذي يصلّي عيسي خلفه، ثمّ ضرب علي منكب الحسين

فقال: من هذا مهدي الأُمّة».

وهذا الحديث رواه كما في المصادر: أبو الحسن الدارقطني، أبو المظفر السمعاني، أبو عبداللَّه الكنجي، وابن الصبّاغ المالكي «4».

الحديث الثالث: قوله صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم: «يخرج المهدي من ولد الحسين من قبل المشرق، لو استقبلته الجبال لهدمها واتّخذ فيها طرقاً».

وهذا الحديث كما في المصادر عن نعيم بن حمّاد، والطبراني، وأبي نعيم، والمقدسي صاحب كتاب [عقد الدرر في أخبار المنتظر] «5».

__________________________________________________

(1) عقد الدرر في أخبار المنتظر: 56.

(2) فرائد السمطين 2/ 325 رقم 575 عن حذيفة بن اليمان.

(3) الصواعق المحرقة: 249 و ما بعدها.

(4) البيان في أخبار صاحب الزمان للكنجي الشافعي: 502 (ضمن كفاية الطالب)، الفصول المهمة في معرفة الأئمة: 296.

(5) الفتن لنعيم بن حمّاد 1/ 271 رقم 1095، عقد الدرر في أخبار المنتظر: 223 عن الطبراني وأبي نعيم، وأنظر: الحاوي للفتاوي 2/ 66 عن ابن عساكر.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 431

هذا بحسب الروايات.

وأمّا بحسب أقوال العلماء المحدّثين والمؤرّخين والمتصوفين، هؤلاء أيضاً يصرّحون بأنّ المهدي ابن الحسين، أي من ذريّة الحسين، ويضيفون علي ذلك أنّه ابن الحسن العسكري، وأيضاً هو مولود وموجود، هؤلاء عدة كبيرة من العلماء من أهل السنّة في مختلف العلوم، أذكر أشهرهم:

أحمد بن محمّد بن هاشم البلاذري، المتوفي سنة 279.

أبو بكر البيهقي، المتوفي سنة 458.

ابن الخشّاب، المتوفي سنة 567.

ابن الأزرق المؤرخ، المتوفي سنة 590.

ابن عربي الأندلسي صاحب الفتوحات المكية، المتوفي سنة 638.

ابن طلحة الشافعي المتوفي سنة 653.

سبط ابن الجوزي الحنفي، المتوفي سنة 654.

الكنجي الشافعي، المتوفي سنة 658.

صدر الدين القونوي، المتوفي سنة 672.

صدر الدين الحموي، المتوفي سنة 723.

عمر بن الوردي المؤرخ الصوفي الواعظ، المتوفي سنة 749.

صلاح الدين الصفدي صاحب الوافي بالوفيات، المتوفي سنة 764.

شمس الدين ابن الجزري، المتوفي سنة 833.

ابن الصبّاغ

المالكي، المتوفي سنة 855.

جلال الدين السيوطي، المتوفي سنة 911.

عبدالوهاب الشعراني الفقيه الصوفي، المتوفي سنة 973.

ابن حجر المكي، المتوفي سنة 973.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 432

علي القاري الهروي، المتوفي سنة 1013.

عبدالحق الدهلوي، المتوفي سنة 1052.

شاه ولي اللَّه الدهلوي، المتوفي سنة 1176.

القندوزي الحنفي، المتوفي سنة 1294.

فظهر إلي الآن:

أوّلًا: أنّ المهدي عليه السّلام من هذه الأُمّة.

ثانياً: المهدي عليه السّلام من بني هاشم.

ثالثاً: المهدي عليه السّلام من عترة النبي صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

رابعاً: المهدي عليه السّلام من ولد فاطمة عليها السّلام.

خامساً: المهدي عليه السّلام من ولد الحسين عليه السّلام.

ولكلّ واحد من هذه النقاط: كونه من هذه الأُمّة، كونه من بني هاشم، كونه من عترة النبي، كونه من ولد فاطمة، كونه من ولد الحسين، لكلّ بند من هذه البنود، روايات خاصة، ولم نتعرّض لها لغرض الاختصار.

فانتهينا إذن من الفصل الأول.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 433

الفصل الثاني … ص: 433

هناك بحوث تدور حول رواياتٍ في كتب السنّة تخالف هذا الذي انتهينا إليه، و لربّما اتّخذ بعض العلماء من أهل السنّة ما دلَّت عليه تلك الروايات عقيدةً لهم، ودافعوا عن تلك العقيدة، إلّاأنّنا في بحوثنا حقّقنا أنّ تلك الروايات المخالفة لهذه العقيدة، إمّا ضعيفة سنداً، وإمّا فيها تحريف، والتحريف تارةً يكون عمداً، واخري يكون سهواً، وتلك البحوث هي:

أوّلًا: الخبر الواحد الذي ورد في بعض كتبهم في أنّ «المهدي هو عيسي ابن مريم» «1»، فليس من هذه الأُمّة، وإنّما المهدي هو عيسي بن مريم، فالمهدي الذي أخبر به رسول اللَّه في تلك الروايات الكثيرة المتواترة التي دوّنها العلماء في كتبهم، وأصبحت تلك الروايات موضع وفاق بين المسلمين، وأصبحت من ضمن عقائدهم، المراد من المهدي في جميع تلك الروايات هو عيسي بن مريم.

وهذه رواية واحدة فقط

موجودة في بعض كتب أهل السنّة.

وثانياً: الخبر الواحد الذي ورد في بعض كتبهم من أنّ «المهدي من ولد العباس» «2»، فليس من أهل بيت رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم.

__________________________________________________

(1)

المنار المنيف: 129، كنز العمّال 14/ 263 رقم 38656.

(2) المنار المنيف: 136، كنز العمّال 14/ 264 رقم 38663.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 434

وهذا كأنّه وُضِع في زمن بني العباس لصالح حكّام بني العباس.

وثالثا: الخبر الواحد الذي في كتبهم من أنّه «من ولد الحسن» «1»، لا من ولد الحسين.

ورابعاً: الخبر الواحد الذي في بعض كتبهم من أنّ اسم أبي المهدي اسم أبي النبي «2»، وأبو النبي اسمه عبداللَّه، فلا ينطبق علي المهدي ابن الحسن العسكري سلام اللَّه عليهما، فتكون رواية مخالفة لما ذكرناه واستنتجناه من الأدلة.

وخامساً: ما عزاه ابن تيميّة إلي الطبري وابن قانع من «أنّ الحسن العسكري قد مات بلا عقب» «3» وإذا كان الحسن العسكري قد مات بلا عقب، فليس المهدي ابن الحسن العسكري.

فهذه بحوثٌ لابدّ من التعرّض لها وإثبات ضعف هذه الأحاديث المخالفة، أو إثبات أنّها روايات محرّفة.

أمّا ما نسبه ابن تيميّة إلي الطبري صاحب التاريخ، وإلي ابن قانع، فهو كذب، وقد حققته بالتفصيل في بعض مؤلفاتي.

وأمّا بالنسبة إلي البحوث الأُخري ، فلو أردنا الدخول في تحقيقها، لاحتجنا إلي وقت إضافي، فإن شاء اللَّه تعالي بعد أن أُكمل البحث في هذه الليلة في الفصل الثالث، إن بقي من الوقت شي ء، ندخل في هذه البحوث لغرض التفصيل، وإلّا فلا ضرورة.

وحينئذ نصل إلي الفصل الثالث.

__________________________________________________

(1) المنار المنيف: 131.

(2) كنز العمّال 14/ 268 ح 38678.

(3) منهاج السنّة 1/ 122 و 4/ 87.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 435

الفصل الثالث … ص: 435

الأسئلة:

السؤال الأول: مسألة طول العمر؟

السؤال الثاني: لماذا هذه الغيبة؟

السؤال الثالث:

ما الفائدة من إمام غائب؟

السؤال الرابع: أين يعيش المهدي؟

السؤال الخامس: متي يظهر؟

السؤال السادس: ما هو تكليف المؤمنين تجاهه وتجاه الأحكام الشرعية في زمن الغيبة؟

السؤال السابع: ما هي الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره؟

السؤال الثامن: مسألة الرجعة؟

وقد تكون هناك أسئلة أُخري .

ولابدّ من الإجابة علي هذه الأسئلة ولو بنحو الإجمال، لئلّا يبقي البحث ناقصاً.

أقرأ لكم عبارة السعد التفتازاني أوّلًا، وندخل في البحث ونشرع في الجواب عن هذه الأسئلة ولو بنحو الإجمال كما ذكرت.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 436

يقول السعد التفتازاني «1»: زعمت الإمامية من الشيعة أنّ محمّد بن الحسن العسكري اختفي عن الناس خوفاً من الأعداء، ولا استحالة في طول عمره كنوح ولقمان والخضر عليه السّلام.

يقول: وأنكر ذلك سائر الفرق، لأنّه ادّعاء أمر مستبعد جدّاً، ولأنّ اختفاء إمامٍ هذا القدر من الأنام بحيث لا يذكر منه إلّاالاسم، بعيد جدّاً، ولأنّ بعثه مع هذا الاختفاء عبث، ولو سلّم، فكان ينبغي أنْ يكون ظاهراً، فما قيل أو فما يقال: إنّ عيسي يقتدي بالمهدي أو بالعكس شي ء لا مستند له، فلا ينبغي أنْ يعوّل عليه (2).

هذا غاية ما توصّل إليه متكلّمهم سعد الدين التفتازاني.

أقول: إن تطرح هذه الأسئلة كبحوثٍ علمية ومناقشات، فلا مانع، ويا حبّذا لو تطرح كذلك ويلتزم فيها بالآداب والأخلاق والمتانة، ولا يكون هناك شتم وسبّ وتهجّم وتهريج واستهزاء، وهكذا فعل بعض العلماء وبعض الكتّاب المعاصرين.

إلّا أنّا إذا راجعنا [منهاج السنّة] وجدناه في فصل البحث عن المهدي قد ملأ كتابه حقداً وبغضاً وعناداً وسبّاً وشتماً وتهريجاً وتكذيباً للحقائق!!! بحيث لو أنّكم أخرجتم من كتاب منهاج السنّة ما يتعلّق بالمهدي وما اشتمل عليه من السبّ والشتم لجاء كتاباً مستقلًا.

وقد تبعه أولياؤه في هذا المنهج من كتّاب زماننا وفي خصوص

المهدي سلام اللَّه عليه واعتقاد الشيعة في المهدي، تراهم يتهجّمون ويسبّون وينسبون إلينا الأكاذيب، ويخرجون عن حدود الآداب، ومع الأسف يكون لكتبهم قرّاء ومن يروّج لها في بعض الأوساط.

والحقيقة، إنّه إنْ يشك الباحث في أحاديث المهدي، أو يُناقش في أحاديث

__________________________________________________

(1) (- 2) شرح المقاصد 5/ 313.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 437

«الأئمّة الإثنا عشر»، أو لا يرتضي حديث «من مات ولم يعرف إمام زمانه»، فهذا له وجه، بمعني أنّه يقول: بأنّي لا أُوافق علي صحّة هذه الأحاديث، فيبقي علي رأيه، ولا يتكلّم معه إن لم يقتنع بما في الكتب، لا سيّما بروايات أبناء مذهبه.

وأمّا بناء علي قبول هذه الأحاديث لكونها مخرّجة في الصحاح، وفي السنن، والمسانيد، والكتب المعتبرة، وأنّها أحاديث متفقّ عليها بين المسلمين، وأنّ الاعتقاد بالمهدي عليه السّلام أو الاعتقاد بالإمام في كلّ زمان واجب، وأنّ المهدي هو الثاني عشر في الحديث المعروف المتفق عليه، فيكون البحث بنحو آخر، لأنّه إنْ كان الباحث موافقاً علي هذه الأحاديث، وعلي ماورد من أنّ المهدي ابن الحسن العسكري، فلا محالة يكون معتقداً بولادة المهدي عليه السّلام، كما اعتقدوا، وذكرنا أسماء كثيرين منهم.

نعم، منهم من يستبعد طول العمر، بأنْ يبقي الإنسان هذه المدّة في هذا العالم، وهذا مستبعد كما عبّر السعد التفتازاني، فإن التفتازاني لم يكذّب ولادة المهدي من الحسن العسكري سلام اللَّه عليه، وإنّما استبعد أن يكون الإمام باقياً هذه المدة من الزمان، ولذا نري بعضهم يعترف بولادة الإمام عليه السّلام ثمّ يقول:

«مات»، يعترف بولادته بمقتضي الأدلّة الموجودة، لكنّه يقول بموته، لعدم تعقّله بقاء الإنسان في هذا العالم هذا المقدار من العمر، لكن هذا يتنافي مع «من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية»، حيث قرّرنا أنّ

هذا الحديث يدلّ علي وجود إمام في كلّ زمان.

ولذا نري البعض الآخر منهم يلتفت إلي هذه النواحي، فلا يقول مات، بل يقول: «لا ندري ما صار»، وُلِد، إلّاأنّه لا ندري ما صار، وما وقع عليه، فلا يعترف ببقائه، لأنّه يستبعد البقاء هذه المدة، ولا ينفي البقاء لأنّه يتنافي مع الأحاديث، ممّا يظهر أنّهم ملتزمون بهذه الأحاديث، ومن التزم بهذه الأحاديث لابدّ وأن يلتزم

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 438

بولادة المهدي عليه السّلام ووجوده.

ثمّ الاستبعاد دائماً وفي كلّ شي ء، وفي كلّ أمر من الأُمور، الاستبعاد يزول إنْ حدث له نظير، لو أنّك تيقّنت عدم شي ء أو عدم إمكان شي ء فوقع فرد واحد ومصداق واحد لذلك الشي ء، ذلك الاعتقاد بالعدم الذي كنت تجزم به مائة بالمائة سيكون تسعين بالمائة، لوقوع فرد واحد، فإذا وقع فرد آخر، وإذا وقع فرد ثالث، ومصداق رابع، هذا الاعتقاد الذي كان مائة بالمائة ثمّ أصبح تسعين بالمائة، ينزل علي ثمانين، وسبعين، وإلي خمسين وتحت الخمسين، فحينئذٍ، نقول للسعد التفتازاني:

إنّ اللَّه سبحانه وتعالي أمكنه أنْ يعمّر نوحاً هذا العمر، أمكنه أن يبقي خضراً في هذا العالم هذا المدة، أمكنه سبحانه وتعالي أنْ يبقي عيسي في السماء هذه المدّة، الذي هو من ضروريات عقائد المسلمين، ومن يمكنه أنْ ينكر وجود عيسي؟! وأيضاً: في رواياتهم هم يثبتون وجود الدجال الآن، يقولون بوجوده منذ ذلك الزمان، فإذا تعدّدت الأفراد، وتعدّدت المصاديق، وتعدّدت الشواهد، يقلّ الاستبعاد يوماً فيوماً، وهذه الاكتشافات والاختراعات التي ترونها يوماً فيوماً تبدل المستحيلات إلي ممكنات، فحينئذ، ليس لسعد التفتازاني وغيره إلّاالاستبعاد، وقد ذكرنا أنّ الاستبعاد يزول شيئاً فشيئاً.

يمثّل بعض علمائنا ويقول: لو أنّ أحداً ادّعي تمكّنه من المشي علي الماء، سيكذّبه الحاضرون، وكلّ من

يسمع هذه الدعوي يقول: هذا غير ممكن، فإذا مشي علي الماء وعبر النهر مرّةً، يزول الاستغراب أو الاستبعاد من السامعين بمقدار هذه المرّة، فإذا كرّر هذا الفعل وكرّره وكرّره أصبح هذا الفعل أمراً طبيعياً وسهل القبول للجميع، حينئذ هذا الاستبعاد يزول بوجود نظائر ذلك.

إلّا أنّ ابن تيميّة ملتفت إلي هذه الناحية، فيكذّب أصل حياة الخضر ويقول

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 439

بأنّ أكثر العلماء يقولون بأنّ الخضر قد مات «1»، فيضطرّ إلي هذه الدعوي ، لأنّ هذه النظائر إذا ارتفعت رجع الاستبعاد مرة أُخري .

لكنّك إذا رجعت مثلًا إلي [الإصابة] لابن حجر العسقلاني «2» لرأيته يذكر الخضر من جملة الصحابة، ولو رجعت إلي كتاب [تهذيب الأسماء واللغات ] للحافظ النووي «3» الذي هو من علماء القرن السادس أو السابع يصرّح: بأنّ جمهور العلماء علي أنّ الخضر حي، فكان الخضر حيّاً إلي زمن النووي، وإذا نزلت شيئاً فشيئاً تصل إلي مثل القاري في [المرقاة] وتصل إلي مثل [شرح المواهب اللدنيّة]، هناك يصرّحون كلّهم يبقاء الخضر إلي زمانهم، وحتّي أنّهم ينقلون قصصاً وحكاياتٍ ممن التقي بالخضر وسمع منه الأخبار والروايات.

فحينئذٍ تكذيب وجود الخصر من قبل ابن تيميّة إنّما هو لعلةٍ ولحساب، وهو يعلم بأنّ وجود الخضر خير دليل علي أنّ هذا الاستبعاد ليس في محلّه.

علي أنّ اللَّه وتعالي إذا اقتضت الحكمة أنْ يبقي أحداً في هذا العالم آلاف السنين، إذا اقتضت الحكمة، فقدرته سبحانه وتعالي تطبّق تلك الإرادة، ومشيّته تطبَّق، وهو قادر علي كلّ شي ء.

فمسألة طول العمر أصبحت الآن مسألة بسيطة الحلّ، وصار الجواب عن هذا السؤال سهلًا جداً في مثل زماننا.

وأمّا أنّ الإمام عليه السّلام متي يظهر، وأنّه سلام اللَّه عليه كيف يستفاد منه في زمن الغيبة؟

يقول ابن تيميّة وأيضاً

يقول السعد التفتازاني: بأنّ المهدي لم يبق منه إلّا

__________________________________________________

(1) منهاج السنّة 4/ 93.

(2) الإصابة 1/ 429.

(3) تهذيب الأسماء واللغات 1/ 176 رقم 147.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 440

الإسم، ولم ينتفع منه أحد حتّي القائلون بوجوده.

وهؤلاء لا يعلمون، لأنّ هذه الأُمور لا يتوصّلون إليها ولا يمكنهم الاطّلاع عليها، إنّ الثقات من أبناء هذه الطائفة من علماء وغير علماء، لهم قضايا وحوادث وقصص وحكايات، تلك القضايا الثابتة المروية عن طرق الثقات مدوّنة في الكتب المعنيّة، وكم من قضية رجع الشيعة، عموم الشيعة، أو في قضايا شخصية، رجعوا إلي الإمام عليه السّلام وأخذوا منه حلّ تلك القضية ورفع تلك المشكلة، إلّا أنّ أعداء الأئمّة سلام اللَّه عليهم والمنافقين لا يوافقون علي مثل هذه الأخبار، وطبيعي أن لا يوافقوا، ومن حقّهم أن لا يعتقدوا.

مضافاً، إلي أنّ اللَّه سبحانه وتعالي إنّما ينصب الإمام في كلّ أُمّة، ويرسل الرسول إلي كلّ أُمّة، ليتمّ به الحجة، وكم من نبي قتلوه في أوّل يوم من نبوّته ودعوته، وكم من رسول صلبوه في اليوم الأوّل من رسالته، وكم من الأنبياء حاربوهم وشرّدوهم وطردوهم، أيمكن أن يقال للَّه سبحانه وتعالي : بأنّ إرسالك هؤلاء الرسل والأنبياء كان عبثاً!!

وأمّا أين يعيش؟

فأين يعيش الخضر؟ نحن نسأل القائلين ببقاء الخضر وغير الخضر- ممّن يعتقدون بحسب رواياتهم بقاءهم- هؤلاء أين يعيشون؟ وهذه ليست مسألة مهمة، إنّ الإمام أين يعيش!

وأمّا الحوادث الكائنة عند ظهوره وبعد ظهوره؟

فتلك حوادث وقضايا مستقبلية وردت بها أخبار، وتلك الأخبار مدوّنة في الكتب المعنية.

والشي ء الذي أراه مهمّاً من الناحية الاعتقادية والعملية، وأرجو أنْ تلتفتوا إليه، فلربّما لا تجدونه مكتوباً وفي مكان لا تسمعونه من أحد كما أقوله لكم:

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 441

لاحظوا إذا كانت غيبة الإمام

عليه السّلام لمصلحةٍ أو لسبب، ذلك السبب إمّا وجود المانع وإمّا عدم المقتضي، غيبة الإمام عليه السّلام إمّا هي لعدم المقتضي لظهوره، أي لعدم وجود الأرضية المناسبة لظهوره، أو لوجود الموانع عن ظهوره.

وجود الموانع وعدم المقتضي، كان السبب في غيبة الإمام عليه السّلام، هذا واضح.

إنّا لا نعلم أنّ المانع متي يرتفع، ولا نعلم أنّ المقتضي متي يتحقق ويحصل، ولذا ورد في الروايات: «إنّما أمرنا بغتة» «1».

فظهور الإمام عليه السّلام متي يكون؟

حيث لا يكون مانع وتتمّ المقدمات والأرضية المناسبة لظهوره.

وهذا متي يكون؟

العلم عند اللَّه سبحانه وتعالي ، فيمكن أن يكون غداً، ويمكن أن يكون بعد غد، وهكذا، فهذا نقطة.

والنقطة الثانية: إنّ في رواياتنا أنّ حكومة المهدي ستكون مثل حكومة داود عليه السّلام، إنّه يحكم بحكم داود عليه السّلام، رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم قال: إنّما أقضي بينكم بالبيّنات والأيمان وبعضكم ألحن بحجّته من بعض، وأيّما رجل قطعت له قطعة فإنّما أقطع له قطعة من نار» «2».

أوضّح لكم هذه الرواية: رسول اللَّه صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم كان إذا تخاصم إليه رجلان، علي دارٍ أو أرض أو علي أيّ شي ء آخر، يطلب من المدعي البيّنة، وحينئذ إنْ أقام البيّنة أخذ الشي ء من المدعي عليه وسلّمه إلي المدعي، وهذا

__________________________________________________

(1) المزار للشيخ المفيد: 9، الاحتجاج للطبرسي 2/ 324.

(2) الكافي 7/ 414 رقم 1، باختلاف بالألفاظ.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 442

الحكم يكون علي أساس البيّنة، يقول رسول اللَّه: إنّما أقضي بينكم بالبيّنة، أمّا إذا كانت البيّنة كاذبة والمدعي أقامها وعن هذا الطريق تملّك الشي ء، فليعلم بأنّ الشي ء المأخوذ هذا قطعة من النار، أنا وظيفتي أنْ أحكم بينكم بحسب البيّنة، وأنت أيّها المدعي إنْ كنت تعلم بينك وبين ربّك أنّ الشي ء

ليس لك، فلا يجوز لك أخذه وتملّكه.

إذن، يكون حكم رسول اللَّه والحكم الإسلامي علي أساس القواعد المقرّرة، وهذه هي الأدلة الظاهرية المعمول بها.

فإذا جاء المهدي سلام اللَّه عليه، لا يأخذ بهذه القواعد والأحكام الظاهرية، وإنّما يحكم طبق الواقع، فإذا جاء ورأي أنّ الشي ء الذي بيدي وهذا الشي ء الذي بحوزتي هو لزيد، أخذه منّي وأرجعه إلي زيد، وإذا علم أنّ هذه الدار التي أسكنها ملك لعمرو أخذها منّي وأرجعها إلي عمرو، فكلّ حقّ يرجع إلي صاحبه بحسب الواقع.

وعلي هذا، إذا كان الإمام عليه السّلام ظهوره بغتة، وكان حكمه بحسب الواقع، فنحن ماذا يكون تكليفنا فيما يتعلّق بنا في شؤوننا الداخلية والشخصية؟

في أمورنا الاجتماعية؟ في حقوق اللَّه سبحانه وتعالي علينا؟ وفي حقوق الآخرين علينا؟ ماذا يكون تكليفنا وفي كلّ لحظةٍ نحتمل ظهور الإمام عليه السّلام، وفي تلك اللحظة نعتقد بأنّ حكومته ستكون طبق الواقع لا علي أساس القواعد الظاهرية؟ حينئذ، ماذا يكون تكليف كلّ فرد منّا؟

وهذا معني «أفضل الأعمال انتظار الفرج» «1».

وهذا معني ما ورد في الروايات من أنّ الأئمّه (سلام اللَّه عليهم) كانوا ينهون

__________________________________________________

(1) الخصال للصدوق: 616.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 443

الأصحاب عن الاستعجال بظهور الإمام عليه السّلام، إنّما كانوا يأمرون ويؤكّدون علي إطاعة الإنسان لربّه، وأن يكون مستعدّاً لظهور الإمام عليه السّلام.

وبعبارة أُخري : مسألة الانتظار، ومسألة ترقب الحكومة الحقة، هذه المسألة خير وسيلة لإصلاح الفرد والمجتمع، وإذا صَلُحنا فقد مهّدنا الطريق لظهور الإمام عليه السّلام، ولأن نكون من أعوانه وأنصاره.

ولذا أمرونا بكثرة الدعاء لفرجهم، ولذا أمرونا بالانتظار لظهورهم، هذا الانتظار معناه أن يعكس الإنسان في نفسه ويطبّق علي نفسه ما يقتضيه الواقع، قبل أن يأتي الإمام عليه السّلام ويكون هو المطبِّق، ولربّما يكون هناك شخص

يواجه الإمام عليه السّلام ويأخذ الإمام منه كلّ شي ء، لأنّ كلّ الأشياء التي بحوزته ليست له، وهذا ممكن.

فإذا راقبنا أنفسنا وطبّقنا عقائدنا ومعتقداتنا في سلوكنا الشخصي والاجتماعي، نكون ممهّدين ومساعدين ومعاونين علي تحقّق الأرضية المناسبة لظهور الإمام عليه السّلام.

وتبقي كلمة سجّلتها عن الإمام أمير المؤمنين عليه السّلام بهذه المناسبة، يقول الإمام عليه السّلام- كما في [نهج البلاغة]-: «ولا تستعجلوا بما لم يعجّله اللَّه لكم، فإنّه من مات منكم علي فراشه وهو علي معرفة حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته، مات شهيداً» «1».

وعندنا في الروايات: أنّ من كان هكذا ومات قبل مجي ء الإمام عليه السّلام مات وله أجر من كان في خدمته وضرب بالسيف تحت رايته.

يقول الإمام عليه السّلام: «فإنّه من مات منكم علي فراشه وهو علي معرفة

__________________________________________________

(1) نهج البلاغة: 282- 283، الخطبة 190.

محاضرات في الاعتقادات، ج 1، ص: 444

حقّ ربّه وحقّ رسوله وأهل بيته مات شهيداً، ووقع أجره علي اللَّه، واستوجب ثواب ما نوي من صالح عمله، وقامت النيّة مقام إصلاته لسيفه، فإنّ لكلّ شي ء مدّة وأجلًا» «1».

ففي نفس الوقت الذي نحن مأمورون بالدعاء بتعجيل الفرج، فنحن مأمورون أيضاً بتهيئة أنفسنا، وللاستعداد الكامل لأن نكون بخدمته، وإذا عمل كلّ فرد منّا بوظائفه، وعرف حقّ ربّه عزوجل وحقّ رسول صلّي اللَّه عليه وآله وسلّم وحقّ أهل بيته عليهم السّلام، فقد تمّت الأرضية المناسبة لظهوره عليه السّلام، ولا أقل من أنّا أدّينا تكاليفنا ووظائفنا تجاه الإمام عليه السّلام.

وكنت أقصد أن أُلخّص البحث في بعض الجهات الأُخري حتّي أُوفّر وقتاً لهذه النقطة الأخيرة التي بيّنتها لكم، وذكرت لكم الدليل البرهاني العقلي والروائي علي وجوب الالتزام العملي علي كلّ واحد منّا بوظائفه تجاه ربّه وتجاه رسوله وتجاه أهل بيت الرسول

عليهم السّلام.

نسأل اللَّه سبحانه وتعالي أن يعرّفنا حقّه، وأن يعرّفنا حقّ رسوله، وأن يعرّفنا حقّ الأئمّة الأطهار، وأن يعرّفنا حقّ إمامنا، وأنْ يوفّقنا لأداء الوظائف والتكاليف الملقاة علي عواتقنا.

وصلّي اللَّه علي محمّد وآله الطاهرين.

__________________________________________________

(1) تأويل الآيات: 642، البحار 52/ 144 ح 63.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.